اللاشيء .. عالم صامويل بكت


د. علي حسون لعيبي


الرؤية تبدو واضحة أو مثقوبة عندما تؤمن أنك ترى ما لا يراه الآخرون. أو هي زوايا متعددة للمشاهدة.. الأفعال قد نعتقدها صائبة.. ولربما الآخر يراها خاطئة. عالم ليس متناقضا لكنه مختلف. يقول مورفي (أحد شخوص رواية بكت): “من يدري ما الذي تراه النعامة في الرمال” هي تتخفى لكنها تعتقد أن السلام والأمان هنا في الرمال!
يروي هيوكنر عندما ذهب لمقابلة بكت لإجراء حوار أنه خرج منه تائها .. إلا من نصيحة قدمها له نفسه بيكت “اذا أردت أن تعرفني .. فعليك أن تذهب فتقرأ أعمالي. وتصغي للشخوص لعلك تستطيع استنطاقها”. هي يمكن دعوة للهروب من الرأي الواحد.. إلى الرأي الاخر.. ديمقراطية من نوع آخر نراها بشكل غير مباشر عند بكت.
أول الهروب عندما فاز بجائزة نوبل للآداب.. حيث كان وقت إعلانها في تونس.. اختفى فجأة كهارب من وجه العدالة حتى لا ينغص عليه أحد عيشه بأسئلة.. الجميع يرغب بالشهرة والاضواء.. لكنه كان يتعداها.. ربما هو الخوف منها.. فهو يقول إن بينه وبين الشهرة عداء قديما. حتى عندما عرف بعض الناس اسمي وظهرت “جودو” على المسرح وبعدها “لعبة الحياة” لم تلحقني شهرة .. فسعدت بذلك كثيرا .. لكن تلك الشهرة ألمت بي فيما بعد, لسبب لا ذنب لي فيه. ويتم قوله: حين مثل مادلين رينو لمسرحيته “الأيام السعيدة” بشكل رائع ومذهل.. وعندها بدأت أهرب!
ويعزز هذا التصرف.. باللاشيء .. أو باللامعروف.. ويعلل السبب باحتمالات قد يكون استغرابه من شطب اسم أوسكار وايلد من لوحة شرف المدرسة التي درس فيها أو أنه كما يقول إنه تقزز.. لا شيء أكثر من التقزز فاض بي من التزمت, من التعصب. وادعاء الفضيلة. والجمود. والمطابقة.. الهروب ليس من وطنه ليس عداء او كره له .. بل هو الخلاف بينه وبين جو محاكم التفتيش والتأله, والقهر الفكري والتزييف, والحكم اللاهوتي, والتخلف البشع باسم الدين والأخلاق. حتى محاولة اغتياله بررها أنها من لا شي عام 1937 في باريس .. يبررها أنه كلا ليس اغتيال أو أي شيء من هذا القبيل, وليس فيه إثارة, إنه أمر دارج جدا ويحدث كل يوم.
يقول بعدم مبالاة حاول طعني متشرد في إحدى الامسيات بخنجر .. حتى انه زاره بعد هروبه خلسة من المشفى للسجن الذي سجن فيه المتشرد.. فسأله .. أي شيء جعلك تطعني بخنجرك..؟ فقال: لا أعرف! هي الرغبة بالقتل دون مبرر ويعتقد أنه يمكن يفعلها مرات أخرى.
إنه لا يرغب أن يصف بالشجاعة الفائقة حين انضم للمقاومين. فيقول إنه فعل لا بد منه كما يفعل الناس.. ويعتقد أن السبب هو كراهية النازي.. فهم كانوا اناسا لا يطاقون.. فهم لا يتكلمون إلا من فوهات مسدساتهم.. وحين ألقي القبض على زعيمه في المقاومة هرب بجلده وعاد بعد انتهاء الحرب. كأي إنسان آخر يبحث عن الخلاص من السجون الرهيبة.
الحياة عند بيكت … كما يصورها .. أنها متعبة للغاية أحيانا الحياة تبدو له أشبه بدروب صحراوية لا نهاية لها.. يسير فيها متهالكا أخذ في ترجمة نفسه من لغة الى اخرى بلا ادنى سبب.
هو يعتقد أنه ليس مذهلا في كتاباته. فيقول إنه لا يريد أن يقول شيئا لأحد. وأنه كان بوسعه أن يتكلم كغيره من الناس.. لكنه لا يقول الى أي أحد لا يوجد لديه شيء يقال.
الكتابة عنده أن يلتزم جادة الصدق. الكاتب عنده يحمل رسائل شخوصه… حتى عندما طرح أحدهم تساؤل ماذا تريد أن تقول؟ فقال: لم لا تذهب الى تلك الشخوص فتجري حديثك معها رأسا بغير وساطة مني.
ويسترق في الحديث أنا لا استطيع أن أجيبك أكثر بما يقوله مورفي. ويقول إنه اخذ في رؤية اللاشي .. أنت تعرف ذلك الانبثاق الضوئي الذي لا ضوء فيه. ذلك الغياب.. تلك النشوة غير المتوقعة التي تجد فيها الحواس سلامها حيث لا يعود أي شيء واقعا. ويصبح الواقع اللاشيء. هكذا الصمت الايجابي الذي يعلن عنه بكت.. وذلك الهروب الحتمي.. وتلك الحياة التي تفرض كل الاشياء علينا .. وما علينا اما ان نتحمل .. او نهرب.
ميدل ايست أونلاين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *