السؤال الصعب


ابراهيم صموئيل


لم أكن أحسب -بعد فراغي من قراءة مخطوط رواية لأحد أصدقائي- أن أجد نفسي مُحرجا ومرتبكا على النحو الذي ظهرتُ عليه أمامه! إذ بعدما التقينا وتحاورنا مطولا، وبالصراحة التامة، عن كل كبيرة وصغيرة في روايته، وأشبعنا النص تمحيصا وتعليقات.. باغتني بسؤال لم أستطع الإجابة عليه، ولا المساهمة بالجواب.
كان صديقي -الكاتب والمخرج المسرحي- قد سُجن لسنوات طويلة، فجاءت محنة اعتقاله كي تشحن روحه بطاقة كبيرة، وتزود خبرته الأدبية بتجربة إنسانية كاوية وغنية، ولذا طفق -عقب إطلاق سراحه- يكتب روايته التي ولدت في ذهنه، وتخمرت في وجدانه “من افتتاحيتها إلى خاتمتها: كلمة كلمة، وعاما بعد عام، على مدار سنوات الجحيم المريرة تلك التي قضيتها في السجن”، كما قال.
تصفية حساب
موضوع الرواية تناول بشكل صريح بنية النظام الاستبدادي في البلد، واستعباد الناس، وتأليه الحاكم الفرد، وما يتعلق بهذا الموضوع مما بات معروفا. وقد جاء عمله محمولا على لغة رشيقة، عميقة، وموحية، ومن خلال بنية سردية جديدة ومجتهدة، أفاد في تركيبها، وتقطيعها، ورسم خطوط مسارها، ولوحات مشاهدها، وحيوية حوار شخوصها من تجربته المسرحية، فضلا عن خبرة الكتابة لديه.
” لكن الشغل الفني هذا لم يوارب، ولا هو خفف مشاعره المتقدة، سواء إزاء السلطة المهيمنة، والمُفقِرة، والمذلة للناس، أو إزاء ما عانى شخصيا من سحل روحي خلال سنوات السجن الطويلة تلك، فجاءت روايته بمثابة تصفية حساب مع طغيان النظام ورمزه المستبد، وكذا “تصفية حساب مع حلمي القديم برواية أبذل فيها كل ما أملك من جهد وعناية، وكل ما أرنو إليه من عالم الكتابة والفنون”، وفق تعبيره.
وكما أشرت، في ختام لقائنا طرح سؤاله المُربك والمُحرج، فقال: أوافقك على ملاحظتك بأن الرواية تضمنت جرعة زائدة عن الحد في فتح النوافذ والأبواب على المحظورات والممنوعات والخطوط الحمر مما يضعني في عين الخطر.. ولكن تبعات هذه اتركها لي. ما أريد إجابتك عليه: هل تعتقد أن المستوى الفني الذي جاء عليه عملي هذا جدير بأن يضحي المرء بتحمل المخاطر المحتملة جراء نشره؟ ثم أردف قائلا: بصراحة، أعني أن تحقيق حلمي القديم بطرح هذا الموضوع للناس وعلى الملأ لا يكفيني.. لا بد -أيضا وفي الآن نفسه- أن يكون مستوى ما كتبته قد ارتقى فنيا إلى رفعة وجلال ما حلمتُ بالكتابة عنه.
صمتُّ طويلا، ثم طلبت منحي مهلة للجواب، واعدا إياه بأن أكون صادقا وصريحا معه على غرار حديثنا كله. بعدها، عكفتُ على قراءة الرواية من جديد، مركزا انتباهي على إرواء ثقته بي.
ورغم أنها قراءتي الثانية فإن الرواية أمتعتني من جديد، وأدهشني معمارُها، وبنية فصولها المتواشجة من جهة، والمستقلة من جهة أخرى، والتي أفاد في إنشائها من مختلف الفنون التعبيرية من دون تصنع أو إقحام، كما روى نصُّها ما روى من فضائح العنف والتعسف وهدر الأحلام ببراعة فنية ونثر أدبي معبر، من دون نبرة خطابية أو أسلوب وعظي أو فجاجة سياسية مباشرة.
لاعب النرد
ولأكون صادقا مع نفسي، أقول بأن شاغل القيمة الفنية والمستوى الإبداعي لم يكن منفصلا -في ذهني- عن هاجس المخاطر المحتملة على صديقي جراء نشر الرواية، أي أنني لم أكن أمام سؤال أدبي فقط، وإنما أيضا إزاء تساؤل إنساني فيه من المخاطر ما فيه.
ثمة في موضوع الرواية ومضمونها ومسمياتها ما يبعث على القلق حقا، مهما كان البناء الذي جاءت عليه جديدا ومبتكرا ويحمل بصمته الخاصة.
وإلى ذلك كله -وربما أهم منه- ما أدراني، وما أدراه هو نفسه، ما حظ الرواية من الحياة؟ ما صداها بين القراء؟ وما حجم الاهتمام الحقيقي بها لدى النقاد والدارسين؟ وهل من مكان لها بين أكداس ما تلفظه المطابع كل يوم وما يحتل رفوف المكتبات العامة؟ وما أثرها في الحياة الثقافية المحاصرة هي الأخرى بالاستبداد والتهميش؟
ومن حيث نويت التركيز على العمل لأجيب صديقي عما أولاني ثقته بالجواب عليه، وجدتني سارحا مع حالات عديدة جدا تم خلالها تظهير وترويج وتبخير ما لا يستحق، سواء من الأعمال المحلية والعربية، أو من الأجنبية المترجمة، لأسباب وأسباب.
وفي المقابل، فقد جرى التعتيم والتهميش أو الإهمال التام لأعمال إبداعية رفيعة، حتى بات معظمنا يرى ويُقر بأن الإبداع لا يكفي وحده من دون توأمه.. الحظ.
وإذ حملتُ المخطوط واتجهت إلى بيت صديقي، مقدرا أنه ينتظرني، وأن عليّ الإجابة على سؤاله؛ كانت تأكلني الحيرة والتقلقل، لا خشية عليه من التبعات الكارثية شبه المؤكدة في هذا البلد فحسب، وإنما أيضا من اعتقادي الراسخ بأنني في إجابتي الصادقة على ثقته بي، وفي ظل حال المشهد الثقافي الراهن؛ سأكون كمن يرمي النرد، ويلبث مترقبا النتيجة!

العربية نت

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *