بلّوط ساخن


*صفاء ذياب


لم يتمكن الزمن؛ رغم مساعيه الدائبة، من أن يقلل من لسعة حرارتها، تلك البلوطة التي كان إخوتي يجلبون منها كميات كبيرة كلما عادوا من وحداتهم العسكرية في شمال مدينة السليمانية.
للبلوط طقوس خاصة، فلا يمكن أن يفترق عن مدفأة (علاء الدين)، بلونيها الأصفر والأخضر، فبعد أن تستعر النار فيها، نضع البلوط على فروتها ليسخن، قليلاً قليلاً، حتى ينفجر، فنتقافز حينها، نحن الأطفال، لأخذها في سباق أشبه بالماراثون الباحث عن الجائزة الكبرى… وفي بعض الأيام نقف في صف طويل، ونضع علامات على بلوطة كلٍّ منا، لنسرع بأخذها حال انفجارها على الرغم من سخونتها المرتفعة، لكن لسعة الحرارة تلك هي المتعة الكبيرة التي ينتظرها كل واحد
منّا.
لا يأتي البلوط وحيداً، فله رفاق كثر، أولهم الشتاء، فيقطف مع انخفاض درجات الحرارة، وكأن له دورة حياة متعاكسة مع الرطب في البصرة، فالأول يأتي من آخر نقطة في الشمال، والثاني ينضج في آخر نقطة في الجنوب.. الأول يأتي مع انخفاض كبير في درجات الحرارة، والثاني لا ينضج إلا بعد أن تمرَّ (طبَّاخات الرطب) فتحرق بشرتنا حتى سُمِّينا بـ(ولد الملحة).. الأول يأتي بعد أن نوقد مدفأة علاء الدين، والثاني لا يأتي إلا بعد أن نحبس المدفأة في قبو البيت البارد. لكنهما أيضاً يفترقان في الطفولة، فالبلوط يتقاتل عليه الصبية، ليظفر أحدهم بواحدة ساخنة، في حين ترمى نواة الرطب أينما مرَّ صبي في غرف البيت أو على سياج
الجيران!
وعلى الرغم من الاختلافات الكثيرة بين البلوط والرطب، إلا أن هناك طقساً خاصاً يحيط بالبلوط لا يحيط به عالم الرطب المتعدد والمختلف.. فوجود بلوط ومدفأة علاء الدين وجدة تجلس بالقرب منها يحيط بها أحفادها الصغار، لا يخرج عن بنية أخرى كانت تتكاثر حتى ماتت الجدة وكبر الأطفال، بنية لم ندوّنها بعد، ولم نسع لمعرفتها بشكل جيد، كنَّا نسميها (السالوفة)، حتى كبرنا وأسميناها (حكاية)..
«من مسليات أبناء العائلة خلال (التعلولة) في ليالي الشتاء الطويلة سماع السواليف (جمع سالوفة وهي القصة). 
وقد اعتاد الجميع أن يجتمعوا حول (الجدّة أو البيبي) وهي أم الأب أو أم الوالدة وهذه تجلس عادة في وسط الطراز أو الليوان وأمامها المنقلة وهي تربش نارها بين حين وآخر بالماشة التي لا تفارق يدها وفي أثناء ذلك تقص عليهم قصصاً خيالية عن بنت السلطان والسعلوة أو فريج الأكرع وغير ذلك»..
لا يتوقف عزيز جاسم الحجية عن البحث في تفاصيل العائلة العراقية؛ البغدادية على وجه الخصوص، وفولكلورها الذي بدأنا ننساه شيئاً فشيئاً، فيبني كتابه (بغداديات) على ذكريات وقصص لم تعد تدار في مجالس العائلة، فيشير إلى أن البغادة يتناولون «أثناء التعلولة لب جوز وتمرا اشرسيا، أو تينا مجففا أو بلوطا مشويا على المنقلة أو كستانة وغيرها»، لكنه أيضاً يبرر انتهاء هذه التقاليد بقوله: «ولشيوع دور السينما والتلفزيون أخذت السالوفة تنقرض رويداً رويداً وستزول تماماً بزوال (نسوان كبل)».
كتابه هذا طبع في العام 1967، فإذا كانت السينما انتشرت في بغداد منذ ذلك العام أو ما قبله؛ حين تأليف هذا الكتاب، فهي لم تنتشر في المحافظات الجنوبية إلا بعد ذلك التاريخ بكثير. فقد تحولت في الجنوب المنقلة إلى مدفأة علاء الدين، لكن البلوط لم ينقطع، بل كان يأتي بشكل آخر، فإذا كان التجار قد أهملوا بيعه في محالهم، خصوصاً بعد دخول العراق في الحرب مع إيران التي كانوا يشترونه منها قبل بداية الحرب، فإن الحرب بدأت بحمله لنا من باب آخر، وهو الجنود الذي تقع وحداتهم في شمال العراق، فهذا البلوط كان ينتشر على سفوح الجبال، يتساقط بسهولة ومع أي ريح أو مطر.
لم يعد إخوتي يجلبون البلوط، ولم تعد الحرب تهبنا سوى البساطيل..
لكن الحرب انتهت، وبدأت حربٌ أخرى لم تحمل معها البلوط.. ولا الرطب!
______
*المصدر: الصباح العراقية

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *