أحمد البحراني.. أقول الحرب من دون مشاهد الدم والأجساد المقطوعة


اسكندر حبش


هل كان أحمد البحراني ـ الفنان العراقي ـ يعي فعلاً، بأن تلك اللحظة التي شيّد فيها شخوصاً من طين، على شاطئ الفرات (بالقرب من مدينة بابل)، ستشكل معرضه النحتي الأول، وهو لمّا يزل في الخامسة من عمره؟
لا أحد يعرف ما الذي كان يدور في ذهن الصبي آنذاك. كلّ ما هناك أنه اندفع إلى بناء عالمه الخاص ليشكل سلسلة من الأشخاص الذين يمثلون بالإضافة إلى عائلته بعض الأشخاص الذين يعيشون في محيطه. يومها لم يكن يجرؤ على الدخول إلى الماء، إذ منعه والده عن السباحة، خشية أن تجرفه التيّارات المائية. بقي على الشاطئ ليغرق في عالمه، وليسأله والده لاحقاً عمّن هم هؤلاء، فشرح له ـ مرتعباً من الخوف ـ عن «حيوات» أولئك الذين سرعان ما اندثروا وغابوا. غابوا بسبب المدّ والجزر، وإن كان الطفل تأمل كثيراً في أن يعيدهم المدّ بعد أن أخذهم. لم ينجح البحراني في التخلص من صدمة غيابهم ـ إذا جاز القول ـ إلا حين أقنع نفسه بأن النهر اقتنى أعماله «من الجميل أن يكون الفرات هو أول من انتبه لأعمالي، فأحبّ أن يقتنيها كلها».
جميل هو هذا التبرير الذي يقوده أكثر إلى التجذر في تربته العراقية التي تمتد إلى حضارات متنوعة ومتعاقبة، مثلما هو جميل العالم الذي بناه طيلة مسيرته في النحت. مسيرة ابتدأت باكراً، من على مقاعد الدراسة، حيث برزت موهبته في الرسم، إذ كان من الواضح أنه يتفوق في ذلك على أترابه في الصف، ما لفت إليه أنظار مدرّسيه الذين اهتموا به. لهذا وبعد أن أنهى دراسة المرحلة المتوسطة، ذهب إلى بغداد ليلتحق بمعهد الفنون الجميلة، حيث بدأ بالتعرف على عوالم الفن المختلفة «إلا أن النحت اختارني، إذ كان الأقرب إليّ من الناحية النفسية، وحتى من الناحية العضلية أشعر بأني قريب منه. فكما تعرف يحتاج النحت إلى جهد عضلي، كذلك هو قريب مني من الناحية الفلسفية، فأنت تتعامل مع الأبعاد الثلاثة لا مع السطح فقط كما في اللوحة. ربما لأنني أحبّ الأشياء الصعبة وأكره الاستسهال والأشياء التقليدية والبسيطة، ولا أخفي أني شعرت منذ بداية علاقتي بالنحت، بأني قمتُ بأشياء متميّزة أكثر ممّا فعلته عبر الرسم».
التتلمذ
في تلك الحقبة من الدراسة، تتلمذ على يد عبد الرحيم الوكيل «الذي كان له أكبر الفضل عليّ» وهو نحات عراقي كبير، عاد من بريطانيا في بداية السبعينيات، حيث أكمل دراسته هناك. يجد البحراني أنه كان محظوظاً بأن يكون تلميذه، وبأن يكون مقرّباً منه «عشت معه كل تفاصيل يومه وحياته، إذ كنت أحد مساعديه الرئيسيين، من هنا استفدت منه بكل معنى الكلمة». بالإضافة إلى باقي أساتذته في المعهد، إلا أن الوكيل هو أكثر من أثّر فيه من الناحيتين الفنية والفكرية.
في تلك المرحلة من ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، كان العراق يشهد الكثير من حراكه السياسي كما الكثير من «حروبه» التي «لا تنتهي»، لهذا وظفت الدولة كل الأعمال الفنيّة لصالحها ومصلحتها. فكل المشاريع القائمة كانت تعبوية. من هنا يجد أحمد البحراني أن الفن وجد نفسه أمام معضلة تتمثل في أن الناحية التقنية وجدت تطوراً كبيراً بينما بقي راكداً في مكانه من الناحية الفكرية، لأن كل الأعمال التي جاءت كانت تصبّ في مجرى معين. في أي حال، كان وقتها لا يزال طالباً، وكان يمارس حياته كفنان شاب أي خارج ما يحدث في الساحة الاحترافية، «كانت أحلامنا وأفكارنا خارجة عن المألوف، لكن بعد تخرّجنا ونزولنا إلى أرض الواقع تفاجأنا بالحقيقة، إذ إما أن تعمل في النحت وفق ما تمليه عليك ظروف المرحلة وإما أن تترك النحت وتبحث عن أمر آخر. ربما كنت محظوظاً، لأنني لم أبق طويلاً في العراق، إذ بعد أن أنهيت خدمتي العسكرية هاجرت من العراق فوراً، فذهبت إلى الأردن، حيث بقيت هناك لمدة عام، وبعدها عشت في اليمن لمدة أربع سنوات، ومن ثم إلى السويد، لأعود بعدها إلى قطر. وأنا الآن أعيش متنقلاً بين السويد وقطر».
وظيفة الفن
تنقل أحمد البحراني في النحت بين العديد من الاتجاهات، ولعل الاتجاه الذي عرفه الجمهور عنه أكثر كان ميله إلى التجريد «الخالي من العنصر المقروء بشكل مباشر، أي الذي كان يميل إلى البحث الجمالي أكثر مما يميل إلى الشكل الفلسفي أو التشخيصي». استطاع من خلال هذه التجربة أن يصل إلى شريحة واسعة من الجمهور، إلا أنه في فترة من الفترات أحسّ بنفسه أنه بعيد عن أرض الواقع «بعيد عمّا يحدث على الأرض، كنت في وادٍ والعالم كله في وادٍ آخر». صحيح أن أعماله مطلوبة ومرغوبة والناس تحبها، «لكن ليست عامة الناس. لم أشعر بنفسي قريباً من أبناء جلدتي الذين أنتمي إليهم. أعتقد أن الفن بشكل عام، إن لم يكن لديه وظيفة، سواء كانت جمالية أو فلسفية، فأنت كإنسان أنّى تجد نفسك في أي منطقة تعبر فيها من خلال أعمالك عما يحدث حولك، لأن الفنان في النهاية هو مرآة ما حوله وانعكاس له». لهذا وظّف البحراني فنه، في السنوات الخمس الأخيرة ضمن إطار فكرة عامة تتمحور حول رفضه للحرب ومنطقها، وضدّ ما يجري اليوم في العالم بأسره. «من هنا، في معارضي الأخيرة، وظّفت فني لترجمة ما يدور في هذه الأرض، والتعبير عن هذه الحروب. ربما أشعر بأنه عليّ أن أكون جزءاً من هذه المنظومة الإنسانية ولأعبّر عما يدور حولي، بطريقتي كفنان، لكن من دون أن أنسى المحافظة على العنصر الجمالي في عملي، بمعنى أنا غير معني بأن أصوّر مشاهد الدم أو أن أضع أجساداً مقطعة، على العكس، أريد أن أستمرّ في هذه التجربة الجمالية من دون أن أنسى التعبير عن كلّ المشكلات التي تلفنا».
من هنا تتخذ أعمال أحمد البحراني الأخيرة هذا المنحى: تمرير رسالته الصارخة بوجه العالم وحروبه، لكن ليس بشكل مباشر، بل هي دعوة إلى التفكير بشرطنا الإنساني. هذا الشرط يدعونا إلى مشاهدته وتأمله بدءاً من السادسة من مساء اليوم ولغاية 18 تشرين الأول المقبل، إذ يعرض مجموعة من أعماله الأخيرة في صالة «أرت سبيس»، الحمراء، بناية مقهى الكوستا الطابق السادس. مجموعة من البرونزيات، تأتي تحت عنوان «سيرة ذاتية» وهي تمثل هذا التفكير في أوضاع الحياة والعالم التي نشهدها. يقول البحراني عن معرضه هذا ـ وهو الأول الشخصي في بيروت ـ (إذ قدم العام 2001 معرضاً مشتركاً مع الفنان سلام عمر) ـ «إنها ليست سيرة شخصية..!! هي سيرة جيل لا يتذكّر من الوطن غير رائحة الحرائق وصوت الحروب وطعم خبز الأمهات الثكالى بثيابهن السوداء. ما زلت أتذكر صديقي الديك الذي أهداني إياه أبي وفارقني من دون وداع. لا زلت أتذكّر الفرات الذي كان شاطئه محترفي الأول وهناك صنعت أول أعمالي عندما كنت صغيراً وأكرمني النهر واقتناها منّي»!
السفير

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *