خورخي لويس بورخيس و”الشغف” بإسرائيل


*غدير أبو سنينة


يغيب عن البعض الوجه الآخر للأديب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس (1899-1986)، فهو من أكثر الكتاب اللاتينيين اهتماما بالثقافة اليهودية ومثقفيها كشونيم وهاينه وسبينوزا الذي كتب فيه قصائد يمجده فيها، لكن أبعد من ذلك يُمكننا القول إنه من أكثرهم انحيازا لإسرائيل.
انفتح بورخيس على معظم ثقافات العالم ونهل من نبعها ممّا أضفى أثرا جميلا على إبداعه الأدبي. ففيه تظهر روح الشرق المتمثلة في ألف ليلة وليلة وأنفاس الصوفيين العرب وأطياف الآداب الإسكندنافية والبوذية والأوروبية. غير أن ولع بورخيس بالثقافة اليهودية بدأ منذ معرفته باحتمال سريان الدم اليهودي في عروقه من جهة أمه التي كانت من أصول إسبانية وبرتغالية وبريطانية.
وفي إسبانيا تأثر بصديقه الأديب اليهودي كاسينوس أسينس الذي اعتبره بورخيس معلما له وقد عرفه على كثير من أبناء الجالية اليهودية في إسبانيا ليسطر فيه قصيدة يقول فيها: 
“شرب كمن يشرب نبيذا معتقا
المزامير وأناشيد الكتاب المقدس
وشعر أنه امتلك تلك الحلاوة
وشعر أن ذلك قدره”
تشير الباحثة إدنا آيزينبيرغ إلى أن بورخيس كان أرجنتينيا ولم يكن يهوديا، استخدم البوابة “السفاردية” للدخول إلى الثقافة اليهودية، حتى إنه انتمى لمركز الدراسات السفاردية عام 1965.
ونقل برناندو إزيكيل كورومبلت عن بورخيس قوله “أحد أسباب سعادتي أن أفكر أنه بإمكاني الانتماء لشعب موسى بن ميمون، لشعب إيهوذا هاليفي والسفيروت”.
بورخيس و”الكابالا”
ويبدو ذلك الشغف بالعرق اليهودي في قصيدة “إلى إسرائيل” التي كتبها عام 1967 وهو العام الذي عرف العرب فيه مسمى سياسيا اسمه “النكسة”:
“من سيخبرني إن كنت تجرين
في متاهة أنهار دمي الضائعة منذ قرون
يا إسرائيل؟
في أي الأماكن طافت دماؤنا؟
لا يهم، أعلم أنك:
في الكتاب المقدس المطوق للزمن
في تاريخ آدم الأحمر 
وفي ذاكرة وعذاب المصلوب.
في هذا الكتاب أنت، 
مرآة تُرى فيها: 
الوجوهُ المنحنية على نفسها
ووجه الرب الكريستالي القاسي
حيث الفزع في الثنايا.
بوركت يا إسرائيل، لتحمي جدار الرب
في قلب المعركة”.
تشكل الكابالا (الصوفية اليهودية) محورا رئيسيا في إثبات علاقة بورخيس باليهودية. ويبدو تأثره بالكابالا واتجاهها الصوفي في كتابه “الألف”، رغم إشارة بعض النقاد العرب إلى تأثره بالصوفية الإسلامية وتحديدا ابن عربي.
يرى بورخيس وأيضا الكابالا أن للكلمة والحرف معنى خفيا، وهما يتمتعان بذات قداسة الكتاب. وهذا تماما ما طبَّقه الكاباليون على دراسة الكتابة، إذ تتنزل -بحسب اعتقادهم- الروح القدس على الأدب فيُنتج كتابا بعيدا عن المصادفة. إنهم ينطلقون من قاعدة أن الكتابة نصٌّ مطلق، وفي النص المطلق لا يُمكن لشيء أن يكون عملا خاضعا للمصادفة.
وكما هي الحال عند الكاباليين، عمل بورخيس على تخصيص نتاجه الأدبي للكشف عن سر الخلق الكوني باعتباره غائيَّتهم اللانهائية، إلا أن السّمة المستحيلة لتلك المحاولة هي ما تستهويه، مؤمنا أن الكاباليين لم يكتبوا كي يُسهّلوا الحقيقة، بل كي يُلمِحوا إليها ويُحَفٍّزوا بحثهم.
لقد كانت أعمال بورخيس تعتمد على محورين: الكتابة ترميزا للعالم، والقراءة فكّا لذلك الترميز. ويتمثًّل هذان المحوران ببُعدين في أدبه. فمن ناحية يؤسّسان له، وفيهما يتمكّنُ الكاتب -تماما كما فعل الكاباليون- من إيجاد قصدٍ لعمله، ومن ناحية أخرى يُشكلان المواضيع المفضلة التي تصور فيها بورخيس حججه الأدبية.
قلق على إسرائيل 
كان بورخيس يحمل حُبّا للقدس وإسرائيل، ونلمح ذلك في كتاباته وخطبه التي بدا فيها متأثرا بما تسمى “أرض الحليب والعسل”. في حين كانت الأحداث والأمثال التوراتية حاضرة دوما في قصائده وكتاباته، أما تصريحه الأكثر انحيازا فهو قوله “… من دون إسرائيل فإن التاريخ سيبدو غريبا. إسرائيل ليست فقط فكرة مهمة للحضارة، بل هي فكرة لا غنى عنها، لا يمكن تخيل الثقافة دون إسرائيل”.
وعن سؤاله حول ذلك، قال إنه يعود إلى اكتشافه أسماء مثل “أسيفيدو” و”بينيذو” -وهي عائلات يهودية إسبانية كانت من أوائل العائلات التي سكنت الأرجنتين- في عائلته. وتابع “وحتى وإن لم يثبت ذلك فإنني أريد التأكيد على ما قلته سابقا في أكثر من مناسبة: من المستحيل تخيل الحضارة الغربية دون الإغريق واليهود. ولهذا فإن كل شخص لديه شيء ما من تلك الحضارتين. وبذلك يمكنني التعبير عن شكري للشعب اليهودي، وقلقي على إسرائيل عند اندلاع حرب الأيام الستة”.
في تلك الحرب ظهر انحياز بورخيس لإسرائيل جليّا في القصيدة السابقة التي كتبها وأهداها إلى إسرائيل مبديا تعاطفه مع هذه “الأمة الشابة”، حسب تعبيره.
في العام 1971 كرمت إسرائيل بورخيس بمنحه “جائزة القدس” التي تعد أعلى تكريم تمنحه الدولة.
وقد عبر بورخيس عن سعادته بهذه الجائزة وبوجوده في القدس بقوله “لا توجد مدينة في العالم بأسره يتوق المرء إليها كالقدس. إنها الكأس التي تنسكب وتتراكم فيها الأحلام والتهجدات والصلوات ودموع من لم يرها قط لكنه شعر بجوع وعطش نحوها”.
ويمكن للقارئ أن يستشف هذا الشغف بإسرائيل من خلال قصيدة أخرى وليست أخيرة كتبها عام 1969:
خشيت على إسرائيل 
من هذا الحنين المتربص بعذوبة ماكرة
المتراكم ككنز حزين منذ قرون الشتات:
في مدن الجحيم، في الأحياء اليهودية،
في نهايات السهوب، في الأحلام،
حنين أؤلئك الذين يتوقون إليك يا قدس،
بجانب مياه بابل،
ماذا كنت غير هذا الحنين يا إسرائيل؟
غير تلك الرغبة في النجاة من تقلبات الزمن؟
غير كتابك القديم الساحر
غير صلواتك وعزلتك مع الرب؟
ليس الأمر هكذا. 
فأقدم الأمم هي أكثرها شبابا،
لم تُغرِها أسماء الجنائن،
ولا الذهب وضجره
بل بإصرار كانت: وطنا أخيرا.
قالتها إسرائيل دون كلمات:
ستنسين من أنتِ
ستنسين الآخر الذي تركتِهِ
ستنسين من كنتِ في البلاد
التي منحتكِ مساءاتها وصباحاتها
والتي لم تمنحنها حنينك
ستنسين لغة آبائك وتتعلمين لغة الفردوس
ستكونين إسرائيل، ستكونين جنديا
ستبنين مستنقعات الوطن، ستعمّرين صحاريه.
سيكون أخوك الذي لم تريْ وجهه قط
بجانبك
فقط نعدك بأمر واحد
أن يكون لك مكان في المعركة.
صاحب “كتاب الرمل” و”المرايا والمتاهات” يعدّ من أبرز كتاب القرن العشرين والإقرار بهذا لا يصادر حق القارئ في تقليب الصورة من زوايا مغايرة في المرايا ذاتها والمتاهات نفسها، ليجد أن بورخيس كان منحازا بشكل كبير لإسرائيل، ولم يطوّر رؤية نقدية لهذا الكيان وممارساته، على عكس أدباء كبار، بينهم البرتغالي خوسيه ساراماغو (نوبل 1998) والنيجيري ولي سوينكا (نوبل 1986) والألماني غونتر غراس (نوبل 1999).
_______
*المصدر: الجزيرة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *