القاهرة- في مصر فقط تم اختزال حركة التجديد الشعري، المعروفة باسم «حركة الشعر الحرّ» في فرسي رهان هما: صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، الأول انتصر للفن الخالص، والثاني أخذ يمزج بين السياسي والفني، فله ديوان كامل، قصيدة واحدة، في تمجيد الثورة الجزائرية «أوراس»، وقصائد في الاتحاد الاشتراكي والثورة وجمال عبد الناصر، وإن كان في مرحلته الأخيرة قد أجرى مراجعات لأغلب ما نشأ وتربى عليه من أفكار.
صلاح عبد الصبور ظل في مصر، لم يغادرها شأن كثير من الأدباء الذين اضطروا إلى مغادرة البلاد إلى المنافي المختلفة، تحت وطأة ضرب نظام السادات للثقافة والمثقفين. كانت أغلب العقول الثقافية خارج الوطن، وبقي عبد الصبور وحده يصارع أزماته الوجودية في صمت قاتل، بينما كان حجازي في باريس في رحلة استمرت ما يزيد على خمسة عشر عاماً، وانتهت بعد مصرع السادات، ليعود إلى البلاد كاتباً في صحيفة «الأهرام»، وكان عبد الصبور على وشك أن يودع العالم بعد سهرة في بيت حجازي.
كتب حجازي سيرته الشعرية في كتاب «الشعر رفيقي»، وتبدأ من فصل عنوانه «الخروج من الأسطورة»، ليقدم فيما بعد، خبرته في «الرؤية والتجربة»، ويضيء ما خفي علينا في علاقته بصلاح عبد الصبور، الذي كان يعمل معه في مؤسسة «روز اليوسف»، في مقتبل العمر، إضافة إلى تضمينه رسائل متبادلة بينه وبين الشاعر أمل دنقل، إلى جانب حوار دار بينه وبين أدونيس في المغرب، دون اتفاق أو قصد منهما.
يبدأ الكشف لدى حجازي من الزمن، من الظهيرة «التي يهرب منها الإنسان بالذهول والحلم»، ففي تلك الساعات وعى الطفل على الأم، وهي تجلس وحدها في الباحة الفسيحة، تبكي إخوتها الأربعة، وقد ماتوا في اكتمال الشباب، وبذلك كانت صور «التعديد» وإيقاعات النواح ينبوعاً من ينابيع الشعر عنده، ويعترف بأنه حاول في قصائد عدة أن يقبض على هذه اللحظات، لكنه كان يخفق دائماً، مؤكداً أن محمود حسن إسماعيل، ومحمد عفيفي مطر، ربما وصلا إلى أعماق حقيقية في قصائدهما عن الظهيرة.
أولى محاولات حجازي الإبداعية كانت في النحت، لأنه لم يكن كبقية الأطفال يحب اللعب بالطين، ويصف هذا بالترفع، ولأنه كان منشغلاً بموضوع الموت اتجه إلى النحت بالحجر، وفي ذهنه التمثال الفرعوني الذي يجسّد المعنى والنموذج، والتمثال الإغريقي الذي يخلد حالات الجسد العابرة وملامحه الشخصية الفردية، ثم انتقل إلى الموسيقى محاولاً أن يتعلم العزف على الكمان.
وسعى لأن يتعلم العزف على العود، لكنه انصرف عن الموسيقى، حين بدأ ينظم أولى قصائده، معترفاً بفضل «فتيين أزهريين» يكبرانه بسنوات، أحدهما كما يقول: «كان يصحّح أوزان محاولاتي البائسة بصبر لا ينفد، وتشجيع أنقذني من السقوط في هاوية اليأس، وأنا أحاول عبثاً أن أسيطر على إيقاعات، لم تكن في يدي آنذاك أقل صلابة أو خشونة من حجارة تماثيلي».
وبفضل هذا الأزهري، وبفضل تجربة عاطفية أولى، تعلم حجازي الوزن، قبل أن يتعلم العروض، ثم انتقل بعد ذلك عما يريد قوله في هذه الأوزان، وكان الفضل في ذلك للفتى الأزهري الثاني الذي كان قارئاً لتوفيق الحكيم، وعبد الرحمن بدوي، وبشر فارس، فعلى يديه تلقى أول درس في فكرة العلاقات، بوصفها جوهر التشكيل، وفكرة «التيمة» الأساسية التي يجعلها الفنان مصيدة حسب تعبير حجازي أو طعماً لاكتشاف عالمه، والتي تتكرر في أعماله كلها، وتتخذ صوراً وأحوالاً متعددة.
وعن طريق هذا الفتى نشر حجازي أولى قصائده في مجلة «الرسالة الجديدة»، وكلها قصائد رومانتيكية، تلتزم الأشكال الموروثة في الوزن والقافية، متأثراً برمزية محمود حسن إسماعيل، الذي يصفه بأنه «أستاذي في الشعر بلا منازع»، وفيما بعد تعرف إلى الكبار توفيق الحكيم، وطه حسين، وهيكل وغيرهم.
وكان العقاد خصماً عنيداً لحركة التجديد، وانبرى حجازي في هجائه بقصيدة لاذعة، ثم ذهب لزيارته في بيته، رفقة سعد الدين وهبة، وخرج من بيته قائلاً: «لا أحسّ بقربى نفسية لأحد من الكبار، كما أحس بها للعقاد»، وقد كتب بعد ذلك قصيدة تردّ الاعتبار للعقاد، وكأنها اعتذار عن هجائيته له في طيش الشباب، واندفاعاته المتهورة.
أحيط حجازي برعاية كثُر حين قدم إلى القاهرة، ويقرّ بأن: «الصداقة التي ربطتني برجاء النقاش منحتني عوناً نفسياً عميق الأثر»، لكن من ساعده في بناء ثقافته هو لويس عوض، يقول: «ربطتني به إلى ما قبل رحيلي إلى باريس علاقة مرتبكة، فقد كنت أخالفه، ولا أزال، في عدد من آرائه الثقافية ونظرياته السياسية، لكن حواري الدائم معه كان عنصراً فعالاً فيما اكتسبته معارفي المتواضعة من تنظيم ووضوح وترابط».
كانت القصيدة الأولى التي قدمت حجازي شاعراً مجدداً هي «الطريق إلى السيدة»، وقد نشرتها «الرسالة الجديدة» عام 1955، وفي هذا التوقيت كانت المعارك الصحافية حيال القصيدة الجديدة في أوج اشتعالها، حيث يقول: «تبادلت فيها إلى جانب زملائي مع الشعراء والنقاد المحافظين أقسى الاتهامات، لكني أعترف الآن بكل موضوعية بأن معرفتنا بالشعر القديم في ذلك الوقت لم تكن أفضل من معرفة خصومنا بشعرنا الجديد».
في عام 1959، صدر ديوان حجازي الأول «مدينة بلا قلب» وكما يقول: «اعتبرني النقاد مسؤولاً عن باب المدينة والقرية في الشعر العربي المعاصر، لكن دواويني التالية كانت صدمة لهم، لأن ما فيها من شعر عن هذا الموضوع أخذ يتناقص، وهكذا وقعوا في حيرة البحث لي عن تخصّص آخر، فلم يوفق أكثرهم، وظل الديوان الأول مرجعهم الأساسي في الحديث عني حتى الآن».
يعترف حجازي: «لم أكن أنا أول من كتب حول الريف والمدينة في الشعر العربي، فهذا موضوع قديم قدم هذا الشعر، وإنما أنا الذي حاول في مجموعة شعرية كاملة أن يضيف شيئاً جديداً إلى ما قيل في هذا الموضوع»، لم يكن الديوان رفضاً للمدينة، ولا تشبثاً بالقرية، وإنما كان شعوراً بالانقطاع، ومحاولة لمدّ الجذور في أرض المستقبل، كان محاولة للتغلغل في تفاصيل عالم معاد غير مفهوم، ورغبة في الكشف عن مأساة الانتقال إلى عصر آخر، غير العصر الذي قدم منه، وكان الديوان رهاناً على تحويل موضوعات النثر إلى موضوعات لشعر من نوع جديد، تأكيداً لمشروعية القصيدة الجديدة.
وهذا ما دفع النقاد إلى أن ينسبوه إلى موضوع المدينة، أو اعتباره شاعراً سياسياً، لكنه يرى: «أن معظم هؤلاء النقاد قد وقفوا عند الظاهر ولم يتجاوزوه إلى حقيقة شعري، ولا شك في أنني مسؤول إلى حد ما عن تضليلهم باللغة البسيطة المباشرة، التي تميّزت بها أشعاري، وخاصة في المجموعات الثلاث الأولى (مدينة بلا قلب، أوراس، لم يبق إلا الاعتراف)، لكن لا شك أيضاً في مسؤوليتهم هم عما وقعوا فيه، بسبب قراءتهم للشعر من خلال موضوعاته الخارجية ومنطوقاته النثرية، دون البحث عن الدلالات الخاصة لهذه الموضوعات، بتحليل لغة الشاعر وطريقته في الأداء».
من أعذب فصول تلك السيرة التي كتبت على أزمنة متقطعة، ما جاء بشأن صلاح عبد الصبور، الذي يقول عنه حجازي: «كنا زميلين متكاملين كثيراً ومتنافسين أحياناً، ولقد تعلمت منه شيئاً نافعاً، هو أن حاجتنا للحلم لا تحمينا دائماً من وقوع الكابوس»، وكان اللقاء الأول بينهما في أواخر عام 1955 فاتراً، إلى أن ضمّهما مكان عمل واحد، ويكشف حجازي عن علاقتهما الملتبسة قائلاً: «عندما التقينا للمرة الأولى كنت شاباً في العشرين مغلقاً على إحساس فادح بالموهبة والاضطهاد، وكنت قد قرأت لعبد الصبور الذي كان يكبرني بأربع سنوات، قصائده الطليعية التي بدت لي آنذاك نثراً، بالمقارنة بشعري الرمزي، لكنه كان قد أصبح مشهوراً، ولم أكن أنا إلا شاعراً مبتدئاً». إلى أن يقول: «كان في الخامسة والعشرين حين تحقق له كل شيء، الشهرة والعمل المرموق والأجر المجزي، ورضي الجميع بمن فيهم الدولة التي اختارته ضمن النادرين من أبناء جيله، لتخلع عليه أوسمتها وجوائزها، وتعهد إليه منذ أواسط الستينات بإدارة عدد من أهم مؤسّساتها الثقافية».
مثل هذه العبارات تمثل مفتاحاً مهماً لفهم طبيعة العلاقة بين الشاعرين، والتي انتهت بموت أحدهما في بيت الآخر، وفيما يشبه الرثاء يكتب حجازي: «أشعر أنني أفهم الآن عبد الصبور أفضل مما فهمته في حياته، ولهذا أحسّ بندم شديد، ويتضاعف شعوري بالخسارة، لأني لم أبذل مثل هذا المجهود لفهمه وهو إلى جانبي».
الندم نفسه سيجربه حجازي مع أمل دنقل، حين كان الثاني على سرير الموت، فها هو يكتب: «كنت قد وعدتك في نهاية رسالتي الأخيرة أن أكتب لك بعض خواطري عن السخرية في شعرك، لشدّ ما أشعر بالندم لأني لم أكتب هذه الرسالة في وقتها المناسب، وأذكر أنك سألتني مرة أو مرتين أن أكتب رأيي في شعرك، لم تكن محتاجاً إلى اعتراف مني أو من غيري، بل كنت تتلمّس دفء الصديق».
هذه الرسالة كتبها حجازي بعد رحيل أمل بعامين، لكنه في رسالة أخرى كتبها إليه في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1982 يقول: «تقول إنك تتلمذت عليّ، وهذا التصريح لا يقدر عليه تلميذ، ولعلك كنت مجاملاً على غير العادة، ولعلك كنت تردّ عني حملات الكراهية ومؤامرات الصمت التي ظلت تحاك ضد شعري وأنا غائب، وأعلم أنك قد أغظت بعض الناس حين فعلت، فقد جعلت لي امتداداً، وسلحتني باسمك الشائك المتلألئ».
_______
*المصدر: الخليج الثقافي