الكتابة وأسئلتها


*أمير تاج السر


هناك سؤال قديم يطرح عليّ دائما وبشكل متكرر من قبل المحاورين وبعض القراء الذين ألتقيهم أحيانا في ندوات أدبية، ويمكن أن يسأل فيه كل من بدأ سكة الكتابة شاعرا ثم اتجه بعد ذلك لكتابة الرواية: ما الذي يمكن أن تقدمه الرواية، ويعجز الشعر عن تقديمه؟
في الحقيقة يبدو السؤال لي مجحفا في صياغته وهو يقارن بين ما يمكن أن يقدمه صنف من الإبداع على حساب صنف آخر، فالشعر والقصة والرواية والموسيقى والنحت كلها أصناف من الإبداع اكتشفها الإنسان ويعبر بها عن حياته بخيرها وشرها، فالموسيقى تعبر والرسم يعبر والنحت وكذلك الأدوات الأخرى.
لذلك لن نقول بأن الرسم بألوان الزيت أفضل من الرسم بألوان الماء، ويفوق النحت في التعبير، وسنتذوق كلا من هذه الفنون على حسب طبيعته، وننبهر به بحسب دفقات الانبهار التي يرسلها.
إجابتي على سؤال الشعر والرواية إذن من المفترض أيضا أن لا تقدّم صنفا على صنف، فالشعر له ميزة ابتكار الصور الفنية العالية الجودة، والسمو بالمفردات العادية لجعلها تحلق بعيدا، وهو أساس نبش الخيال وإعادة إنتاجه، وهو إيضا ركيزة في فن الغناء الذي نعشقه جميعا.
فحين تقرأ قصيدة مثل “مديح الظل العالي” لمحمود درويش، أو “أعشاب صالحة للمضغ” لمحمد سليمان، أو أي قصيدة أخرى لأحد الشعراء المجيدين، تحسّ بتلك الأجنحة التي ارتدتها المفردات وحلقت بها، وتحس أيضا بأن لديك جناحين تشارك بهما في التحليق.
وبالرغم من أن محاولات عديدة وكثيفة جرت لتخريب الشعر في السنوات الأخيرة وأفقدته الكثير من هيبته القديمة، وتشرد كثير من متذوقيه، فإن وقع القصيدة الحقيقية يبقى، وما زال ثمة شعراء يكتبون تلك القصيدة الواعية، وتوزع كتبهم أفضل من الكتب السردية.
أيضا هناك مواضيع هامة يمكن أن يلخصها الشعر في ومضة، بينما تحتاج لرسم مجتمع وشخصيات وحوادث من أجل الحديث عنها في الرواية، مثل مواضيع السجن والنفي والتشرد وغيرها من المواضيع التي باتت من أهم سمات هذا العصر. وأقول إن ومضة الشاعر ستكون سهلة الوصول إلى المتلقي ولن تحتاج لوقت، بينما صفحات السارد قد تحتاج لذهن مفتوح، ووقت طويل من أجل دحرجة الفكرة إلى ذهن المتلقي.
لذلك وبالرغم من أن سكك الإبداع باتت تبدأ الآن من الرواية، وبرغم من أن عددا لا بأس به من الشعراء المترسخين في كتابة القصيدة وضعوا أقدامهم في درب الرواية، فإن عددا آخر لم يفعل وظل محافظا على موهبته الشعرية ويسعى لتطويرها، من أجل تلك الومضات التي ذكرتها، والتي تغني -بلا شك- عن وقت يحتاجه الشخص ليفكر في كتابة رواية، ثم يكتب خطوطها العريضة، وأخيرا يحاول إنجازها كاملا، وربما ينجح في ذلك وربما لا ينجح، ويتحول ما كتبه إلى مسودات ربما تضيع بمرور الزمن.
إذن بخصوص هذا السؤال -أي ما يقدمه الشعر وما تقدمه الرواية- أعتقد أنني أجبت، فكلٌّ يقدم حسب طاقة تحمله، وما يحمله من صفة إبداعية، وكلاهما أمر مبدع بلا شك.
سؤال آخر، بدأ الناس يسألونني إياه، حينما علّقت بطريقة غير مباشرة على موضوع ما يسمى القصة القصيرة جدا التي باتت أيضا منتشرة بشدة هذه الأيام وتقام لها مؤتمرات عديدة، وهناك كتاب للروايات أعرفهم بدؤوا يكتبونها وثمة نقاد تستهويهم وينظّرون لها. فقد وضعت في رواية أعمل عليها، شخصية كاتب قصة من هذا النوع، وبالطبع كتبت بعض القصص ونسبتها إليه، ونشرت مقطعا صغيرا من الرواية يحوي إحدى تلك القصص على صفحتي في موقع التوالصل الاجتماعي فيسبوك.
المغزى كان تعليقا غير مباشر على تلك القصص كما ذكرت، التي أرى في كثير من الأحيان إما أنها تتعدى على وظيفة الشعر، فتسرق جزءا من خصائصه بلا إجادة تامة، أو يتم تركيبها من عدة مفردات، في عدة سطور، ربما تطرح شيئا وربما لا تطرح أي شيء، لكن كتابها يصرون أنها إبداع صميم جدير بكتابته وقراءته. السؤال الذي يتكرر عندي الآن: لماذا لا تكتب هذا النوع من القصص وتنشره في كتاب؟
بالطبع معظم من يطرح هذا السؤال، إما كتّاب للقصة القصيرة جدا، واعتبروا ما نشرته بقلم شخصيتي أعمالا ناجحة وتستحق أن أمضي في ترسيخها بحيث تصبح من كتابتي.. هم بالقطع يطبّقون عليها رؤيتهم، كما أنهم يبحثون عن مؤازرة من كاتب روايات، بينما تختلف رؤيتي تماما، ولا أعتقد أنني كتبت شيئا ذا قيمة، أو أنني سأكتب هذا النوع من الكتابة مستقبلا.
فالباحث عن الومضة الصادمة التي تلخص حدثا ما يجدها في الشعر كما قلت، والباحث عن الحكي يجده في الرواية أو القصة القصيرة التي كان يكتبها أدباء الأجيال السابقة، وعدد من أدباء هذه الأيام. الحكاية القصيرة التي تكتب باختزال وفي نفس الوقت يتعرف إليها كل من يصادفها بأنها حكاية وليست شيئا آخر، لا تعرف ملامحه.
النوع الآخر ممن يطرح علي سؤال كتابة القصة القصيرة جدا، هم قراء مفتونون بها ويحاولون كتابتها من حين لآخر، ويطمحون أيضا في قراءة نماذج أكتبها أو يكتبها غيري ممن لهم زمن طويل في كتابة الروايات.
ولكي لا أكون قاسيا في حكمي على القصة القصيرة جدا، أقول بأنني ربما لم أقرأ منها كثيرا، ولم أتعرف إلى ملامحها جيدا، لكن فقط أتمنى أن تكون فرعا مبدعا من فروع الإبداع، لا مجموعة هذيانات غير واضحة، ولا تعطي أي ملمح أو متعة حقيقية عند مطالعتها.
أسئلة الكتابة كثيرة جدا، فما دامت الكتابة نشاطا من أنشطة الإنسان فلا بد من تساؤلات حولها، وهناك من يسأل عن وعي حين يقرأ لكاتب ويتذوق كتابته أو لا يتذوقها، وهناك من يسأل وهو لا يعرف شيئا عن الكاتب ولم يقرأ له شيئا، فقط مجرد أسئلة يمكن أن تسأل في نفس الوقت لكاتب مبتدئ أو عريق في الكتابة، لا فرق أبدا.
_________
*(الجزيرة نت )

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *