الأصالة والمعاصرة.. السؤال الملفق


نجيب نصير *

( ثقافات )




ينتمي “مصطلح” (الأصالة والمعاصرة)، إلى ذلك النوع من الثقافة الشفاهية، التي لا تعلق أية أهمية على المسؤولية المنتجة للخطاب/النص ونتائجه، فهي من ذلك النوع من “الإشكاليات” المتداولة والمتفق وعليها في أوساط الإنتاج الثقافي، حيث تبدو كتهويمة كبرى يتكاثر عليها اللاغطون، ليبدو “المصطلح” نفسه مشروطاً بأوامر منبرية على المتلقي أن يتلقفها شاكراً مكرراً، فهو لن يستو مع الذين يعلمون الذين يحق لهم صنع الإشكاليات وإطلاقها متى شاؤوا، عابثين بالثقة العلمية دون وجل أو اعتراض.
يتألف هذا المصطلح (الأصالة والمعاصرة) من كلمتين، ما أن تسأل عن تعريف إحداهما حتى يأتيك الجواب القاطع إنها عكس الأخرى، وهي ممارسة معرفية اعتدنا عليها في ثقافتنا المتداولة، فما أن نقترح سؤالاً عن أيّ شيء حتى تتم الإجابة عليه على أنه عكس شيء ما، وكفى! وفي مقامنا هذا، هناك مفردتان لا تنتميان إلى نفس الحقل المعرفي، لا تتعاكسان، ولا تتوازيان، ولا تتقاطعان، فالأصالة كلمة تشير إلى حقل علمي سلالي ما، تعبّر عن نقاوته أو هجانته فالتأصيل هو للأصيل والهجين معاً، ولكن الوقع الشفاهي للغتنا يعطي للأصالة أفضلية ما، يجعل منها مفخرة يتم الإرتكان إليها في مفاهيم أخرى، بعيدة أو قريبة (كالهوية مثلاً)، مع أن العلم بكافة فروعه لما يزل يثبت أن الهجين هو الأفضل، كما أنه لما يزل يثبت أن لا شيء أصيل بمعنى النقاء، فجميع الأعراق والسلالات والثقافات ومنتجاتها واللغات والحضارات إلخ، هي مزائج حضارية لا يختلف في اختلاطها علم أو معرفة، وهنا تجدر الإشارة إلى احتمال أن تكون مفردة “الأصالة” مترجمة عن لغة أو لغات أخرى وسارت كخطأ شائع في الخطاب الثقافي الذي لا يخلو من الحماسة، حيث يبدو أنها ترجمت عن (ORIGINAL/أصلي) كصفة للإبداع في تعبير عن الجودة بواسطة معايير التقييم، وهنا يظهر فارق واضح بين بين المفردة ومقاصدها، بحيث تصبح تراثاً تارة وتاريخاً تارة أخرى، وقيماً وهوية وثقافة ومقدسات تارات كثيرة.
على الطرف المقابل لهذا “المصطلح” هناك “المعاصرة”، وهي مفردة تعني الزمن الحالي بالمعنى الإنجازي، أو ما وصل إليه الإنسان من إنتاجات معرفية تنظم حضوره في مجاله الحيوي، حيث اتخذت هذه المفردة معان كثيرة و”مصطلحات” موازية يبدو أغلبها أنه يستحق التأثيم والتثريب، كالغرب، والعولمة، والعالمانية، والإستعمار، والحرية المنفلتة وإلخ .
المأزق الذي يظهر من ترافق مفردتي (الأصالة) و(المعاصرة) لا يكمن فقط في انتمائهما إلى حقلين معرفيين مختلفين فقط، بل في تعاكسهما غير التفاعلي، وعلى الرغم من هذا تمّ صياغة إشكالية جدلية واهية بين المفردتين، دبجت فيها آلاف المقالات والدراسات والكتب، وتداخلت وتصارعت فيها مئات الآراء والتحليلات والمناظرات، وكأنها مسألة (ولربما قضية) مكتملة الأركان، ولكن مخرجات هذا “الإحتدام” لم تستطع الإرتقاء بهذه المسألة قيد أنملة، ـاللهم إلا إذا اعتبرنا الإنتقال من المنبر إلى الطباعة إلى شبكة الأنترنت ارتقاءـ، فليس هناك من استطاع حتى التوفيق بين هاتين المفردتين، أو تحليلهما وتركيبهما للوصول إلى رؤيا جديدة تشي بالإنطلاق إلى احتدام معرفي أرقى، ولما يزل هذا “المصطلح” المعضلة يراوح في مكانه لا يتقدم ولا يتأخر، وكأنه صراع ضرائر ونكايات يتعصب كل فريق إلى مفردة يذود عنها ما استطاع سبيلا، حيث تظهر بجلاء واهية المصطلح وواهية المفردتين المؤلفتين له، فالمصطلح ومفردتيه تضمران من المعاني والشروط ما هوأكثر بكثير، مما يمكن للمفردات المعرفية أن تحتمله، في تخل واضح عن الدقة في استخدام المفردات، حيث تقودنا شفاهيتها إلى تفسيرات وتأويلات هي خارج الموضوع تماماً، حيث تزخر المؤلفات المعنية بالموضوع بالإنتقالات بين المعاني، إذ لا يتردد عالم جليل وبكل راحة ضمير أن يستخدم مفردة تراث (أو غيرها) كبديل عن مفردة أصالة، كما يستخدم كلمة غرب أو عولمة كبديل عن مفردة معاصرة، وهنا يبدو المأزق المشار إليه أكثر وضوحاً، إذ لا مسألة فلسفية محددة وواضحة هنا يجب حلّها، بل شعار يستحسن مقاربته بنقاش يراكم الصفحات من غير نتيجة تذكر، إذ لا نتائج بلا مسائل، ولا يكفي هنا ارتجال أسئلة عبر الإشتقاق اللغوي للحصول على مسألة جديرة بالجدل، ونتوقف عن تكرار نفس الأسئلة على منوال كيفية لحاقنا بالعصر مدعين أننا نفكر جدياً بالإلتحاق به، شرط أن ترافقنا أصالتنا إليه وإلى ما هنالك من أسئلة/شعارات متفرعة جلّها تحاول تفسير الماء بعد الجهد في سني القحط، فلا أصالة أو أصلية، ولا حداثة أو معاصرة دون إنتاج، فالإنتاج الإبداعي الحرّ والجريء هو من يشهر حيوية الشعوب، ويعلنها عبر منافسة ترتقي بالخصومة من العداوة الإلغائية، إلى فنون المشاركة في إعمار هذا العالم.
ليست هناك مسألة معرفية متحققة في معادلة الأصالة والمعاصرة، لذلك تبدو محاولة الإجابة عليها كجهد مهدور وبطائل، يدعو إلى تمترس عقيم وربما كارثي أيضاً.

* إعلامي وناقد من سوريا

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *