اللاجئون والسَفَر المُقدّس


رلى راشد


يحلو للبعض أن يطلق عليهم إسم المهاجرين بينما يصحّح آخرون التسمية مؤكدين أنهم لاجئون. غير أن التحديدين يعاينان صنفاً واحداً من البشر قذفتهم أهواء الأمم وأحقاد الأنظمة وبئس الأقدار إلى طريق الرحيل، فحملوا شتات ذكرياتهم في قدحات عيونهم وأضغاث أحلامهم في كيس أو حقيبة، وصفقوا أبواب بلادهم المخلّعة في معظم الأحيان، وذهبوا.

هؤلاء الوافدون إلى القارة العجوز أوروبا أخيرا بعدما بلغت الأزمات في بلادهم المختلفة فصولا متقدّمة ليسوا سوى نسخة منقحة من تقليد قديم، من حركة نزوح بشرية ذات دوافع سياسية أو اقتصادية شمَلت ناسا توجّب عليهم أن يحملوا لعنة سرمديّة لن يسهل نزعها عنهم، ذلك انهم سيصبحون في معنى ما، غرباء في أوطانهم البديلة وسيتحولون في اللحظة عينها، إلى غرباء في بلادهم الأًصليّة أيضا.
في “القاموس” إطلالة جيل دولوز التلفزيونية الفرنسية النفيسة والتي شملت حوارات مع الفيلسوف في موضوعات عدة، يشير دولوز وفي باب حرف “السين” – مثل سفر- إلى المهاجرين، مواربة. ففي حين يصنّف السفر في وجوهه المختلفة، يقرّ بأنه لا يكره السفر وإنما يمقت ظروفه، ليتمهّل عند نمط من الرحلات لا يمكن السخرية منه ويتعلّق بالمنفيين والمهاجرين. ينخرط هؤلاء، في عرفه، في أسفار قسرية، بل في “أسفار مقدّسة”.
يتراءى المصطلح ملائما تماما في سياق الحديث عن “المهاجرين” قسرا الذين يصيرون رُكّاب الأسفار المقدسة تاليا. والحال أن هؤلاء باتوا في الأيام الأخيرة بنداً طارئا على الأجندة الأوروبية، مما استدعى أن تقلبّ مجلة “لو ماغازين ليتيرير” الأدبية الفرنسية بعض صفحات محفوظاتها، لتستخرج منها نصوصاً منشورة سابقا وأدرجتها حديثا في ملفّ “المهاجرون في الأدب”.
غير أن الملفّ متعدد الوجهة، وإن حاول في المقام الأول اقتفاء إثر الفارين من الحروب أو الديكتاتوريات أو الجوع، وأحيانا من الثلاثة معاً وهؤلاء تسلّلوا على نحو ما، إلى قطعهم الأدبية ليقدموا البراهين على ما حصل وليحاولوا الإضاءة، على ما سيأتي. تفصح النصوص عن الكامن في النفوس، تحت قشرة الفكرة المعلّبة المنوطة بالرحلة الخلاصيّة بالنسبة للبعض، في حين توثق لصنف من الهجرات الطوعية ذات الأبعاد العقائدية أيضا.
الملف موزّع في صفحات عدة وفي نصوص منفصلة ويبدأ عند اندريه مالرو لينتهي عند لويجي دي روسيو. برزت الحرب الإسبانية هاجسا عند مالرو وها إن زميل الحرفة الكتابيّة خورخي سيمبرون يحلل في أحد النصوص صلته الشغوفة والملتبسة في آن مع إسبانيا. الموضوع شائق على أكثر من مستوى لأنه يوثّق لهجرة طوعيّة في حياة مالرو المدفوع بالتزامه جبهة الجمهوريين الإسبان في 1936، ونجد صداه في روايته “الأمل”.
النهار

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *