مقطع من رواية ” إِنِّـي وضعْتُها أنـثـى”



*سعيدة تاقي


خاص ( ثقافات )
و أخيراً و أنا أشـرف على عـتبـة الأربعـين أمتلك صوتي و جسدي. لم أمتلكهما دفعةً واحدة. مرَّ زمن طويلٌ عليَّ لم أتوقَّع أنهما لي. و لم أسْعَ إلى المطالبة بهما. ليس لأنّني لم أعرف من ذا الذي يمتلكُ سلطة مساعدتي على استرداد جزء من هويَّتي… و لكن لأنَّني لم أفكِّر في أنّ العمرَ عارضٌ لجواهِر عديدة، تصقـلها الأيامُ و الخبراتُ و المِحن.


الآن أنا أشعرُ بهما.. و أعرِف بقوّةٍ كذلك أنَّه لم يكن لي أنْ أمتلكَهما من قبل، و لم يكن لي أنْ أصلَ إلى هذا الامتلاك إلّا في هذه اللحظة. 
هو كان يتابع ببسمة صامتة تقلّبات أمزجتي و أزيائي، و لا يتكلَّم. أدرِك في ابتسامته تلك أنني أتغيَّر، و أنّه يلاحظ ما أستَعـيدُه من نـزق طـفـلةٍ خذلتْها أعمارُ الطفولة. لم يكن يتدخَّلُ و أهواء خزانة ملابسي تعلِنُ الانفتاح على أزياء لم أتجرأ يوماً على ارتدائها. بل لم أفكِّر في عدِّها ضمن احتمالات الملابس المُمكنة، لأنها ببساطة لم تكنْ لي.. و لم تكن طقوسُ تفكيرها الحيوية تلائم جمودَ الذُّنوب العديدة التي أحملها في مخزون ذاكرتي.


في البدء، كان جسمي يصاب بالتصلُّب و أنّا أجرّب قطعة ما مختلفة.
كانت القصّاتُ و الألوان و الأشكال إمكاناتِ معانٍ جديدة، لم أطمَحْ إلى التقاط دلالاتها من قبل. و كانت و هي تغلِّف تصَلُّـبي بمَرَحِها و حُبورها و انفتاحها، تشعرني بمزاجها الخاص.. لا أتذكَّر متى بدأتُ في اقتناء القطع الأولى من تلك الملابس، لكني أذكر أنّني كنتُ أقتنيها لمجرَّد أنها أعجبتني. و في أكثر درجات الإعجاب كنت أزمعُ أن أغيِّر بها ملامِحَ ما أرتديه داخل المنزل. لم يخطُر لي أنّني أمضي في مسار أفارقُ فيه ذاتـاً كنتُ أعتقدني إيّاها. لأنني ما زلتُ لم أعرِفني حقّ المعرفة، ما زلتُ أكتشِفني بعيداً عن ذاكرة التأثيم.. كنتُ أنا أصحو داخل جسدي المعطوب.. و أستعيد روابطي بالأنثى التي كنتُها في رسْم الولادة..


كنتُ و أنا أمعنُ في تأمُّل صغيرتي “تَـودُّد” تكبُر و ملامحُ شخصيتها تقوى، أدركُ أنّ زيّ الأمـومة الذي يغمُرني بفـيْضِه سيُخرجني من إهاب أمّي من جديد. و كأنَّني أولـدُ هذه المرَّة من رحِـم طفـلتي التي تشرف على بلوغ عمر الخمس سنوات، و أفارِقُ شيئاً فشيئاً صورة أمّي التي ترسُمُني.
لكنني لم أتوقّع أنّ جـسـدي بدوره سيـنتـفـض. و يرمي عن جـلـده ما عـلقَ به من أزياء و أفكار و ذنوب. كان يكفيني أنْ أفكِّرَ في غد صغيرتي، لأدركَ أنّ يومي ليسَ مناسباً لأحلام ذلك الغد. و أطيل التفكير، كيف لي أن أسقي براعِمها بقطْـرٍ يحنو على وريقاتها الهشة دون أي إتلاف…
الآن، و أنا أبصِرُ من منظور صوتي الذي تحرَّر من خرسه لوحات ذلك الماضي، أفـقـه أشياء عديدة غابتْ عنِّي في حينها لأفاجئ ذاتي بما أنَا عليه. آمنت دوماً بأنَّني نِـتاجُ كلِّ ما عشته في حياتـي. صنَعَتْني تلك الدروب العتـيقة و الأقواس الواطـئـة و الأبـواب الشـامخـة و الجدران الرطبة و السَّقـايـات المعـطاء، و شريطُ الخضرة الممـتد بين الأرض و السماء و المنتشر بين الحدائق و الأصص، يعلو حينا على مزاج الجبل استوطنه المعمارُ، و ينحني حينا على مزاج السهلِ يغدِق حنانَـه على الإنسان.
صنعني كلُّ ذلك الصمت و الخوف و الانكسار.. صنعـتني الدّهشة و الشهقة و الوجفة.. صنعني الألم و الأمل و الفرح و الحزن.. صنعتني الأسـفار والهزائم و الأحلامُ… كل ذلك قد شكَّـلني فعلاً. لكنني أكتشف، و أنا أفرِغُ روحي على هذه الأسطر، أنَّني أخفي في أعماقي أخرى لم أصل إلى أغوارها.


أيمكن أن أكون أخرى سأكتشفها حين أبلغ عُمر الأربعين؟
جسدي الذي كان يحملني كل هذه السنوات أراه لأول مرة بشكل مختلِف، لأنّني مختلفةٌ. أو لأنَّني أدرك أنَّني أختلف عمن كنتُ أظُنُّني…


أذكُر في طفولتي كيف كانت تذهلني أولائك العجائز المتقدّمات في العمر اللاتي كنت أصادفهن في كل زوايا مدينتي تِطْوان. أذكر إلى اليوم كيف كانت سيقانهن مسبوكةً في بياض ناصع و ملـفـت، تعـلوها على الركبة أو أعـلى قليلاً تنانيرُهن أو فساتينهن القصيرة. و أذكر كيف كانت أكتافهنَّ و أذرعهن البضّة العارية تُطـلُّ من أكمام القـمـصان القـصيرة أو المنحسِرة. أذكر أنَّني سألتُ أمي يوماً، ربما في سنّ السادسة أو السابعة، عن سبب الاختلاف الواضح بين أزيائهن و جلبابِها الرمادي الذي يغمر كلّ جسدها و يغطي شعرها، و لـثامِها الأبيض المطرَّز الذي يخفي نصف وجهها من منتصف الأنف إلى العنق.


لا أذكر جوابها الآن. هل لسبب أنَّها لم تجِبني أم لأنّها لم تُقنِعني، لا يهمُّ… ما أذكره بقوّة عن ذلك اليوم، هو بداية وعيي بالاختلاف بين البشر. منذ تلك اللحظة أدركتُ أنّ أبي ليس النموذج الوحيد للآباء، و أنّ أمي قد تشبِه الكثيرات لكنها ليست صورة وحيدة عن الأم. أدركتُ يومها أنَّــنا نحنُ “الأطفال” يصنعنا آباؤنا كيفما يريدون. و أنّ آباء آخرين غير أبويّ يصنعون أبناءهم بأشكال و أزياء و أفكار تشبِههم. قد يكون ذاك اليوم أول يوم أقيسُ فيه نفسي بالمقارنة إلى أمّي و إلى مَمَّا شمس الضحى التي تشبهها رغم الاختلافات، و لم ترقني نتيجة القياس. فرفضتُ أن أكون مثلهما. وكانت تلك أمنيتي الخفيَّة، أسرَرْتُ بها إلى الله في مناجاتي له. و لم أتمكّن من امتـلاك الجـرأة على تحقيقها إلا بعد أكثر من عشر سنوات عن وفاة أبي. و ظلت الأسئلة رفـيقـة وفيّة لطفولـتي المتعثِّرة… كنت أفكِّــر كثيراً، و أتساءلُ كثيراً. لم أكن أعثر لأسئلتي على أجوبة. و لم أكن أبحث عنها خارجي… و لم يكن أي فردٍ من أفراد أسرتي يعتقد بأنني أختلف عنهم كثيراً، إلى غاية عام 1984. كنت في الخامسة عشرة حينها، أزهو بما أطوي عليه دواخلي من أحلام و يحاصِرني ما يفهَمونه من معادِلاتٍ للخارج. كنت مشدودةً إلى الحركة و التجول في أحياء المدينة و أزقتها. و كانت أسرتي تمانع كثيراً خرجاتي تلك. لم تكن أمي الاستثناء. لكني كنت أفاجئها بمغادرتي البيت حين تحاصرني للبقاء…


بعد وفاة أبي لم يعدْ إخوتي يهتمون لأمري، أو كيف نتدبَّر أنا و أمّي معيشتنا. لكنهم كانوا حريصين على طرْق الباب في صباحٍ لا يعقدون لبدايته أيَّ خـيرٍ، كي ينـبِّهوني بتهديد لا يُخفي أدلَّـته إلى أنّ ملابِسي يجب أنْ تكون أكثر حـشـمة. وكلَّما ازداد حرصي على إرضائـهم ازداد تدخُّلُهم… كانت ملابِسي تلك فيما أذكرُ تدعوهم في غـفـلةٍ منّي لزيارتنا أنا و أمّي، أمّهم التي ظلَّتْ وفيَّةً لولاء هُوَ لَهم ضدَّ كلِّ تعاطف مع معاناتي… 
ملابسي تلك، أفارقها اليوم بحسرةٍ على عمرٍ مضى لم أعرِف فيه شكل جسدي.
هو عُمرٌ مرَّ سريعاً.. بطيئاً.. مرَّ و كفى.
لم يعُد بإمكاني العودة من جديد لاقتناصِ لحظاته الهارِبة.. لم يعُد بإمكاني أن أعيش ما كُـنـتُه، دون ما كُنتُ عليه. سيَّجوا للأسف علاقتي بذاتي و صوتي و جسدي. أوهموني لسنواتٍ طويلة أنَّ زيّي أكثر أهميَّةً من شخصي.. أوهموني أنَّ ما أرتديه من ملابسَ يُعلِنُني فلا حاجة لإطلاق سراح صوتي.. أوهموني أنّ البراءة هي براءةُ الثياب من تُهمةِ الفِسْق.. أوهموني كذلك أنّ الظّاهرَ أهمُّ من الباطن، لأنّ السَّرائر يعلَمها الله الخبير و الحقيقةَ هي ما يراه البشر.
كانوا يخـذلون ثـقـتي بنـضجهم في كلِّ مرة… و كنتُ إكـراماً لأمِّي أحكِمُ وثاقَ جسدي مثلما يرغبون، و أكدِّسُ فوقه الطَّبقات. لم أكن أميِّزُ بين ألوان للصيف و ألوان للشتاء. لا أذكر أنَّ الأحمر مثلاً كان لوناً اشتَهَـتْه ملابِسي… كنتُ مجبولةً منذ أنْ كانت اختيارات ملابسي شأناً لأمي على الألوان المحايدة، تلك الألوان التي تغرقُ في الصمتِ المهذَب أثناء مرورها أمامَ الأعين…
و أنا أرتديه الآن على مقربة من عمر الأربعين ذلك الأحمر الفاقعُ، أتساءل بصدق ما ذنب كل تلك الألوان لنحمِّلها أفكاراً ذابلةً تغار من إشراق نضارتها؟
كنتُ دون أنْ أدري و لسنوات عديدة أحارب في كل ملابسي الألوانَ الصارخة، و كأنّه لا يمكنني أن أرتدي إلا لوناً يشبه خرسي. كنت أمعنُ في مراوغة السوق كي لا تستدرجني تلك الألوانُ الخبيثة… لم يكُن الأمرُ مجرَّدَ ملابِسَ تستُرُ عُري الجسد أو عناوينَ لأزياء مدعومة بقبولِ إخوتي، بلْ كـانَ قـالـباً صلـبـاً سـكـبـوا في عـمـقه بحـرص شـديدٍ و لامـبـالاة مـتـناهـية أنـوثَـتي.. و تركوني أنمو في غفلةٍ من انسِحاقها… كانوا حريصين على أن يطمسوا كل المعالم البادية للعين التي تميِّزُ اختلافي عنهم، كأنّه لم يكن مقدرّاً لأنثى أنْ تُخلقَ و أن تولَدَ و أنْ تعيش.. و كأنّه ليس من حقي أن أحيا إلا في صورة مشوَّهةٍ في استنساخها العبثي لأجسادِهم، بعيداً عن جسدي بعد طمسِ معالِمه. و حين أعود لتذكُّر من كنتُ ألمسُ بوجعٍ حجم التجاهُل الذي أفرغوه على تيهي وسط زحامِ ذكورتهم. و ألمسُ بغبنٍ قُيودَ أمّي التي منعتْها من تفتيتِ قالَـبها الذي حملتُه لعقود طويلة، قبل أن تمنعَها من إعفائي من قالبٍ ينتظرُني بإصرار مقيت، لأنّني أنثى. 
لم أنسَ الألم. ذاك ما أكتشفه و الكلماتُ تغادرني لترسُمَ أمسي الذي كان، هناك بمدينتي تـطـوان. لكنّني رمـيـتُ أثَـارهُ خـلـفـي…
لصوتي الآن صدى آخر. يكـلِّـلُ ذلك الصمت الذي طواني لزمنٍ طويلٍ. يتجاوز جسدي الذي يعلِنُ يومَهُ الأول في الحياة، و يهفو إلى نسجِ الحكاية بصوتي أنا.
لستُ السارد عزيز، و لستُ الكاتبَ عِمران، و لستُ التشكيلي عزيز، و لستُ مهدية الحكاية، أنا مهدية الأخرى التي لم ترفع صوتها في كلِّ أجزاء الرواية. بل تواتر الرواة نقلَ ما يظنُّونه حكايتي. و لم تكن إلا مراياهم تعكِسُ ملامحَ انسحاب صوتي خلفَ صخَب أصواتهم. حكاية مهدية المؤنّثة، لم تُروَ…
_______________
ـ مقطع من الفصل الثالث “أنا أراني أخرى” من رواية “إنِّي وضعْتُها أنثى”، سعيدة تاقي، روايات الهلال ــ دار الهلال، القاهرة مايو 2015.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *