في “يوم مكافحة الانتحار”.. أسرار مبدعين أنهوا حياتهم


محمد فايز جاد


كلما ازدادت ثقافة الإنسان ازدادت تعاسته. هكذا ارتبطت دائمًا الثقافة بالتعاسة، فكلما ازددتَ وعيًا تفتحت عيناك على مساوئ هذا العالم ومآسيه، وازدادت صورة المستقبل قتامة وكآبة أمام عينيك. 
لكن هناك من المثقفين من لم يستطيعوا أن يتكيفوا مع هذه التعاسة، وأثقلت الثقافة كاهلهم حتى لم يعودوا قادرين على انتظار المستقبل الذي خبروه بأعينهم التي صارت أبعد نظرا، فقرروا الاحتجاج على ذلك التاريخ، ورفض هذا المستقبل، وآثروا – احتجاجًا – أن ينتحروا. 
في اليوم العالمي لمكافحة الانتحار (10 من سبتمبر)، نتذكر أن التاريخ الإنساني حافل بعدد مخيف من هؤلاء الذي قرروا إنهاء حياتهم بالانتحار، وعلى رأسهم المثقفون من أدباء وفنانين، الذين جاء احتجاجهم صاخبًا، كما كانت حياتهم من قبل. 
أسماء كثيرة، وكبيرة، في عالم الأدب والفن أقدمت على هذا الحل، لعل أبرزهم الكاتب الأمريكي الشهير إرنست هيمنجواي والروائية الإنجليزية فيرجينيا وولف والرسام الشهير فان جوخ وغيرهم وغيرهم ممن قرروا ألا يقل موتهم أهمية، وصيتا وشهرة، عن حياتهم. 
الأدباء والفنانون المصريون كان لهم نصيب من هذا الاحتجاج، فسجل لنا التاريخ عدة أسماء أقدمت على الانتحار لأسباب مختلفة، وبطرق مختلفة. 
الشاعر منير رمزي الذي ولد بمدينة الإسكندرية عام 1925 كان أحد السباقين في هذا المضمار. كان رمزي من أوائل من قدموا إرهاصات لما عرف بعد ذلك بقصيدة النثر، وذلك من خلال إنتاجه الضئيل الذي يقتصر على مجموعة شعرية تحمل عنوان “بريق الرماد” تجلت فيها نظرة رومانسية حزينة متشائمة في كثير من الأحيان، وكأنها كانت مقدمة للنهاية التي ينوي أن يختم بها حياته. 
من قصيدته “آلام وأحلام” نقرأ: 
أنا ما أنا؟ لا شيء 
مخلوقٌ تتجاذبهُ الأحزانُ وترتطمُ على صخرِ قلبهِ آلامٌ وأحلامٌ 
أحيا لأستمع إلى ألحان قلبي 
حينَ يهدأُ أو يثورْ 
كانتْ لي الطبيعة الشاديةُ، أناجيها فتناجيني 
ولكنْ ما بالُها اليومْ 
إنها ميتةٌ، ميتةٌ أشيّعها كلَّ يومٍ بلْ كلَّ ساعةْ 
إنني أفنى أفنى فناءً عنيفًا هادئًا 
في عام 1945، وكان وقتها في العشرين من عمره، مر منير رمزي بحالة حب فاشلة، وأطلق الرصاص على نفسه لينهي حياة شاعر كان من الممكن أن يكون رائد قصيدة النثر في مصر. 
ولم يكن يعلم الكاتب والمترجم فخري أبو السعود، أن الحياة التي بدأت سعيدة من كافة الأوجه، سوف تنتهي نهاية مأساوية سوداء. ولد فخري أبو السعود عام 1909 بمحافظة بنها، وتخرج في مدرسة المعلمين، وبعد فترة من البطالة تقدم لمسابقة في اللغة الإنجليزية سافر بعد الفوز فيها إلى إنجلترا في بعثة، ليعود بعد أعوام قليلة حاملا لواء تطوير الأدب العربي، في عدد ضخم من المقالات يقارن بين الأدب العربي والإنجليزي. 
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، سافرت زوجته الإنجليزية بصحبة ولدهما إلى إنجلترا لزيارة عائلتها، لكنهما قتلا في غارة. بعدها بأيام سمع جيران أبو السعود، صوت رصاص في حديقة منزله، فهرعوا إليه ليجدوه قد فارق الحياة بعد أن أطلق الرصاص على رأسه. 
والفنان التشكيلي ثروت فخري، اختار طريقة مختلفة لإنهاء حياته. وفخري الذي ولد عام 1949 في محافظة الفيوم، كان فنانا تشكيليا ثائرا على كل القيود.. قدم لوحات يتحدى فيها كل القيود الأكاديمية حتى اشتهر بين قرنائه، أمثال أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله، بأنه أحد الفنانين الثائرين. 
وفيما ألقى جملة أثارت ضحك أصدقائه في أحد أتيليهاته حيث قال: “سأموت غدًا” فاعتبر أصدقاؤه الأمر مزحة، لكنهم في اليوم التالي، تحديدا في 5 يونيو 1973 فوجئوا بفخري ميتا بعد أن تناول سيانيد البوتاسيوم الذي أرداه قتيلا في الحال. 
ويعتقد البعض أن أحمد العاصي كان أول أديب عربي في العصر الحديث، ينهي حياته بالانتحار. فأحمد العاصي الذي ولد عام 1903 بمحافظة دمياط، كان غزير الإنتاج مقارنة بحياته القصيرة.. بدأ حياته الدراسية في كلية الطب، لينتقل بعدها لكلية الآداب بعد إصابته بمرض في صدره وألف ديوانا من جزئين بعنوان “ديوان العاصي” ورواية بعنوان “غادة لبنان”. 
في عام 1930 كان العاصي قد سئم من هذا العالم بعد حالة صحية ونفسية متدهورة، وقرر أن يبحث عن عالم آخر، فانتحر في منزله بالقاهرة، بعد أن ترك قصاصة كتب فيها “جبان من يكره الموت، جبان من لا يرحب بذلك الملاك الطاهر. إنني أستعذب الموت، وهو لي كالعطر”. 
وكانت أروى صالح واحدة من أشهر المناضلين الذين تعرضوا للاضطهاد والسجن والتعذيب في فترة الستينيات خلال مشاركتها في الحراك الطلابي الذي ازدهر في تلك الفترة ازدهارا كبيرا. 
كتبت أروى صالح في العديد من المجلات والجرائد، ولها كتابان يضجان بالتشاؤم هما “المبتسرون” و”سرطان الروح”، كانا بمثابة احتجاج لفظي على عالم لم تحبه ولم تستطع أن تتعايش معه، قبل أن تعلن احتجاجها المادي عام 1997 بأن ألقت بنفسها من شرفة منزلها في الطابق العاشر. 
وكان الشاعر أحمد عبيدة رفيق نضال لأروى صالح في الفترة نفسها تقريبا، ولكنه آثر أن ينهي حياته مبكرا، وجاء قراره قبل أروى بعشرين عاما تقريبا. أحمد عبيدة الذي ولد عام 1940 وتخرج في كلية الآداب كان شاعرا معروفا بثوريته، وكان واحدا ممن شاركوا في الاحتجاج على سياسة الرئيس السادات بقوة، حتى أنه كان مطاردا وتعرض للاعتقال عام 1974. 
وفي المعتقل تعرض عبيدة لشتى أنواع التعذيب البدني والنفسي التي تركت في نفسه أثرا لا يمحى، فما أن خرج من المعتقل حتى جمع أوراقه وأشعاره، وأشعل فيها النيران، وألقى بنفسه بين ألسنة النيران، لينهي حياته بطريقة من أبشع وأصعب طرق الانتحار. 
وكان إسماعيل أدهم أحد الكتاب الذين أثاروا ضجة واسعة في الثلاثينيات والأربعينيات، ليس لانتحاره فقط، لكن أيضا بسبب أحد كتبه. فإسماعيل أدهم الذي ولد عام 1911 وسافر ليحصل على الدكتوراه في موسكو وعاد عام 1936، نشر كتيبا بعنوان “لماذا أنا ملحد” يشرح فيه أسباب اختياره لموقف الإلحاد، الأمر الذي أثار جدلا كبيرا في الشارع المصري آنذاك وبعدها بسنوات قليلة أصيب أدهم بالسل، ما جعله يضيق بالحياة، وفي عام 1940 عثر على جثته طافية في مياه البحر الأبيض، وعثروا في معطفه على ورقة يعلن فيها أنها انتحر، وأنه لا يرغب في أن يدفن في مقابر المسلمين، ويريد أن تحرق جثته بدلا من ذلك. 
**** 
“الدنيا أودة كبيرة للانتظار 
فيها ابن آدم زيه زي الحمار 
الهم واحد والملل مشترك 
وما فيش حمار بيحاول الانتحار 
عجبي!” 
كانت هذه إحدى رباعيات الشاعر المصري الشهير صلاح جاهين، الذي كانت وفاته مثار جدل واسع، بعد شكوك في أنه انتحر. كانت أشعار صلاح جاهين رغم حزنها أحيانا، ويأسها أحيانا أخرى كما في الرباعية السابقة، ممتلئة بحب الحياة والبحث عن البهجة ولم يكن فيها ما يدفع للظن بأن صاحبها من الممكن أن ينتحر. 
بيد أن حياة الشاعر الذي لطالما أشاع البهجة بأغانيه وأشعاره، لم تكن كذلك، فقد أصيب جاهين بالاكتئاب في سنوات حياته الأخيرة، جعلته يتناول أدوية علاج الاكتئاب بغزارة. 
وفي 21 من أبريل من عام 1986 توفي صلاح جاهين بعد شكوك في انتحاره، ورغم أن ابنه أكد أن سبب الوفاة كان تناول أدوية منومة تتعارض مع مرض القلب، فإن الانتحار ما زال يطل بوجهه، بخاصة بعد أن أشار الناقد السينمائي سمير فريد في مقال له نشر عام 2009 إلى أن جاهين مات منتحرا، وقد كان فريد أحد المعاصرين لجاهين، والمتابعين لحالته النفسية في السنوات الأخيرة. 
ومنظمة الصحة العالمية أعلنت يوم 10 من سبتمبر من كل عام يوما عالميا لمكافحة الانتحار، لكن كما أن الموت هو سنة الحياة، فيبدو أن الانتحار أيضًا جزء لا يتجزأ من هذه السنة.
بوابة الأهرام

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *