الظاهرة (الجبورية) وتجليات الأنيما تناغماً مع الخطاب الحماسي


أحمد الشيخاوي*



خاص ( ثقافات )

كغيضٍ لفيض يمكن تحصيله من التجربة الشعرية الريادية للدكتور عبد الجبار الجبوري، إجمالاً، نبض أقوى نصوصه بحس الانتصاف للصوت الأنثوي الدفين، حدّ إشباع الذات بما يمنحها تعويضات نسبية عن لحظات الاشتعال حنيناً إلى الحبيبة والوطن ووشائج القرابة ومنظومة ما يظل على علائق وجدانية بتفاصيل الهوية والانتماء.

فلنبحر جميعاً إذن… في ظلال وإيحاءات إحدى قصائد شاعرنا، المدهشة والمنتقاة لاعتبارات عدّة أهمها احترافية الاشتغال على تيمة “الأنيما” باعتبارها قاعدة ومعطى جوهرياً مخوّلاً للتناسلات الدلالية للمعنى المضاد والمكسّر لروتين بياض المنفى والعزلة والقلق والشك.
لذا سنكتشف في مقاربتنا لنص “لست أنت” بعض أوجه أسرار بناء عوالم البوح كتعرية وفضح للمعاناة على أسس إقحام ومضي شذري يتوالى ويتسلسل ويتنوع ويتوزع حسب الحاجة، مشكلاً فواصل شعرية جردها مزدحمة ومكتظة ومتلاحمة، يتم بغرض الإحالة على إكراهات راهننا الآلي اللاهث المنعكس سلباً على الحالة الإنسانية.
الشيء الذي يُفسح لتفشي متتالية إفرازات سيكولوجية تحقّق معادلة “يونغ”
لست أنت..
لهذه العنونة فلسفة ما موحية بكون سياق النفي الوارد فيها ذا جذور منتهية بماهية صامتة رهينة بتفجيرها في متن القصيدة.
وهي تقنيات وأدوات اعتاد الشاعر تطويعها بغية خلع وتمزيق أقنعة الخواطر النصية وإبراز أيقونة معاني هواجس غياب الحبيبة ومغامرة إدمان الكتابة والتطبُّع بالهم الوطني وسندبادية مقارعة مناخ الاغتراب.
تكتبني قصائدها على صفحات رمل الغيم،
وجعاً وأغنيةً ونشيداً،
ترسمني من جديد،
تعيد لي طفولتي المعذبة،
أبصرها الآن تنام في حضن المطر.
داخل حدود هذه الفسيفساء الشعرية، يُختلق رهان للذات على تمسكها وتشبثها الواعي، بحطام الذاكرة وذاكرة الحطام، والتأكيد على رفض كل شتى أشكال المساومات في مقومات قد تدخل في إعادة رسم الخصوصية والهوية من جديد.
كون الغائبة لها قصائد يمتزج فيها الوجع بالنشيد. الرمل عبرها كمقابل للغيم، كناية عن قحط التجربة الآنية وجفافها وتكليلها الأبدي والسرمدي برؤى ماطرة مبقية على الأمل مشرعاً مفتوحاً، والقلب نضراً مزهواً باخضرار عشبه، مغذياً لمسيرة حياتية بمحاذاة الحلم بمستقبل وردي زاهر منصف تشوبه حيطة مشروعة تنم عن شخصية عملية فاعلة ومؤثرة تخطط دون كلل لتجاوز المأساة.
ها أنا أبوح لها
وأقول لها أفتقدك كثيراً
يا أحلامي التي سارت بعدك كوابيس مزعجة،
أفتقدك في ضحكة القمر
حين يطلُّ من فلك أزرارك
فتنفتح سماوات الله كلها
على بحر من نور الله المبجّل،
وأكظم فرحي بذلك المطر،
أحاول أصعد جبالاً لم أرَ مثلها 
وأمتشق غصوناً لم أر مثلها
وأقبّل شفاهاً
لم أذق مثل طعم عسلها
وأغرق في سهول وأودية من نار السماء
فلا أرى غير بهاء الليل
يتجسد كله في نور جسدك الذي
تخرج ملائكته مطأطئة
لقدسية اللحظة الغائبة في التيه.
أنا تيهك المعذب فوق أسوار الشمس.
شمسك التي لا تشرق إلا على شفتي

ثمة محاولة إبداعية جنونية من شاعرنا، للإمساك بخيوط لعبة رمزية تُنزّه الحبيبة وتُكسبها هالة ومثالية الغائبة، كما ترتقي بالوطن المطعون باعتماد صور فانتازية تضفي نكهة خاصة على جسد النص وتمنحه ملمحاً ما بعد حداثي باهر وقيمة تعبيرية مضافة.
يحاول ما لم يستطعه أحد قبله، كضرب ولون من التجريب القائمة إيقاعاته على ترديد مفردتي “التيه” و”النور” ضمن ما ينسج لحظة تستمدّ قداستها من غياب الحبيبة كموضوع وحضورها كذات.
يا لها من سويعات الفرح لا تضيء لك’.
يا له البحر غريباً على نافذتك’.
يا له الحب وحيداً على شباك صمتك البعيد’.
يا له قلبي لا يرى غير ضحكتك 
تضيء أيامه الراحلات’.
لهذا كله
أراك لست أنت…

هي سلسلة جمل تفيد صيغ ومواقف التعجب من إسمنتية اللحظة وتحجّرها وبرودتها وتراجيدية ما آل إليه ولم يزل هذا المصير.
ويُغلّب المزاج الحماسي على المكون الروحي ويدفعه باتجاه عوالم تستنسخ وتعيد إنتاج المعاناة وفق خطابات صاخبة تشي بانسجام تام مع المكونات الطبيعية، والآخر كذات ترسم بين المفقود والمنشود أو تحاول ذلك بريشة السهل الممتنع.
كنتيجة طبيعية لروح مثقلة برواسب حنين حي لا يموت، سرعان ما يضرم فتيله تحالف بعاد الحبيبة والوطن.
شاعر وناقد مغربي * 

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *