الصور وإستراتيجيات التأثير


هيثم حسين


يمكن توصيف عالم اليوم في جزء منه بعالم الصورة الحيّة، فكلّ حدث هو موضوع وصورة في الوقت نفسه، تؤرشفه ذاكرة آلات التصوير وتبقيه حيّا، حتّى صور الموتى والراحلين ولقطاتهم المأخوذة تبقى محتفظة بحيويّتها وجدّتها وتأثيرها، وربّما تكتسب أصالة مع التقدّم في الزمن.

يمكن لصورة أن تشكّل آراء أو تغيّر تصوّرات، كما يمكنها أن تبلور صورا وتساهم في خلق مواقف مضادّة أو مساندة للقضايا التي تطرحها، كما حصل مع الطفل السوريّ الغريق آلان، الصورة التي تحوّلت إلى أيقونة في حدّ ذاتها.
أصبحت الصورة موضوع دراسة وبحث لدى كثير من الأدباء والباحثين، منهم الأميركية سوزان سونتاغ في كتابها “حول الفوتوغراف” التي عالجت دور الصور الفوتوغرافية وتأثيراتها في الحياة الواقعية والاجتماعية، وذلك عبر تقصي أثرها منذ اكتشاف آلة التصوير وحتى الوقت الحاضر، مرورا بالمنعطفات التي مرت بها، والتطورات والتغيرات الحاصلة والتي أدخلتها بدورها على المجتمعات، وذهنيات أبنائها في مختلف الأزمنة والأمكنة.
أقرّت سونتاغ أن عادة الجنس البشري أن يجد متعة بالغة في محض صور من الحقيقة، وتؤكد أنّ الاختراع الذي بدأ سنة 1839 غيّر النظرة للزمن من بعده، فقد صار كل شيء مصورا فوتوغرافيا، أو يبدو هكذا. كما تعتقد أن هذا النهم المطلق للعين الفوتوغرافية يغير من فترات الحبس في العالم الذي تنعته بالكهف. وتجد أنه بتعليمنا شيفرة بصرية جديدة بدلت الصور الفوتوغرافية ووسعت من مفاهيمنا عما هو جدير بالنظر وحول حقنا في المراقبة. تطلق عليها قواعد أو أخلاقيات الرؤية.
لايخفى أنّ التقاط الصور طريقة للتصديق على تجربة، وهو أيضا طريقة لرفضها، كما تقول سونتاغ التي تجزم أنّ للتصوير الفوتوغرافي سمعة مشبوهة بكونه أكثر الفنون واقعية، وبالتالي أكثرها سهولة، بين الفنون التي تتسم بالتقليد والمحاكاة. وأنه في الواقع الفن الوحيد الذي نجح في مواصلة التهديدات الهائلة لأكثر من قرن، بالاستيلاء على الحساسية العصرية، في الوقت الذي خرج فيه المرشحون الأصليون من حلبة السباق. وتكتب أنه بخلاف مواضيع الفن الجميل لعصر ما قبل الديمقراطية، لم يبد على الصورة أنها مدينة بالفضل إلى مقاصد الفنان، وأنها تدين بوجودها إلى التعاون الحر؛ شبه السحري، بين المصور والموضوع، الذي ينشأ من خلال آلة بسيطة.
تبقى الصورة، كالكلمة، سلاحا ذا حدّين، يمكن أن تجيّر في الانتصار لقضيّة، أو تشويهها، وذلك يعتمد على الزاوية التي يلتقط منها المصوّر، والأرضية التي ينطلق منها، ولاشكّ أنّ العدسة تخضع لاعتبارات حاملها، وترى ما تراه عينه، أو ما يودّ أن ينقله كرسائل منه، ومساهمة في إستراتيجيّة التأثير وبلورة الصور المنشودة.
العرب

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *