إنهم اللاجئون السوريون


*عبده وازن


إنهم اللاجئون. مرة تلو مرة. المشهد الملحمي هذا لا خاتمة له في عالمنا. أرتال من رجال ونسوة وأطفال يرحلون تحت الشمس وفي كنف الليل، في العراء، لا يدرون إلى أين يذهبون ولا إن كانوا سيصلون. عبروا القرى والتلال والصحراء، متوجهين صوب البحر، هذا الأزرق الكبير. ركبوا القوارب الصغيرة غير آبهين للأخطار التي تتهددهم. هم لم يبق لديهم أصلاً ما يخسرونه بعدما فقدوا أغلى ما يملكون: الأمل. صدّقوا الكذبة وجعلوها حقيقة. وراء البحر والأمواج العاتية تنتظرهم حياة أخرى، بيت وسرير آمن ورغيف وكأس ماء ونافذة تطل على سماء لا تسقط منها شهب النار…
إنهم اللاجئون. يمكن أن تُطلق عليهم أسماء أخرى ما داموا بلا هويــات ولا وطـــن ولا أرض: الـــنازحون، المهجرون، الهاربون، التائهون، المنفيون… ليُسمّهم العالم كما يشاء، ما داموا قد عبروا حدود بلادهم التي لم تبق البلاد- الأم، البلاد التي لم ترحمهم، التي رمتهم مثل الغرباء في قلب القفر وعلى الشواطئ.
إنهم اللاجئون السوريون. مَن كان يتصور أن مئات السوريين، آلاف السوريين، سيستيقظون يوماً ليجدوا أنفسهم لاجئين، هنا وهناك وهنالك، تحت الخيم وفي الغابات والمغاور…؟ في بلادهم التي أضحت جحيماً مفتوحاً، تحت نيران نظام ظالم وجماعات إرهابية طالعة من سديم التاريخ، لم تبق لهم منازل ولا حقول ولا ساحات ولا أرصفة، لم يبق لهم ماض ولا حاضر، لم تبق لهم حياة ولا فتات حياة.
إنهم اللاجئون السوريون. سئموا الانتظار الطويل والمضني والذليل أمام أبواب السفارات في بيروت وعمان واسطنبول… سئموا الاصطفاف أمام محافل الجمعيات الدولية، جمعيات الشفقة والرأفة، لينالوا بطاقات تؤكد أنهم بشر ويحق لهم أن يعيشوا ولو شظفاً. سئموا أيضاً مهنة التسول على أدراج مقرات الامن والاستخبارات، ليتمّ التأكد من أنهم ليسوا عملاء ولا إرهابيين ولا…
إنهم اللاجئون السوريون. أبصرناهم يخوضون غمار البحر بلا هوادة. يركبون السفن الصغيرة غير عابئين بما ينتظرهم هناك، في المقلب الآخر. لم يخافوا الأمواج تتقاذفهم ولا هبوب الرياح في عرض المياه. لم يخشوا الغرق ولا دوامات الماء تــــقذفهـــم إلى الشـــواطئ جثـــثاً. لم تُخـــفهم صور الغرقى الذين ردّهم البحر أشلاء، أفراداً وجماعات. حتى منظر الطفل أيان لم يؤثر فيهم. أنظارهم إلى الأمام، إلى بلاد البرد والمطر، إلى المنفى المجهول الذي مهما بلغت قسوته يظل أرحم من بلادهم. قرروا ألا ينظروا إلى الوراء، قرروا أن ينسوا كل ما كان لهم، ماضيهم والذكريات. نحن بكينا الطفل إيان، بكينا كل الضحايا الذين ماتوا ميتاتهم الرهيبة، أما هم فقرروا ألا يبكوا بعد اليوم.
إنهم اللاجئون. أبصرناهم يغادرون سفنهم البائسة راكضين نحو شواطئ الرمل وكأنهم لا يصدقون أنهم وصلوا، وصلوا إلى الجنة التي وعدوا أنفسهم بها. إنها الجنة ولو بلا شجر ولا ثمار ولا أنهر. إنها الجنة ولو بحـــراس قساة، يحملون الهراوات، يعزلونهم ويهـــينونهم ويســوقونهم كالقطيع… وأياً يكن حالهم، أياً تكن مذلتهم… فلا بشار هنا، ولا داعش ولا النصرة ولا وحوش ولا… أما حملات الكراهية التي واجهتهم في أحيان، الحملات العنصرية والطائفية التي قامت ضدهم في مدن عدة، فهي تظل أشدّ رأفة من براميل البارود وسكاكين الذبح وأقفاص التعذيب. ومهما بدت الأيام المقبلة مجهولة فهي ستحمل إليهم قليلاً من أمل فقدوه تماماً هناك. هناك الذي أصبح بعيداً.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *