مخاض الشعر.. ولادة الشاعر والقصيدة


أمين خالد دراوشة*



خاص ( ثقافات )


قراءة في “أيها الشاعر فيَّ” للشاعر محمد حلمي الريشة

مقدمة
يمكن لي أن أسمي قراءة شعر الشاعر محمد حلمي الريشة بالقراءة المتدحرجة؛ فشعره يجعلك تقع في سحره، وتتابع بشغف القراءة مشدوداً بجمال الصور الغريبة والألوان البراقة، فشعره ليس إلا طيفاً، وينطبق قول الناقد شوقي ضيف عن الشاعر عمر أبو ريشة على شاعرنا، فله من اسمه نصيب؛ فهو يرسم بريشته لوحات معبرة وعميقة ونقية، “تلمع فيها خطوط الاستعارات وألوانها وظلالها”.(1) فالشعر ليس إلا أطياف وأشباح، وتؤثر بنا، نحن القراء، أشد تأثيراً ونحن نراها مجسمة أمام أعيننا، فنشعر بها وكأنها تنطلق من داخل نفوسنا لا من نفوس الشعراء، فكل جماد في الطبيعة من بحار وجبال وسهول وتلال وغيوم ونجوم وقصائد، “تحوِّله ملكة الشاعر الخيالية إلى صور حية، إذ تزيح الستار المادي عنه، وتكشف عن روحه وما يكمن وراء ظاهره، فإذا كل ما نبصره جامداً أو ساكناً يتحرك بنفس إحساساتنا ومشاعرنا، وكأن الشاعر يفرض عليه حياتنا الإنسانية فرضاً”.(2) 

إن الشاعر صاحب ثقافة واسعة، ومتأثر بالشعراء والفلاسفة الغربيين كنيتشه وكيركجور (رائد الوجودية) والشعراء الإنجليز وغيرهم. يقول في إحدى مقطوعاته: 
لَوْحَةٌ
مَا مِنْ أُفُقٍ أَبْهَى
مِنْ وَقْدَةٍ هَائِلَةٍ
مَكْسُوَّةٍ بِفِتْنَةِ شَغَفٍ.(3) 

ويقول، أيضاً:
احْتِرَاقٌ
بِأَزْرَقَ مِدَادٍ انْدَلَعَتِ القَصِيدَةُ
بِلَوْنِ تُرْجُمَانِ التُّوتِ
فِي بِسَاطٍ أَصْفَرَ”.(4) 

وتذكرني هذه المقطوعات بالشاعر وردزورث، الذي اعتبر الشعر دفقة قوية وتلقائية للمشاعر، وإن إنشاد الشعر هو أكبر لذة ومتعة ممكن الحصول عليها، يقول: “أكبر متعة عندي أن أنشد أغنية ساذجة للقلوب النابضة الشاعرة، وأنا أسير وحدي في ظلال الصيف الريفية. أيها القارئ! لو كان بقلبك تلك الكنوز التي يجلبها التفكير الصامت لوجدت- يا صاح- في كل شيء قصة رائعة”.(5) 

وهكذا يخفق قلب شاعرنا، ويطير بنا إلى عوالم متنوعة عبر شعره المعبر عن أنفسنا ومشاعرنا وأحلامنا وآمالنا، ويزيل عن كاهلنا الألم والحزن، ويدخل البهجة إلى قلوبنا.

والشاعر محمد الريشة، من الشعراء غزيري الإنتاج فله الكثير من الدواوين المطبوعة إضافة إلى العدد من الترجمات لشعراء عالميين.
وفي مشروعه الشعري المجدّد يسير في خطى واثقة، لا يهمه الجدر والأسوار والأنواء، مكرساً لنفسه طريقاً مميزاً في عالم الشعر الساحر.

إبداع الشعر… مخاض الشاعر… ولادة القصيدة
مخاض الشعر… ولادة الشاعر والقصيدة
يتناول الشاعر في ديوانه موضوعاً واحداً، وهو الحالة الإبداعية التي تسيطر على وعي الشاعر خلال كتابته.
إذا يبيِّن لنا عبر الحوار امتزاج أنا الشاعر في القصيدة، أو ذوبان القصيدة في ذات الشاعر. يخاطب الشاعر قصيدته- حبيبته، ويحاول إمساك اللحظة الإبداعية ليحقق فيها كينونته الشعرية… ومطاردة اللحظة لإكمال الدفقة الشعورية لا تنجح إذا يبقى الشاعر يلاحق القصيدة وهي تطير محلقة فوقه، “فهي تقع في مسافة من التأجيل المستمر، لأنها تقوم على الإضافة واستنزاف اكتمال مدلول كل من القصيدة، والشاعر معاً، ومن ثم تظل الحوارية ظاهرة، ومؤجلة فيما وراء النص”.(6) يقول الشاعر:
حَيَاتِي-
طَوِيلَةٌ فِي انْتِظَارِكِ/
قَصِيرَةٌ فِي لِقَائِكِ/ 
أَوْ/ 
كَأَنَّ الشَّاعِرَ فِيَّ؛
لَا يَكُونُ حِينَ تَكُونِينَ
أَيَّتُهَا الهِدَايَةُ إِلَى النَّشِيدِ اللَّامَرْئِيِّ!(7)

فهو يطيل الانتظار في انتظار اقتناص اللحظة الإبداعية، لولادة قصيدة التي لا يلقاها طويلاً، ويشرع في البحث عن لحظة إبداعية جديدة، فالشعر لا يكتمل أبداً، وسر المتعة في ملاحقة القصيدة تلو الأخرى، وعلى الرغم من صعوبة التقاط اللحظة الإبداعية لخلق الشعر، فإن الشاعر لا يتوانى عن بذل جهوده، محتملاً ألم الانتظار ووجع المخاض من أجل الوصول إلى لحظة الحلم الذي لا يأتي دفعة واحدة، بل على شكل نتف صغيرة، وشاعرنا لا يعرف الملل، ويبقى يطارد حلمه؛ الحلم الذي ينصهر به الشاعر مع القصيدة، ويحلِّق كطيف في الفضاء الرحب متجاوزاً الواقع. يقول:
تَحْمَرُّ وَجْنَتَا قَصِيدَتِي حِينَ أَهِمُّ بِكِتَابَتِهَا/ كِتَابَتِكِ أَنْتِ..
تَرْتَجِفُ شَفَتَاهَا أَلَقاً كَمُرَاهِقَةٍ فِي العِشْرِينَ مِنْ عِطْرِهَا..
يَخْفُقُ قَلْبُهَا رِيشَةَ حِبْرٍ تَتَمَاسَكُ فِي ذُرَى رِيحِ النَّشِيدِ..
تُحِسُّ بِالتَّوَاضِعِ السِّرِّيِّ حِينَ أَنْشُرُهَا أَمَامَ أُبَّهَةِ حَضْرَتِكِ..
الشِّعْرُ الَّذِي يُكْتَبُنِي لِأَجْلِكِ؛
يُشعِرُني بِأَنِّي لَسْتُ شَاعِرَهُ، 
بَلْ أَنْتِهِ فِيَّ!(8)

هنا تمتزج القصيدة بالشعر وبذات الشاعر، ولا نعرف هذا الجمال المزركش من أين أتى، هل من الشاعر الذي يكتب الشعر أم هو الشعر الذي يكتب الشاعر؟ أم أن هذا الكلام الملون والمعطر هو من ينتج الشعر الحقيقي، والشاعر الأصيل؟! فلا حياة للشاعر دون القصيدة؛ القصيدة المخاتلة التي تتمنع عن المجيء إلا بعد جهود جبارة، لذا عندما يحكم الشاعر إمساك لحظة الإشراق، فإن صباحه يكون جميلاً عذباً، جاذباً روحه إلى التمتع بمباهج الحياة.. تذوق لذة الكلمات الجارية كنهر متدفق. يقول:
هذَا 
الصَّبَاحُ؛
تُفَّاحَةٌ
مَقْضُومَةٌ
مِنْ
تَحْتِ
إِبْطِهَا.(9)

القصيدة والشاعر في أنا واحد، في امتزاج لا فكاك منه، فالقصيدة- الحبيبة، التي سهر الشاعر في مناغاتها ومناجاتها، نهضت، ولم تكن بحاجة لغسل وجهها، فهي ولدت بماء حياة الشاعر طاهرة كندى الصباح، لذا اكتفت بطبع قبلة التشجيع على المزيد من الولادة، وانطلقت لتسبح في فضاء لا محدود معلنة وجودها، ومطلقة سراح الشاعر الذي قضى ليلته سجين عشقها. يقول:
النَّشِيدَةُ الَّتِي بَاتَتْ بِي لَيْلتَهَا؛
لَمْ تَغْسِلْ وَجْهَهَا صَبَاحاً، 
وَلَمْ تَفْرُكْ عَيْنَيْهَا حَتَّى..
وَضَعَتْ عَلَى جَبِينِي قُبْلَةً مُثَابِرَةً،
ثمُّ فَتَّحَتْ نَافِذَةَ السَّرَاحِ لِحُرِّيَّتِي،
وَخَرَجَتْ مِنَ البَابِ الخَلْفِيِّ لِقَلْبِي
لِتُحَلِّقَ فِي وُجُودِهَا الكَوْنِيِّ أَمَلاً.(10) 

فالشاعر لا يشعر بوجوده دون إبداع، ويحس نفسه مخنوقة وفي حصار، ولا يرتاح، ولا يتنفس الحرية إلا بإطلاق مسكوكاته الذهبية المشغولة بإتقان في الهواء. يقول:
إِنْ لَمْ 
تَأْتِ الفَراشَةُ
إِلَى
نَافِذَتِي
أَرْسُمُهَا 
عَلَى
زُجَاجِهَا الرَّطْبِ.(11)

يأخذنا الشاعر إلى عوالمه في لحظات إبداعه المشرقة، فهذه المقطوعة تظهر علامات وعي المبدع، وتحمل، أيضاً، آثار “الصيرورة الفنية للواقع نفسه في شاعرية كثيفة، ومن ثم يحيل النص إلى دلالة الاتساع الخيالي للذات، واندماجها المحتمل بالعناصر الكونية، وذلك من خلال عوالم، أو مجالات تصويرية وليدة تقع بين الوعي، وتداعيات الكتابة”.(12) 

فالشاعر قادر على الإحساس بالجمال وإبداعه إذا تطلب الأمر، فالفراشة رمز لتوهج الجمال في الحياة، وهي رمز لقدرة الشاعر على تجاوز السواد والموت وانبثاق حياة جديدة في ظل حرية بلا حدود. يقول:
لِمَاذَا – 
أَنْتِ وَأَنَا
عَاجِزَانِ عَنِ المَوْتِ فِي الحَيَاةِ،
وَتَنْتَظِرِينَ الحَيَاةَ فِي المَوْتِ
مَعاً –
أَيَّتُهَا القَصِيدَةُ/ 
قَصِيدَتِي؟!(13)

في هذه القصيدة تبدو الضمائر منفصلة، ولكنها ترجع لتتوحد بالقصيدة، وهي مشحونة بالمعاني الفلسفية، فالحياة والموت شيء واحد، ويتغلب الشاعر على الموت من خلال ولادة القصيدة- الشاعر، والشعر الأصيل عصي عن الموت ويتجاوزه ويتفوق عليه دائماً، فهو كالقمر لا يمكن له التلاشي، وإلا فسدت الحياة وانهارت.

الجُدر التي تنتصب في حياة الشاعر
أن تكون فلسطينياً، يعني أن تعيش حياتك في هاوية سحيقة تقضي عمرك تحاول الخروج منها، فهذه الأرض المقدسة يطؤها الاحتلال بقسوة، ويمارس ساديته على الإنسان والشجر وحتى الجمادات، وليس هذا وحسب؛ فالاحتلال البغيض أدى إلى نشوء طبقة من الفاسدين الذين يعملون على خنق الفلسطيني وإبداعه، ولا يمكن لكاتب فلسطيني، مهما حاول الانفلات من زمنه إلى زمن أحلى، إلا العودة إلى الأرض وبشاعة ما يجري فوقها. يقول:
ثَمَّ كَائِنَاتٌ، 
مِنَ (الغَسَاسِنَةِ وَالمَنَاذِرَةِ)،
أَسْتَطِيعُ القَفْزَ عَنْهَا؛
فَقَطْ –
لِأَنَّهَا ارْتَضَتْ أَنْ تَظَلَّ وَاطِئَةً!
………
دُمْ بشِعْرٍ، أَيُّهَا الشَّاعِرُ.. فِيَّ.(14)

يتحدث الشاعر عن الكائنات الفاسدة، ويشبهها بالغساسنة والمناذرة الذين كانوا ينفذون سياسة الفرس والروم على أرضنا العربية، والذين سعوا إلى القضاء على بعضهم البعض، ويقول إنها لا تستطيع إيقافه عن غايته وتحقيق أحلامه، فهو يملك القدرة على تجاوزها وسحقها، هذا لأنه شاعر، فالشاعر قادر على فعل غير المتوقع، والانتصار على فطريات الحياة وطحالبها. يقول:
لَيْسَتِ الُمعْضِلَةُ 
فِي الأَصْنَامِ البَاهَرَةِ، بَلْ
بِمَنْ يُرَاوِدُهَا،
وَلَوْ جُثُوّاً؛
شَبَقاً عَنْ شَهْوَةِ تَصْنِيمٍ!
………
دَامَ إِيمَانُكَ يَا.. شَبِيهِي.(15)

هذه الكائنات وإن بدت من أهل البلاد إلا أنها بذور عفنة، تهرول وراء مصالحها الذاتية على حساب الوطن، ومستعدة لخلق أصنامها وعبادتها إذ حقق لها ذلك مبتغاها. وشاعرنا واثق من إيمانه، وأن وقت كنس هذه الجراثيم سيأتي لا محالة. يقول:
حِصَارٌ أَبْيَضُ السَّمْكِ أَدْهَمُ المَدَى
يُحَاصِرُ حِصَانِي،
وَمُهْرَتِي الجَمُوحَةُ الصَّوْتِ
تَصْهَلُنِي، مُحْتَجَزَةً، فِي الصَّرِيرِ الصَّدَى.
نَمْ قَرِيرَ العَيْنِ يَا “أَدِيسُونْ”؛
فَأَنَا، فِي بَيْتِ شِعْرٍ، شَقِيٌّ
عَلَى غَيْرِ نَارٍ، وَنُورٍ.. كَسُدَى!(16)

يتابع الشاعر كلامه عن مغنصات الحياة، ومصاعبها المتأتِّية من الانتهازين والوصوليين الذين يضعون في طريقه الصخور والحجارة، ويحاولون خنق مهرته (قصيدته)، وعن مشاكل الوظيفة التي غرق فيها شاعرنا، وتكاد تفرمله وتعطله عن تحقيق غايته. ويقول:
اُدْخُلْ بِقِدَمِكِ أَوْ بِقَدَمِكَ، أَيُّهُمَا تَشَاءْ؛ 
المَبْتُورَةِ أَوِ العَرْجَاءْ-
فَمَا مِنْ بَابٍ لَنَا وَلَا عَتَبَةٍ (سِوَى عَتَبِنَا عَلَيْكَ)،
وَلاَ مَقَاعِدَ لَدَيْنَا (سِوَى قُعُودِنَا عَلَيْنَا بِانْتِظَارِنَا/ انْتِظَارِكَ
كَأَيِّ لَا شَيْءٍ).
ادْخُلْ، أَيُّهُا العَامُ الفَائِضُ عَنِ الحَاجَةِ/ حَاجَتِنَا،
وَلكِنْ (وَلَا نَعْتَذِرُ) لَنْ تَجِدَ فِينَا يَداً لِتُسَلِّمَ؛
فَكُلُّهَا مَبْتُورَةُ الرُّوحِ، أَيضاً!(17)

يخاطب الأعوام، قائلاً: تعالي بكل أوجاعك وألمك فلا باب لنا ولا عتبة تمنع عنا قسوتك وعنفك، لقد أصبحنا دون أرواح، لا نحس ولا نتألم من هولك وغضبك علينا. ويقول، أيضاً:
حِينَ أَرَدْتُكِ قَصِيدَتِي المُغَايِرَةَ كُلَّ قَصِيدَةٍ-
لَمْ أَجِدْ حِبْرِي وَلَا وَرَقِي، فَبَكَيْتُ؛
لَيْسَ خَشْيَةً مِنَ النِّسْيَانِ، 
أَوْ قَلَقاً مِنْ فَقْدِهَا.
لَقَدِ اكْتَشَفْتُ أَنَّكِ مِنْحَةً مَنْحُوتَةً بِالدَّمْعِ 
فِي صَفْحَةِ الوَجْهِ
حِينَ ابْتَسَمَ المَاءُ لِي لِكَيْ أَغْسِلَ عَيْنَيَّ!(18)

يتأثر الشاعر بما يجري في وطنه، ويواجه الصعاب في ولادة قصائده، ولكنه أبداً لا يستسلم أو يستكين، ويواصل المقاومة حتى:
عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنِّي رَأَيْتُ نَهْراً بِضِفَّةٍ وَاحِدَةٍ
إِلَّا أَنَّنِي لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَلْتَقِيَهَا. لكِنْ
حِينَ اكْتَشَفْتُ لِشَارِعِ الشَّاعِرِ رَصِيفاً ثَالِثاً التَقَيْتُهَا؛
تِلْكَ النَّدَاهَةَ الْصَارَتْ هذِهِ الشَّقِيَّةَ
غَمَزَتْ لِي بِجَفْنِ عَيْنِهَا الوَاحِدِ مُبْتَسِمَةً لِي بِشَفَتِهَا السُّفْلَى
بَيْنَمَا كَانَ التِمَاعُ أَسْنَانِهَا 
يُحَاوِلُ قَضْمَ أَبْجَدِيَّتِي بِانْحِنَاءِ شَبَقٍ!(19)

وفي قصيدة مليئة بالرمز، والإيحاء، والخيال، والصور، تظهر الصور الشعرية الحديثة على تغريب الدلالة لا توضيحها. يقول شلوفسكي: “ليس هدف الصورة تقريب فهمنا من الدلالة التي تحملها، ولكن هدفها هو نظرة معينة للشيء، وخلق رؤيته، وليس تعرّفه”.(20)
فالصورة هنا تتراكم فيها العلاقات الدلالية الغريبة، إذ تم فيها إزاحة الدال عن مدلوله الحقيقي الواقعي، وسيره في خضم مدلولات غير متوافقة، ولكنها مترابطة في وحدة نابعة من الحلم. يقول الشاعر:
لَا مَفَرَّ مِنْ مِنْفَضَتِهَا،
وَإِنْ عَرْجَاءُ،
تَتَقَدَّمُ نَحْوِي
لِأُطْفِئَ فِيهَا 
سَاقَ سِيجَارَتِي
قَبْلَ اكْتِمَالِ احْتِرَاقِهَا،
وَانْطِفَاءِ جَسَدِي.(21)

فالصورة تربط (القصيدة، والمرأة، والمنفضة) وبين (الشاعر، والرجل، والقلم)، وفيها إصرار من قبل الشاعر على الوصول إلى لحظات إبداعه رغم كل شيء، فهذه الرؤية نابعة من حلم متشابك وغامض، والحلم لا يعترف بالزمان والمكان ولا بالفشل والعجز، وهذا يعطي القصيدة الدفقة النفسية اللازمة، وقد نجح الشاعر في إخراج حلمه من حالة الفوضى والغموض إلى حالته الشعرية الدلالية. 

ثقافة الشاعر الواسعة
يمتلك الشاعر ثقافة غنية، وهو مطلع على الكتب المقدسة، والكثير من الآداب الغربية، التي تأثر بها، حتى أنه أقدم على ترجمة الكثير من الأعمال الغربية، فقد أصدر خمسة كتب مترجمة.
ومن خلال القصائد في المجموعة الشعرية، يبدو تأثر الشاعر في الكتب المقدسة، وخاصة القرآن الكريم. يقول:
عَيْنَانْ-
شَفَتَانْ؛
بِالنُّضْجِ 
نَضَّاحَتَانْ..
النَّثْرُ خَمْرُهُمَا..
الشِّعْرُ سُكْرُهُمَا،
وَذَوَاتَا دَنَّانْ.(22)

ونرى مدى تأثر الشاعر بالقرآن الكريم، من خلال التناص مع سورة الرحمن “ذواتا أفنان”، و”عينان نضّاحتان”.
أما التناص مع الشعر العالمي فنجده في هذه القصيدة، حيث الكلمات الموجودة بين التّنصيص هما للشاعر الفرنسي بول إيلوار. يقول الشاعر:
“لِمَاذَا أَنَا جَمِيلَةٌ هكَذَا؟
لِأَنَّ سَيِّدِي يُحَمِّمُنِي.”*
أَنَا/ 
قَصِيدَتُهُ
اللَّعِينَةُ،
وَهُوَ/
مَاكِرِي.(23)

ونرى تأثر الشاعر في الفلسفة الوجودية في شعره، يقول:
آخُذُهُ
فَأَتْعَبُ..
أَتْرُكُهُ
فَأُتْعَبُ؛
.
.
الشِّعْرُ!(24)

ويذكّرني هذا الشعر بمقولة للفيلسوف كيركجور (رائد الوجودية)، كنت قرأتها منذ سنوات طويلة، يقول فيها: “أحب وسوف تندم، لا تحب وسوف تندم، تزوج وسوف تندم، لا تتزوج وسوف تندم، ففي كلا الحالتين سوف تندم”.
وهذا حال شاعرنا الذي يقبل بكل قواه ليتناول الشعر ويبدعه فيشعر بالتعب والإرهاق، يبتعد عن الشعر وكتابته، أيضاً، يحس بالتعب والإرهاق، ففي كلا الحالتين تنتابه مشاعر القلق.
والشاعر لا يمل من البحث عن ذاته في خضم بحر الشعر المتلاطم، ولا ريب إن شعار الوجودية الشهير: “أيها الإنسان، كن ذاتك! صر نفسك! كن إنساناً”.(25) وهذا يعني أن الوجودية تذهب إلى أن الإنسان لا يخلق إنساناً، بل يصير كذلك، وحسب مفاهيمها ومصطلحاتها “لا يكون وجود الإنسان مطابقاً لماهيته كإنسان منذ اللحظة الأولى لهذا الوجود، بل هو يوجد أولاً ثم تتشكل ماهيته بعد ذلك، فهذه الماهية هدف أو غاية أو مشروع، يسعى المرء إلى تحقيقه”.(26) 
والشاعر محمد حلمي الريشة يسعى إلى مشروعه واثقاً؛ فلا غاية له سوى الاحتراق بنار الشعر، وقذف القصائد البكر من جوفه، يقول عن نفسه: 
هكَذَا تَفْعَلُ بِي نَشِيدَتِي؛
تُبْقِينِي غَارِقاً فِيهَا 
لِتَتَنَفَّسَ أُوكْسِجِينِي،
وَهِيَ تَعْرِفُ أَنَّنِي لَسْتُ سَمَكَةً،
بَلْ شَاعِرٌ قَائِمٌ مِنْ عُمْقِ قَامَتِهِ
إِلَى زَهْرَةِ اشْتِعَالِهِ
لِأَجْلِهَا وَأَجَلِهِ!(27)

لذة الحياة بإبداع الشعر البكّر
إن الشاعر محمد حلمي الريشة في شعره، يسعى إلى التجديد، وككل جديد قد يجد معوقات تقف في طريقه، غير أنه يسير في دربه غير ملتفت لشيء، فهو مصرّ على ممارسة حريته في كتابة الشعر، فالشاعر يجب أن يكون حراً “وهو يضع قوانينه وهو فوق القوانين الشعرية والضوابط الشعرية وليست هي فوقه. هو الذي يضع النظام ولا يضعه النظام”.(28) ورداً على الذين يقولون إن إعطاء الحرية بهذا الشكل للشعراء سيؤدي إلى الفوضى، قال يوسف الخال: إن الشاعر الأصيل “يعرف كيف يستعمل الحرية. إنه يجد نظاماً ضمن هذه الحرية”.(29) أما الشاعر المزيف والمدعي، فإنه سيتوه ويضيع على الأكيد.
يقول الشعر محمد حلمي الريشة:
أَنَا لَا أَعِيشُ مَاضِيَّ؛ 
لَقَدْ عِشْتُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَفَى..
وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَعِيشَ حَاضِرِ/ي؛ 
لِأَنَّنِي شَاعِرِ/ي.. 
(عَلَى الشِّعْرِ اللَّعْنَةُ الجَمِيلَةُ!)
أَنَا أَعِيشُ مُسْتَقْبَلِي الآنَ؛ 
لِأَنَّنِي لَنْ أَعِيشَهُ فِي المُسْتَقْبَلِ!(30)

فشاعرنا يفتش عن طرق غير معروفة للعيش، وهو لا يريد أن يحيا في الماضي، ولا حتى في الحاضر، فهو من خلال الشعر البكر والنقي يخترق المستقبل، ويسكن فيه، واثقاً من إنصاف شعره ولو بعد حين. 
وها هو يخاطب القمر المخبأ وراء البحر:
لَولَا الشِّعْرُ، وَلَولَا مَخْيَلَةُ الشَّاعِرِ، لَمَا اسْتَطَعْتُ 
أَيُّهَا القَمَرُ المُخَبَّأُ خَلْفَ مُنْخَفَضِ البَحْرِ العَالِيِّ،
أَنْ أَخْتَرِقَ كَثَافَةَ لَحْمِ هذِهِ الغُيُومِ، 
وَثِقَلَ شَرَاسَةِ حَبَّاتِ المَطَرِ، 
وَلَهْوَ الرِّيَاحِ الَّتِي تَرْقُصُ عَاصِفَةً فِي العَتْمَةِ العَالِقَةِ الآنَ، 
بَيْنَ وَثَبَاتِ اللَّهَبِ البَارِدَةِ 
وَيَبَاسِ جُوعِي إِلَى رَغِيفِ وَجْهِكَ اللُّجَيْنِيِّ.(31)

لا شيء يبقي قلب الشاعر نابضاً بالحياة، ومتغلباً على جُدر الحياة ومصاعبها غير خياله المجنح السابح في جنان الشعر، الشعر وحده يجعل شاعرنا يهزم العواصف وضنك العيش صانعاً من فرن الشعر أرغفة من شعر فضي، يسد بها جوعه إلى لذة الحياة.

خاتمة
في بعض قصائد الديوان شعرت بمتعة غامرة، وإحساس بالرضا، وكما يقول رولان بارت عن كاتب المتعة وقارئه: “يبدأ النص الذي لا يطاق، النص المستحيل، هذا النص خارج اللذة، خارج النقد… لا يمكن لك التحدث (عن) نص كهذا، يمكنك فقط أن تتحدث (فيه)، بطريقته”.(32) 
فهناك قصائد في هذه المجموعة الشعرية يجرحها النقد، لذا يكتفي القارئ بالشعور بالخفة والتحليق بأجنحتها إلى عوالم من الصور الغريبة والملونة. 
يمتاز شعر محمد حلمي الريشة بالأصالة، والأصالة في العمل الأدبي تعني أنه مميز ومغاير، وينمو ويزهر من أصل مؤلفه، وهي أيضاً: “إن العمل الفني على نحو ما يتصل بأبعد وأعمق الأصول التي عرفتها التجربة الإنسانية. فالأصالة، من ناحية هي ما يبدو أنه من خلق ذاته بجدته وتميزه وعدم توقعه، وهي من الناحية الأخرى ما يحمل في تضاعيفه نسبا يتسلسل بعدا في الماضي، مما يدل على أن الفنان يحتوي في دمه تجارب أمته الواعية واللاواعية منذ أقدم فنونها، وينطلق بتوقعه، المحمل بذلك كله، نحو القادم من الزمن”.(33) 
فالأصالة هي أن يتضمن العمل الإبداعي بذور المستقبل، أن لا يسبق الشاعر هنا أحد بلغته وتصاويره وخياله الشعري، لذلك يقول الشاعر محمد حلمي الريشة: “أنا أعيش مستقبلي الآن”. (ص63)، ولكنها لا تعني بتاتاً الانسلاخ عن الماضي والقطيعة معه، بل هي تحمل غذاء الأنساب السحيقة الغور، التي تضفي على الجديد شرعية الديمومة العريقة كما يقول المبدع جبرا إبراهيم جبرا.

* كاتب من فلسطين.

الهوامش:
(1) شوقي ضيف: دراسات في الشعر العربي المعاصر، ط7، دار المعارف، القاهرة، دون تاريخ. ص234.
(2) شوقي ضيف: المرجع السابق. ص229.
(3) محمد حلمي الريشة: كأعمى تقودني قصبة النأي. بيت الشعر الفلسطيني. ط1. رام الله، 2008م. ص28.
(4) المصدر السابق نفسه. ص27.
(5) عبد الدايم الشوا: في الأدب المقارن. دار الحداثة. ط1. بيروت، 1982م. ص29.
(6) محمد سمير عبد السلام: مدخل إلى قراءة “أيها الشاعر فيّ”. في: محمد حلمي الريشة. “أيها الشاعر فيّ”. بيت الشعر الفلسطيني، ط1، رام الله، 2015م. ص11.
(7) محمد حلمي الريشة: “أيها الشاعر فيّ”. بيت الشعر الفلسطيني، ط1، رام الله، 2015م. ص43.
(8) المصدر السابق، ص55.
(9) المصدر السابق، ص24.
(10) المصدر السابق، ص56.
(11) المصدر السابق، ص25.
(12) محمد سمير عبد السلام. مرجع سابق. ص15.
(13) محمد حلمي الريشة: “أيها الشاعر فيّ”. بيت الشعر الفلسطيني، ط1، رام الله، 2015م. ص35.
(14) المصدر السابق، ص31.
(15) المصدر السابق، ص32.
(16) المصدر السابق، ص74.
(17) المصدر السابق، ص79.
(18) المصدر السابق، ص59.
(19) المصدر السابق، ص57.
(20) إبراهيم رماني: الغموض في الشعر العربي الحديث. ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، بدون تاريخ. ص260.
(21) محمد حلمي الريشة: “أيها الشاعر فيّ”. بيت الشعر الفلسطيني، ط1، رام الله، 2015م. ص29.
(22) المصدر السابق، ص53.
(23) المصدر السابق، ص39.
(24) المصدر السابق، ص88.
(25) إمام عبد الفتاح إمام. كيركجور. القاهرة: منشورات دار الثقافة للنشر والتوزيع. ط1. 1986م. مقدمة الكتاب. 
(26) (إمام عبد الفتاح إمام. مرجع سابق. 
(27) محمد حلمي الريشة: “أيها الشاعر فيّ”. بيت الشعر الفلسطيني، ط1، رام الله، 2015م. ص89.
(28) حوار مع الشاعر يوسف الخال. حاوره: جهاد فاضل. قضايا الشعر الحديث. دار الشروق، بيروت، بدون تاريخ. ص296.
(29) المرجع السابق، ص297.
(30) محمد حلمي الريشة: “أيها الشاعر فيّ”. بيت الشعر الفلسطيني، ط1، رام الله، 2015م. ص63.
(31) المصدر السابق، ص73.
(32) عمر أوكان: لذة النص. إفريقيا الشرق. ط1. الدار البيضاء، 1996م. ص47.
(33) جبرا إبراهيم جبرا: أقنعه الحقيقة وأقنعة الخيال. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط1. بيروت، 1992م. ص145.


شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *