محمد بنعزيز
جوناثان ديم (1944)، حكواتيّ النساء، يعود بصلصةٍ سينمائيةٍ مركّزة، مع ميريل ستريب (1949)، في دراما عائلية لأمٍّ تحبّ موسيقى الـ «روك». قدّم ديم حكاية نسائية سابقة في فيلم «صمت الحملان» (1991)، مع «أفيش» سوريالي لفراشة على فمّ جودي فوستر (1962)، التي تقف أمام عمالقة كأنتوني هوبكينز (1937). في الفيلم الجديد Ricki And The Flash (2015)، تظهر ستريب (ليندا) ممثلةً قادرةً على تجديد نفسها بقوّة، بعد تجاوزها الـ 60 عاماً بـ 6 أعوام. نجمةٌ من الصفّ الأول أمام ممثّلين أقلّ شهرة، والبطولة المطلقة لها. نادرةٌ هي اللقطات التي لا تظهر فيها. لكن الأكثر أثراً هو أن الـ «كاستينغ» يجلب ممثلين أثبتوا أنفسهم أمام النجمة، فهم لم ينسحقوا أمامها. هنا، تظهر مهارة المخرج في إدارة الممثلين. يبدو أن ذلك تطلّب تدريباً مُطوّلاً ليتمكّن ديم من أن يستخرج من ممثل مغمور أداءً مميّزاً في لقطة بـ 30 ثانية. النتيجة أن كلّ ممثل يعلق في ذاكرة المتفرّج، مهما كان دوره صغيراً. واضحٌ أن المخرج لم يبحث عن الأداء السهل.
تتبّع الكاميرا جسداً نحيفاً يتأبّط قيثارة، ويتحرّكان بين ثقافتين وفضاءين متناقضين. هذان التناقضان يخترقان الفيلم في مستويات عديدة. تحبّ ليندا موسيقى الـ «روك»، وهو ثورة على الموسيقى الكلاسيكية. ليندا مفلسة، لكن إحساسها بالكرامة عالٍ. تبذل جهداً لتحافظ على المستوى. فنانة في أعماقها بلا أحقاد. تعيش مجد عصر موسيقي ثوري فَقَد بهاءه، لذا تبدو غريبة عن محيطها، ولا تملك الابتسامة الميكانيكية التي تعرضها البائعات في الـ «سوبرماركت». نجمة «روك» مُعمِّرة، على الرغم من أن نجوم الـ «روك» يموتون باكراً، بسبب النمط الصاخب لحياتهم اليومية.
يلتقط المخرج ما يجمع رجلاً وامرأة بعد نهاية العلاقة الجنسية. يغوص في تصوير مرهف لعمق العلاقات الإنسانية. يبدأ بجرد مرارات الماضي وحساباته. في الحساب العسير هذا، كلّ فرد يثق أن الجحيم هو الآخر. لذلك، تُهيمن نزعة انتحارية بالأدوية على الفيلم. يعاني الأفراد فرط استخدام الشخصيات لمعجم الدواء. يصير كلّ فرد يتحدّث كصيدليّ. في لحظات الفرح، هناك بديل فعّال للدواء. في لحظات الصدام، نكتشف خلافات عائلية تمنع تنظيم عشاء حميمي، لأن كلّ ملاحظة شخصية يتبادلها أفراد الأسرة تشبه طعنةً في العنق. كلّ فرد يثق أن الجحيم هو الآخر، ويقوده المخرج نحو فرضية مغايرة تؤكّد وجود فرصة أخرى، شرط أن تعدّل الشخصية موقفها.
هذا عن البشر. لننتقل الآن إلى التناقض القيمي والمكاني الذي أفرز الشخصيات هذه.
يوجز الـ «روك» التاريخ الثقافي لأميركا في النصف الثاني من القرن الـ 20. بما أن للممثلة والمخرج العمر نفسه تقريباً، فإن التقارب العمري هذا يساعدهما على فهم المرحلة، وعلى تجسيدها بفلاشات من سيرة ذاتية مركّبة من قطع فسيفساء عن حرب فيتنام، وعن قيثارة Gibson SG 1968، التي تساعد ليندا على أداء أغان موجعة. لهذا معنى. فموسيقى الـ «روك» تستدعي فترة تمرّد الشباب، واستقلاله. الـ «روك» رمز للتعدّد الثقافي. روافده أفريقية ولاتينية، وفي الفرقة هنود وأفرو ـ أميركيين وبيض يزيّنهم الوشم. يفترض بعاشق الموسيقى هذه أن يكون «كوول» (Cool). توصف ليندا بأنها هكذا. لكن، ما هي حدود ما يُمكن التسامح معه؟ هنا، تنكشف مسألة أنها تجد صعوبة في تقبّل العلاقات المثلية.
يجد التناقض الثقافي هذا تفسيراً له في المكان. ليندا تتنقل بين مكان مغلق ومكان آخر بأفق كوني. تجري الأحداث بين كاليفورنيا وإنديانا بوليس. يحرص المخرج على خلفية تاريخية وسوسيولوجية لأفلامه. المعروف أنه ذو طابع قروي فلاحي محافظ، يمثّل أميركا المتوسطة، مقارنة بنيويورك وكاليفورنيا الكوزموبوليتية. لتوضيح دلالة المكان، تنتقل ليندا بين فضاءين متناقضين: محافظ وكوزموبولتيّ. يُفرد المخرج لقطات دقيقة لتصوير المكان، لأن له دوراً كبيراً في بناء المعنى. تصرّفات الشخصيات مشتقّة من الأمكنة التي تعيش فيها وتتناسق معها، فللمكان بصمته على المظهر والمزاج.
يضع المخرج شخصياته في أمكنة دالة. يجعلها تعبر محطات تاريخية معبّرة. هكذا يتعاون المكان والزمان في توفير خلفية اجتماعية عميقة للفيلم الممتع. لو تنقل القصة بحذافيرها إلى أمكنة أخرى، ستفقد عمقها وأثرها النفسي.
السفير