من أدب الرحلات/ أيوا.. البحث عن إيقاع ما (10)


*محمود شقير


خاص ( ثقافات )


أيوا بعد هذا التجوال
1
أجلس في صالة مطار لاجارديا في نيويورك.
الساعة الآن العاشرة صباحاً. في الثانية عشرة تقلع الطائرة إلى شيكاغو، ومن ثم إلى سيدار رابيدس، حيث أصل إلى السكن الجامعي في مدينة أيوا في الرابعة والنصف مساء. أصل مبكراً إلى المطار لتجنب المفاجآت غير السارة، أجلس في مقهى بالمطار وأشرب الشاي. 
أوصلني في سيارته إلى المطار سائق أمريكي من أصل هندي. هذه الأمة الأمريكية عجيبة! تتكون من خليط متنوع من البشر. يوم أمس، وأنا متجه إلى متحف الفن المعاصر في مانهاتن، اكتشفت أن سائق السيارة مصري، عرفت ذلك من اسمه المسجّل على لوحة في السيارة: عادل سالم. (قبل عشرين سنة، كنت مدرساً في مدرسة الفالوجة بعمان، (الفالوجة اسم قرية فلسطينية سقطت في أيدي القوات الصهيونية العام 1948)كان لي زميل مدرس يحمل الاسم نفسه. أين هو الآن زميلي القديم عادل سالم؟ وما هي أحوال مدرسة الفالوجة الآن!) ليلة أمس، حينما كنت عائداً من مقهى في شارع برودواي، أعادني إلى فندق هوارد جونسون في شارع بارك أفنيو، سائق سيارة من أصل باكستاني. ثمة أناس كثيرون من شتى أنحاء المعمورة يهاجرون إلى هذه البلاد، كلما تيسر لهم ذلك، بحثاً عن عمل. قال لي السائق المصري وهو يشير إلى باعة البسطات في الشارع المحاذي للمتحف: هؤلاء كلهم عرب، وهم بالكاد يحصلون على قوت يومهم.
بقيتْ ساعة واحدة لإقلاع الطائرة. أشعر بارتياح لأنني هنا في المطار. بعد اثني عشر يوماً من التجوال في بعض المدن الأمريكية، أعود إلى أيوا، حيث الهدوء والبساطة، حيث الرحلة توشك على الانقضاء. لم يبق سوى اثنين وعشرين يوماً للعودة إلى الوطن. 
أغادر المقهى إلى البوابة المفضية إلى الطائرة. الطقس دافئ مع بعض نسمات باردة تهب بين الحين والآخر.
2
استيقظت من النوم، كانت الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل. 
صحوت على صوت التلفاز الذي واصل البث فيما كنت نائماً. الغرفة مضاءة، وثمة سكون شديد يعم المكان. الطقس دافئ في الغرفة، وفي الخارج مطر متقطع تنكشف قطراته النازلة من السماء تحت أضواء المصابيح. 
لم أغادر غرفتي منذ وصلت السكن الجامعي مساء السبت. سائق التاكسي الذي أوصلني بسيارته إلى السكن، قال إننا أقوام مختلفة. بيننا ما هو مشترك، وهو كثير، وبيننا جماعات متطرفة تحمل السلاح ولها برامج خطرة. طبعاً ليس لهذا السبب لم أغادر الغرفة، إنما لأنني عدت مصاباً بالرشح، تناولت حبتين من الإسبرين وشربت الميرمية. وجدت في صندوق بريدي رسالة من بيتر ستيل (بورت لاند) يشكرني فيها على المشاركة في تقديم نص للقراءات المسرحية هناك. كان الطابق الثامن في ماي فلور، حينما وصلته عائداً من الرحلة، ساكناً تماماً. تأملت أسماء الزملاء والزميلات على أبواب الغرف. الغياب هو سيد الموقف والمكان موحش من دون ساكنيه. مع ذلك، اغتبطت بوحدتي. كنت بحاجة إلى شيء من الهدوء بعد كل هذا الصخب في مانهاتن وهيوستن. 
نمت نوماً عميقاً. في الصباح الباكر (صباح الأحد) صحوت من النوم مبكراً، قرأت في رواية “عربسك” لأنطون شماس، استمتعت وأنا أتابع وصفه لماي فلور وأيوا وبعض الأماكن التي زارها الكاتب مع زملائه الكتاب. إنها الأماكن نفسها التي زرتها مع زملائي الكتاب. (كنت قرأت الرواية للمرة الأولى، مترجمة من العبرية إلى الانجليزية، في عمان، قبل سبع سنوات) أنطون يوظف الأشخاص والأماكن في الوطن وفي المنفى بذكاء، للبحث في تنوع هويات الفلسطينيين المفروضة عليهم أو المكتسبة، وفي التباس هذه الهويات وتمزقها، وفي ما يعنيه ذلك من ألم وحيرة وتناقضات.
بقيت طوال يوم الأحد في الغرفة. كنت أقف في النافذة بين الحين والآخر، أتأمل أوراق الغابة الصفراء، تتساقط ذابلة نحو الأرض معلنة بلوغ الخريف مداه. ثمة مطر خفيف يهطل على المبنى، رحت أتأمل حياتي وأواصل الاغتباط بوحدتي.
3
انقضت بضعة أيام. 
عاد الزملاء والزميلات إلى أيوا. عادت الحياة إلى الطابق الثامن في ماي فلور. فيما كنت قادماً من الخارج، غادرت المصعد متجهاً إلى غرفتي. فجأة، سمعت صوتاً يناديني من جهة غرفة الغسيل في طرف الممر. انتبهت، إنها كانغ بعد عودتها إلى أيوا. ركضت نحوي، سلمت عليّ بحرارة. سلمت عليها بالمثل، وكنت مسروراً لرؤيتها. تبادلنا كلمات سريعة حول هذا التجوال، ثم افترقنا. (بعد نيويورك ذهبتْ إلى واشنطن) عادت هي إلى مواصلة غسل ملابسها، ودخلت أنا إلى غرفتي.
ولم نجتمع كلنا مرة أخرى، إلا حينما ذهبنا لتناول طعام الغداء في بيت أحد المزارعين. سارت بنا السيارات خارج المدينة، دخلنا شارعاً يفضي إلى حقول فسيحة. (سأتذكر هذه الحقول وأنا أشاهد في الوطن فيلم “جسور مقاطعة ماديسون” الذي يتحدث عن قصة عشق في ولاية أيوا، قصة عشق مفاجئة، من دون تخطيط مسبق، بين رجل عابر وربة بيت محبة لزوجها كما بدا من سياق الفيلم. تقوم بدور البطولة في الفيلم، الممثلة ميريل ستريب والممثل كلينت إيستوود، سأتذكر رواية نورا أمين “قميص وردي فارغ” التي تذهب بطلتها صحبة حبيبها، لمشاهدة الفيلم نفسه في دار للسينما في القاهرة) كان الثلج يغطي الحقول، إنما من دون كثافة ملموسة، إذ تساقط الليلة قبل الماضية، وهو آخذ في الذوبان. 
وصلنا إلى البيت الذي ينهض فوق تلة غير مرتفعة. ثمة عدد من المزارعين وزوجاتهم في استقبالنا. تبادلنا أحاديث متفرقة ثم تناولنا طعاماً شهياً، بعض قطع من لحم الديك الرومي مع خضار. شكا المزارعون من أوضاعهم الاقتصادية غير المواتية، خصوصاً حينما لا تكون عوامل الطبيعة مساعدة لمحاصيلهم. مع ذلك، لاحظت الراحة على ملامحهم. لديهم رغبة واضحة في المزاح وفي الاستماع إلى الأحاديث المرحة التي يعقبها ضحك صادر من الأعماق. كان البيت واسعاً، جلسنا في صالة اتسعت لحوالي ثلاثين شخصاً. تحدثنا باختصار عن أنفسنا، عن عائلاتنا وأطفالنا. حينما قلت إن لي بنتين وثلاثة أولاد، استكثرت النسوة هذا العدد، أبدين دهشتهن، ثم دار الحديث ودار. بيتر نازاريث هو الوحيد الذي لم يتحدث باختصار. أسهب في سرد النوادر والحكايات، وكان حديثه شائقاً. 
ذهبت في المساء أنا والكاتبة الليتوانية، يوراتا، التي وصلت قبل أسبوع إلى السكن الجامعي، إلى مكتبة بريري لايتس، حيث يتعين عليها أن تقرأ بعض قصصها القصيرة. مرت الحافلة للمرة الأولى في شوارع لم أعرفها من قبل، مررنا بعدد من الأحياء التي تقع فيها ملاعب المدينة ومستشفى الجامعة ومنشآت أخرى. بدت جولة الحافلة مسلية، ويوراتا تلتهم بعيني طفلة مندهشة كل ما تراه.
بعد ندوة بريري لايتس، عدت أنا ويوراتا إلى السكن الجامعي مشياً على الأقدام. كان الطقس رائقاً رغم البرودة، إذ لم يكن ثمة هواء يلفح الوجوه. السماء داكنة، وأوراق الشجر تنطرح على نحو محزن فوق الأرصفة: ها هو ذا الخريف يتداخل مع الشتاء، وها هي ذي البيوت التي ظلت محتجبة عن الأنظار بسبب كثافة الأشجار، فوق التلال الممتدة بين المدينة والسكن الجامعي، تظهر أمام أعيننا بأضوائها الناعسة.
غالبت الأسى الذي يتجمع في صدري ونمت. في اليوم التالي، لم أخرج من السكن الجامعي. 
كان الطقس ماطراً. ثمة ريح شديدة تجعل نوافذ المبنى تصطك على نحو مزعج. أفقت في الصباح الباكر على صوت الريح، وعلى اهتزازات النوافذ. تذكرت حلماً مزعجاً رأيته أثناء النوم: أبناء أسرتي يركبون الطائرة للسفر، الطائرة بعد وقت تسقط على الأرض، تصبح حطاماً. صحوت منزعجاً، تأملت الحلم المروّع وأنا في حالة من الذهول، ثم عدت إلى النوم حتى الثامنة والنصف.
في العاشرة، ذهبت إلى الطابق الأرضي لحضور اجتماع مع ممثلة المنظمة الأمريكية يو إس أيد، التي استضافتني لبرنامج الكتابة الدولي. تبادلنا الآراء حول أهمية هذا البرنامج وضرورة استمراره كل عام. ممثلة المنظمة، امرأة سوداء على مشارف الخمسين من عمرها، تعاملت معنا كما لو أننا تلاميذ مدرسة ثانوية. (ربما كان انطباعي ليس دقيقاً) كانت معنية بمعرفة مدى إتقاننا للغة الانجليزية وإمكانات استخدامنا لها في المستقبل، في الكتابة وفي شؤون الحياة. 
عدت إلى غرفتي، مكثت فيها قليلاً، ثم ذهبت إلى قاعة الكمبيوتر في الطابق الأرضي. قرأت بعض الأخبار في صحيفة الأيام الفلسطينية على الإنترنت. صعدت إلى الغرفة من جديد، لم أكن أشعر باستقرار. السماء ملبدة بالغيوم، والأشجار العارية على التلة المقابلة لنافذة غرفتي، تتمايل بعنف تحت ضغط الريح. المشهد المضطرب يثير الأسى في نفسي. قرأت بعض قصائد ويلدون كيز، ثمة نزعة تشاؤم واضحة فيها. قرأت بعض صفحات متفرقة في رواية “باب العامود” للكاتب الأمريكي روبرت ستون، إنها رواية سخيفة تقع في خمسمائة صفحة.
في المساء، انعقدت الندوة التي يشرف عليها بيتر نازاريث. قرأت يوراتا قصتين من تأليفها، ولم تشدني قراءتها. (أخذت كانغ مفتاح غرفتي، وغادرت الندوة لكي تشاهد شريطاً خاصاً بها، على جهاز الفيديو الموجود لدي) قرأ بيتر قصتين من تأليفه، فيهما تصوير ساخر لشخصيتين تشتملان على طرافة واضحة.
أقمنا حفلة في الطابق الثامن، في الفسحة المقابلة للمصعد. تجمعنا هناك، ثمة بيرة ونبيذ وبيبسي كولا وبعض المأكولات الخفيفة، وثمة موسيقى تنطلق من مسجل. جاء بيتر نازاريث وزوجته ماري، جاءت الطالبة اليهودية الأمريكية التي تشارك معنا في ورشة الترجمة. لم أعرف اسمها طوال هذه الأشهر الماضية، ولم أبادلها كلمة واحدة، ربما لأنها لم تظهر أية رغبة في التحدث معي. لم أشعر بأنني أكن لها عداء، كما لم أشعر بأنها تكن لي عداء.
استمعنا إلى الموسيقى ثم رقصنا. في أثناء ذلك جاءت المرأة اليابانية الشابة التي تقيم في الطابق الثامن بجوار أرنديز، (جاءت من اليابان بتكليف من إحدى الشركات، وتمكنت من استئجار غرفة في السكن الجامعي، وهذا أمر لا يحدث إلا على نحو نادر) حينما همّت بالخروج من المصعد، فوجئت بوجودنا في الفسحة غير بعيد من غرفتها، تراجعت نحو المصعد اعتقاداً منها أنها وصلت إلى المكان الخطأ، ثم عادت، بعد أن تأكدت أن ما شاهدته من رقص ومرح إنما يجري فعلاً أمام باب غرفتها. شاركتنا الاحتفال من باب المجاملة كما يبدو، استلمها أندرياش منذ اللحظات الأولى، راح يراقصها بطريقة تدلل على ثقته الزائدة في نفسه وفي علاقاته بالنساء، كان يسندها إلى صدره ثم ينحني بها يميناً وهي محتملة الرقص معه من دون انزعاج. 
رقص بيتر مع زوجته ماري. كانت له روح اجتماعية مرحة. رقص بحركات بطيئة هادئة تليق برجل تجاوز الستين من العمر. رقصتُ مع ماري وكانغ، ماري ترقص جيداً، كانغ وأنا لا نجيد الرقص. رقص الكاتب المولدافي بأسلوب صاخب، ورقصتْ آيتي رقصاً أنثوياً لافتاً للانتباه. (آيتي أهدتني قبعة من قش تصلح للطقس المشمس الحار، أهدت بقية الزملاء والزميلات هدايا بسيطة مناسبة) الكاتب النيبالي، مينت، رقص أيضاً، أتحفنا بحركات مضحكة أثناء الرقص، ما أدى إلى اندلاق شعره الأشيب الغزير فوق عينيه. يوراتا لم ترقص. بدت متحفظة متهيبة. ظلت تلوب حولي مثل طفلة مستاءة من شيء لا تستطيع معرفته أو تحديده. قلت في نزق مشيراً لها بيدي: اجلسي. جلست إلى جواري، ولم أبادلها أي كلام. (أمها كانت من أقطاب المعارضة للنظام السوفياتي. طبعاً، ليس لهذا السبب لم أبادلها الكلام، إنما لأن صوت الموسيقى كان يطغى على كل شيء سواه)
عدنا إلى غرفنا بعد انتهاء الحفلة. كنا ندرك أن تجمعنا المؤقت سوف يتحلل بالتدريج إلى أن يتلاشى مع تعاقب الأيام، وكان ذلك محزناً إلى حد ما. الساعة الآن الثانية عشرة والنصف ليلاً. الطقس بارد في الخارج، الريح العاصفة تبدو أقل حدة مما كانت عليه طوال ساعات. 
4
دعاني محمد إلى لاس فيجاس.
قال إن زيارة الولايات المتحدة الأمريكية لا تكتمل من دون الذهاب إلى المدينة المزروعة في قلب الصحراء. (اعتذرت عن عدم الذهاب إلى بورتوريكو تلبية لدعوة من محمد السلحوت، وهو ابن عم لمحمد المقيم في هيوستن. قلت له إنني غير قادر على المجيء إلى بورتوريكو بسبب التزامات في الجامعة) رحت أتهيأ للسفر إلى لاس فيجاس، ولم أشأ أن أصطحب الساعة الثمينة معي. استشرت ماريا نازاريث بشأنها. سألتُ إن كان ثمة مكان في السكن الجامعي لإيداع الأمانات فيه. قالت لا يوجد مثل هذا المكان. اقترحتْ علي أن أبقيها في غرفتي، لأن أحداً لن يدخلها في غيابي. صعدتُ فوق كرسي لكي أصل الرف العلوي القريب من السقف، لخزانة الملابس المثبتة في الحائط. أخفيت الساعة في الركن القصي من رف الخزانة، وقلت في نفسي: إن وقع لي مكروه وأدركني الموت ولم أعد إلى غرفتي، فلن يعثر أحد على هذه الساعة إلا بفعل الصدفة المحضة، ربما بعد سنوات.
سافرت إلى المدينة بعد ظهر يوم الخميس (12/11/1998). بعد انقضاء ساعة في الجو، هبطت الطائرة القادمة من سيدار رابيدس في مطار دنفر. سرت في المطار الفسيح متجهاً نحو الطائرة المغادرة إلى لاس فيجاس. جلستْ بجواري امرأة من باراغواي، عمرها اثنتان وثلاثون سنة، قالت إنها متزوجة من شخص إيراني. تعيش معه في مدينة دنفر. (يعجبني هذا الاختلاط البشري: إيراني يتزوج بنتاً من باراغواي، وقبل ثلاث سنوات تعرفت إلى شاب ألماني، مسؤول منظمة غير حكومية ألمانية في القدس، متزوج من فتاة فلسطينية) دعتني لزيارة المدينة، وللحلول ضيفاً في بيتها. شكرتها على الدعوة، أعجبت بسلوكها الاجتماعي السمح، وبرغبتها في التعرف إلى الناس. لاحظت من حديثها أنها امرأة قانعة بزواجها وبعملها (تعمل في العلاج الطبيعي) قالت إنها ستزور القدس في العام القادم. رحبت بها ضيفة في القدس، أعطتني عنوانها، وأعطيتها عنواني. (لم تزر القدس، أو ربما زارتها من دون أن تعلمني بذلك، ثم أضعت عنوانها. وربما أضاعت هي الأخرى عنواني).
حينما وصلنا مطار لاس فيجاس، دلتني على موقع سيارات الأجرة. ودعتها ومضيت. ظلت تنتظر أحد أقاربها، كي يأتي لينقلها في سيارته إلى بيت خالتها المقيمة في لاس فيجاس منذ ثلاثين عاماً. سائق سيارة الأجرة الذي أخذني إلى الفندق، اعتقد أنني يهودي حينما عرف أنني من القدس. لم أعلق على كلامه. (تذكرت قصيدة لفدوى طوقان قرأتها في مجلة الآداب اللبنانية قبل سنوات عديدة، تصف فيها موقفاً وقع لها في لندن، حينما اقترب منها شخص انجليزي قائلاً: طقس كئيب وسماؤنا أبداً ضبابية، من أين إسبانية؟/ أنا من روابي القدس، وطني السنى والشمس/ آه، عرفت، إذاً يهودية/ يا طعنة أهوت على كبدي صمّاءَ وحشية!) وجدت محمداً ينتظرني في بهو الاستقبال في فندق “نيويورك نيويورك”. فندق ضخم يتكون من عدد من البنايات المتلاصقة، ويشتمل على 2040 غرفة. نزلت في غرفة في الطابق الثامن عشر. نزل محمد في غرفة في الطابق الثلاثين.
لاس فيجاس مدينة جميلة، أقيمت منذ تسعين سنة في صحراء نيفادا، تعتمد أساساً على السياحة وكازينوهات القمار، عدد سكانها مليون ومائتي ألف نسمة. طقسها في شهر تشرين الثاني معتدل جاف. المدينة عامرة في الليل بالإضاءات المختلفة لأماكن باذخة عديدة: فنادق، مطاعم، مسارح، دور سينما، بارات، ونوادٍ ليلية. ثمة نوافير وتماثيل وأشجار وبشر من كل أنحاء الدنيا، كما لو أن المدينة في مهرجان.
تمشينا في المدينة أنا ومحمد، تناولنا الطعام في مطاعم تابعة لهذا الفندق أو ذاك. تفرجنا على لاعبي القمار في صالات الفنادق: ثمة ماكينات ضخمة يجلس خلفها لاعبو القمار، وطاولات للبوكر والروليت والبلاك جاك ألخ.. ثمة أناس كثيرون يتجولون في صالات الفنادق التي تشبه أسواقاً ضخمة، نساء متبرجات، وعاهرات يحاولن اصطياد الزبائن على الرغم من أعين رجال الشرطة الذين يتعقبون نشاطهن المحظور، بنوع من الصلف والغباء.
زرنا متحف توت عنخ آمون في فندق “الأقصر” الذي يشبه في تصميمه أحد الأهرامات المصرية، المتحف تافه، يحتوي على تماثيل لتوت عنخ آمون، هي تقليد للتماثيل الأصلية، ثمة بعض الرسوم التي صممت على غرار رسوم الفراعنة. المتحف ليس واسعاً، لا يشتمل إلا على بعض قطع الأثاث الفرعونية، وهي تقليد للأصل أيضاً. 
ثمة متحف خاص بحياة عازف بيانو أمريكي، توفي مؤخراً اسمه لبراتسي. المتحف يتضمن عرضاً للسيارات التي كان يقتنيها هذا العازف الثري، (بعضها من طراز رولس رويس) بعض السيارات مرصعة بزجاج لمّاع من نوع الزجاج الذي كان يرصع به ملابسه التي يظهر فيها أثناء العزف، الملابس كانت مطعمة بالذهب والألماس، يكلف الطاقم الواحد منها نصف مليون دولار أو أكثر قليلاً، قال لي محمد: كان الناس يتلهفون لرؤية هذا العازف، للتعرف إلى الزي الذي سيظهر فيه أثناء العزف. إنها الصرعات التي تثير فضول المجتمع الأمريكي، أو بعض القطاعات فيه، وتجعله ميالاً لمتابعتها. تفرجنا على الملابس التي كان يظهر فيها لبراتسي أثناء العزف، تفرجنا كذلك على الميداليات والأوسمة التي نالها في حياته. كانت ثمة معروضات لأثاث بيته وصوره مع بعض ذويه وأصدقائه.
في المساء، شاهدنا عرضاً فنياً اسمه “سيرك دو سوليل”. إنه عمل فني متعدد الأبعاد: موسيقى، رقص، أكروبات، ألعاب بهلوانية، حركات رياضية، تهريج، إضاءة متنوعة، مسرح متحرك، عشرات الممثلين والممثلات يتحركون في كل اتجاه. العرض يبدأ قبل أن يبدأ بالفعل. ثمة ممثل متخفّ بين الجمهور يتخذ لنفسه صفة مراقب القاعة، الذي يدل الناس على مقاعدهم. يدخل رجل مرتب الهندام تسبقه زوجته الأنيقة بملابس السهرة. يبادر المراقب إلى النظر في تذكرتيهما، يمشي أمامهما، يقودهما إلى المقعدين المخصصين لهما، يجتاز القاعة بهما من دون أن ينتبها، يدخل، وهما خلفه، إلى خشبة العرض. الجمهور يضحك للمفارقة الظريفة. الرجل وزوجته ينتبهان إلى المقلب، يضحكان ويعودان إلى المقعدين المخصصين لهما. تتكرر اللعبة مع آخرين، ويستمر الضحك. كانت القاعة ممتلئة، والجمهور بدا متجاوباً مع هذا العمل الفني الذي يعرض منذ سنوات. 
______
*روائي وقاص من فلسطين 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *