*بسمة النسور
مع استثناء مبدأ الالتزام القانوني المجرد، والتأمل في طبيعة العقد المبرم افتراضياً بين الكاتب وجمهور القراء، يمكن الاستنتاج، أنه ينتمي إلى ذلك الصنف من العقود ذات الصبغة الإذعانية. وبالتأكيد، فإن الكاتب هو الطرف الأضعف، لجملة أسباب، منها: إنه ملزم بالإفصاح عمّا في رأسه بشكل دوري، وملزم بالحماسة والاكتراث والتفاعل والانفعال بما يحدث في الكون وضواحيه، بغض النظر عن طقسه النفسي الخاص. وعن رغبته في الابتعاد عن كل شيء، أو عن حاجته التزام الصمت تحت وطأة الإحساس بلا جدوى الكلمات أحياناً.
ثمّة حالة من التأهب القصوى، يجد الكاتب نفسه متورطاً فيها. لا يملك إزاءها ترف الحياد، وتلقنه الحالة نفسها دروساً لا تخلو من قسوة، في كيفية النأي عن الذات وأوجاعها، كي يلبي توقعات الآخرين، ويظل حاضراً على مسرح الحياة لاعباً أساسياً، مهما اعترى روحه من إرهاق ونكوص.
ينطوي المخزون والمسكوت عنه، في العادة، على كآبة وانسحاب قسري من حياة منسحبة أصلاً من قبضة الحواس. كما أن المفصح عنه، وعلى الرغم من نسبة الافتضاح الجارحة أحياناً، يؤدي إلى تأكيد الوجود من خلال التواصل مع الآخرين علاجاً ناجعاً، يخفف من أعراض العزلة إلى حدها الأدنى، وذلك كله ضمن معادلة قدرية غامضة، لا فكاك من سطوتها.
وبناءً على اشتراطات هذه المعادلة، ينبغي أن يحس الكاتب بنقصٍ ما، حتى لو افترضنا توفر كل أسباب الاكتمال لديه، وإلا فقد مبررات الاستمرار في اللعبة، لأن الإحساس أن ثمة خللاً في مسار الأشياء، يحفّز على اتخاذ مبادرات مضادة في مواجهة الرتابة، باعتبارها موتاً بطيئاً، كفيلاً بإخماد ألق الروح.
علينا فعل شيء ما إزاء استفحال أعراض الرتابة التي يفرضها واقع سياسي واجتماعي مقيت، كأن نعبر عن حالة رفض حاسمة للوقوع في براثنها، ونصر على التصالح مع أرواحنا التواقة إلى الحرية، باعتبارها رديفاً للحياة نفسها. من هنا، ينبغي ألا نكف عن محاولات الاختلاف.
جميل أن نصدّق حكاية الوهج والبهاء التي ينعتنا بها بين حين وآخر قراءٌ محبون، شريطة ألا ننطلق منها باعتبارها يقيناً لا يمسه ارتياب. فحين نكف عن الريبة بما صنعت أيدينا، سوف نركن، مثل دببة قطبية كثيفة الفراء متهدلة الأطراف، في بيات ليس موسمياً، يفضي إلى مزيد من الغياب. ولنتذكر، دائماً، في معرض إقبالنا على الفعل الكتابي أن منجزنا لا يخلو من تفاوت.
كما أنه ليس لأحد مصادرة حق القارئ، باعتباره الطرف الأقوى، تلقي ما تقترفه أقلامنا بالشكل الذي يراه ملائماً، وإذا كنا، من حيث المبدأ، نرفض النص المكبل، ونصر على تمتع الكاتب بأقصى درجات الحرية، علينا، ومن باب أجدى، أن نطمح إلى متلقٍ، لا يقل وعياً واكتراثاً، باعتباره شريكاً استراتيجيا في المعادلة التي لا تحتمل أنصاف الحلول، ولا ترتضي بتسويات من أي نوع. فالأصل أن الضمير غير مستتر، بل واضح شديد الحضور مرجعية أساسية في خطابنا. إذا ما استثنينا، بطبيعة الحال، نفراً قليلاً من كتّاب، كشفت الأيام مقدار مأزقهم الإنساني والأخلاقي، ممن يتبنون أثر وهم النخبوية والتميز واحتكار المعرفة والنور خطاباً فوقياً غير مبرر، وقد ارتضوا لأنفسهم خيانة دماء الضحايا والانحياز لجبروت الطغاة، فسخروا أقلامهم خدمة للاستبداد، أينما ورد، متكئين على أسطوانة مشروخة، لا تخلو من تخوين، غير أن الرهان على درجة وعي القارئ القادر على التمييز بين الغث والسمين يظل قائماً، كي يثبت لهؤلاء أن لا وزن لهم في حركة التاريخ.
الهدف الأسمى من ورطتنا في فعل الكتابة أساساً يتلخص في محاولات فردية غير مضمونة النتائج، لإحداث تغييرات فعلية، وإن بدت طفيفة. تجعل الحياة أقل قسوة. وفي الأحوال جميعها، علينا أن نعترف أنه لن يتم الخلاص من واقعنا البائس الملتبس بفعل إعجازي خارق، بل هي درب الآلام شاقة طويلة، ما زلنا نتعثر بأول الخطوات فيها.
______
*المصدر: العربي الجديد