محمود شقير*
خاص ( ثقافات )
من الجنوب إلى الشمال
1
وجدت رجلاً في الخمسينيات من العمر ينتظرني في مطار بورت لاند.
أخذني “جون ويتسلوف” في سيارته في جولة سريعة داخل المدينة التي يبلغ عدد سكانها خمسة وستين ألف نسمة. شاهدت مبنى الجامعة والمستشفى الكبير، والحي القديم الذي تكثر فيه النوادي الليلية الخاصة بالمراهقين، شاهدت الخليج الذي تجثم فيه السفن التي تبحر في المحيط الأطلسي. وصلنا إلى البيت في المساء. رحبت بي زوجة الرجل الذي يعمل محامياً في المدينة، تساعده زوجته وابنه المحامي. الزوجة اسمها “بيتي”، وهي في الخمسينيات كذلك، نحيفة معتدلة القوام. تنطوي هي وزوجها على طيبة مفرطة. لاحظت أنه يجيد التحدث في السياسة، وهو متعاطف مع الشعب الفلسطيني. (سيرسل لي بالبريد فيما بعد، شريطاً عليه تسجيل لنص مسرحي غنائي تقدمه نجلاء سعيد، ابنة المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، مع عدد آخر من المغنين والموسيقيين، مستوحى من كتاب الاستشراق)
تناولنا طعام العشاء: سمكاً مشوياً وجبناً وسلطة وخبزاً. تسامرنا بعض الوقت ثم صعدت إلى الغرفة المخصصة لي في الطابق الثاني من البيت. خبأت الساعة الثمينة في حقيبة ملابسي، أغلقت الحقيبة بقفل صغير، أخفيت المفتاح في جيب ببجامتي. إنه إجراء احترازي لا ضرورة له، لكنني لن أنام نوماً مريحاً من دون هذا الإجراء. وجدت أن اللياقة تفرض عليّ أن أنام في وقت مبكر كما هي عادة أهل البيت. نمت في الحادية عشرة والنصف بعد أن تصفحت صحيفة النيويورك تايمز. (في العادة، لا أنام في وقت مبكر. لذلك، أفضل السكن في الفنادق على السكن في بيوت الأصدقاء أو المعارف، كلما سافرت إلى بلد ما)
نهضت في الثامنة. الطقس دافئ، ومزاجي جيد هذا الصباح.
بعد قليل أتناول طعام الفطور بمعية أسرة من معارف مضيفيّ.
جاءت الأسرة في الوقت المحدد: شاب كردي مهذب من إيران وامرأته الجميلة الشابة، وهي كردية من إيران أيضاً، ومعهما طفل وطفلة. تأملتهم جميعاً بإعجاب، وددت لو أنني أعرف شيئاً عن تفاصيل حياتهم في المنفى. تناولوا معنا طعام الفطور. عرفت منه أنه يقيم هنا منذ عشر سنوات. أخذ عنواني وأخذت عنوانه، (هكذا يحدث دائماً، ولكن، قليلاً ما تنفع العناوين) على أمل استضافته في فلسطين وعلى أمل تنظيم بعض الزيارات لفرق فنية فلسطينية إلى بورت لاند. تبادلنا أحاديث مختصرة في السياسة، ظلت الزوجة صامتة لا تشاركنا الحديث. ودعتهما ثم ذهبت إلى متحف الفنون الجميلة.
أمشي نحو المتحف مسافة ميل واحد، أشعر بمتعة اكتشاف المدينة الصغيرة وأنا وحيد. أسأل المارة عن المتحف. أبقى فيه ثلاث ساعات، أشاهد لوحات لرسامين أمريكان وأوروبيين. يلفت انتباهي رسام أمريكي اسمه ويل بارنت، ما زال يواصل الرسم رغم بلوغه نهاية الثمانينيات (من مواليد 1911) وله طريقة مميزة في الرسم تعتمد الليتوغراف وسيلة لتقديم نماذجه الفنية، علاوة على بعض اللوحات التجريدية. (لوحة الربيع: اثنتا عشرة امرأة يقفن في اتجاهات مختلفة تحت أشجار توشك أغصانها أن تتفتح في طقس صباحي معتم قليلاً) إلى جانب ذلك، فهو يجعل من أبناء عائلته نماذج فنية للوحاته)
أعود إلى بيت مضيفيّ، الذي يقع في حي هادئ من أحياء المدينة، تحيط به حديقة مزروعة بالأشجار وبالورود. أستريح ساعة، ثم أذهب أنا وجون إلى تناول طعام العشاء في بيت أحد المحامين المتحمسين للمسرح. أجد هناك زملائي وزميلاتي: أندرياش، أولغا، بياتريس، وفابيان الأرجنتيني. (فابيان شاعر في الثلاثينيات من العمر. هادئ الطباع. قصائده متأثرة بتخصصه في الفلسفة. له قصائد أخرى مكثفة إنسانية النزعة) هناك أيضاً كاتب مجري اسمه أندرياش، معه شابة مجرية اسمها كينجا، وعدد من المدعوين والمدعوات من مدينة بورت لاند. (سألاحظ أن بعض المثقفين القادمين من بلدان أوروبا الشرقية، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، يظهرون ميلاً مبالغاً فيه نحو هذه الأخيرة، لاعتقادهم أن ذلك هو أفضل وسيلة للشهرة وجني الأرباح) نتبادل الأنخاب ونلقي كلمات تختلط فيها السياسة بالمداعبات الظريفة. أتحدث عن افتقار الشعب الفلسطيني إلى حياة طبيعية بسبب الاحتلال، أقول: نحن شعب عادي مثل بقية الشعوب، نتحمس لكرة القدم، نحب النساء، نخشى الموت، ونحزن كلما فقدنا أخاً أو أختاً. تجد كلماتي من يتعاطف معها من دون تحفظ أو مواربة.
قبل أن يتجه جون وزوجته إلى غرفة نومهما، أخبرني أن بوسعي تناول طعام الفطور وحدي، قال إنني سأجد في المطبخ طعاماً. قال إنه لا داعي لإغلاق باب البيت بالمفتاح. (لأن المدينة آمنة! كيف يمكنني الاقتناع بذلك!) نمت وأنا أشعر بالتعب، استيقظت في التاسعة. لم يكن في البيت أحد سواي. اغتسلت. ارتديت ملابسي، وضعت الساعة الثمينة في جيبي. ثم تناولت طعام الفطور (سأغادر البيت وأنا غير مطمئن إلى فكرة بقاء بابه غير مغلق بالمفتاح) انتظرت منسق برنامج المسرح، بيتر سيل، حتى جاء. أوصلني في سيارته إلى مقر المسرح. هناك وجدت الممثلات والممثلين الذين سيقرأون نصوصنا المسرحية. المخرج الذي سيتولى الإشراف على النص الذي كتبته يبدو مقتدراً، كان يوجه ملاحظات سديدة إلى الممثلين أثناء التدرب على القراءة.
الطقس بارد بعض الشيء. ذهبت لتناول طعام الغداء في “حانوت السلام” الواقع مقابل مبنى المسرح، وفيه تباع الساندويشات والقهوة والشاي وغير ذلك من المواد الغذائية. البائعة ترتدي إيشارباً على رأسها. عرفت منها أنها أمريكية مسلمة، متزوجة من مواطن ليبي. قالت إنها أسلمت قبل ثلاث سنوات، والمحل الذي تعمل فيه يعود لها ولزوجها. بعد قليل، سيجيء الزوج، منصور، يسلّم عليّ بمودة. يقول لي إن ثمة بضع مئات من المسلمين في هذه المدينة. لاحظت أنه معني بزيادة عددهم باستمرار.
في المساء، جاء ما يقارب مائتين وخمسين مواطناً ومواطنة من مدينة بورت لاند. استمرت القراءات ساعتين. انسجم الجمهور مع النصوص التي قام الممثلون والممثلات بقراءتها وهم وقوف على خشبة المسرح. تعرفت بعد القراءات إلى شاب فلسطيني من جنين، مقيم في بورت لاند منذ سبعة أشهر. كان قبل ذلك يقيم مع زوجته البوسنية في البوسنة. جاء هو وزوجته مهاجرين إلى هذه المدينة التي تستقبل أعداداً من اللاجئين من بلدان مثل: البوسنة، إيران، العراق، ألخ.. (كم تثير فضولي حياة المنفيين والمهاجرين قسراً أو طواعية من أوطانهم!)
2
أنا الآن في مدينة نيويورك، في حي مانهاتن بالذات.
هذا الحي الضخم هو جزيرة محاطة بنهرين كبيرين: نهر هدسن والنهر الشرقي. أقيم في فندق رقم 31 (ليس للفندق سوى هذا الاسم!)، وسط مانهاتن تقريباً. يسكن أندرياش المجري في الغرفة المجاورة لي. أشعر بعدم ارتياح في هذا الفندق، فالغرفة صغيرة وليس فيها حمام. (الحمام موجود في الممر لخدمة نزلاء غرف أخرى) الطقس معتدل في الخارج، وهو أميل إلى الدفء. المزاج ليس جيداً، وأشعر بقليل من الجوع، لكنني لن آكل شيئاً حتى لا تتلبك معدتي، فلا أتمكن من النوم. الساعة هي الواحدة والنصف ليلاً، سأحاول أن أنام الآن في هذه الغرفة الزنزانة.
صباح الخميس. مشيت في شارع لنجستون ورحت أبحث عن فندق أفضل من الفندق الذي أقيم فيه. فوجئت بعدم وجود غرف شاغرة في عدد من الفنادق. شعرت بالضجر، قررت تقصير مدة إقامتي في مانهاتن. وجدت فتاة في مكاتب الخطوط الجوية الأمريكية، قالت إنها من بيرو، اسمها ماريا. (سأتذكرها وأنا أقرأ قصة “ثلاثة أيام وطفل” للكاتب الإسرائيلي أ. ب. يهوشواع، التي ذكر فيها القدس أكثر من خمسين مرة لغاية مقصودة، وتحدث فيها عن المقدسيين وطباعهم، المقدسيين الإسرائيليين طبعاً) كانت هي التي بدأت في السؤال عن هويتي. قلت لها إنني من القدس. قالت: آه.. إسرائيل! هل أنت يهودي؟ قلت لها: أنا فلسطيني، أقيم في القدس العربية. سألتْ بسذاجة: هل قسّمت المدينة من جديد؟ ثم رددت في تعاطف: بالستينا، بالستينا!
عدّلتْ ماريا موعد مغادرتي لنيويورك. غادرت المكتب وماريا تتمنى لي يوماً طيباً. بدت طيبة ظريفة. قالت إنها تقيم في الولايات المتحدة منذ أربع سنوات. (كان ثمة قراءات مسرحية لنصوصنا على خشبة مسرح نيويوركي. لم أذهب إلى تلك القراءات. ستقول لي أولغا موخينا فيما بعد، إنها كانت قراءات ناجحة)
عدت إلى فندق 31. كنت على موعد مع أرنديز التي هاتفتني في المساء بعد أن تركتُ لها رقم هاتفي. (تقيم في شقة لصديقة لها في مانهاتن) اقترحتْ أن نذهب في رحلة بحرية لزيارة تمثال الحرية. وجدت كانغ تنتظر في ردهة الفندق الضيقة. قالت إن أرنديز أخبرتها بالموعد بيننا، قالت إنها وصلت مساء أمس إلى نيويورك، واتجهت إلى الفندق الذي كان يتعين عليها أن تقيم فيه مقابل 25 دولاراً لليلة الواحدة. قالت إنها فوجئت بتخصيص سرير لها في غرفة، سوية مع أربعة رجال، قالت إن أحدهم كان يجلس في السرير، يبتسم لها وهو نصف عارٍ. قالت إنها احتجت على هذا الترتيب الغريب، فلم يأبه لها صاحب الفندق بحجة عدم وجود أماكن شاغرة لديه. هاتفتْ أرنديز، وكانت قد أعطتها رقم هاتفها قبل مغادرة أيوا. ركبت سيارة تاكسي وذهبت إلى الشقة التي تقيم فيها أرنديز.
ذهبنا كانغ وأرنديز وأنا لتناول طعام الغداء في مطعم للوجبات السريعة في شارع لنجستون. اعتذر أندرياش عن عدم مرافقتنا. بعد الغداء، ركبنا المترو واتجهنا إلى أقرب موقع من التمثال. غادرنا المترو، كان التمثال يبدو واضحاً للعيان من على البعد. في مواجهته تماماً تنتصب ناطحات السحاب على نحو مثير، ثمة خلق كثيرون. ركبنا القارب واقتربنا من التمثال. الطقس منعش، غير أنني كنت مرهقاً من قلة النوم.
أمضينا وقتاً بالقرب من التمثال. لم أشعر بأنني أتفيأ ظلال تمثال للحرية. شعرت بأنني أمام تعبير عن لحظة مضت في التاريخ الأمريكي، ولم يعد ثمة أي تراكم إيجابي يضاف إلى تلك اللحظة، على النحو الذي يعزز اسم التمثال ويرسخه. دققت في مشاعري، ولم ألحظ خلفها أية حمولات إيديولوجية مسبقة. (أو هذا ما اعتقدته) قلت: ربما كانت سياسة أمريكا المتغطرسة في العالم أجمع سبباً رئيساً في ذلك. كان ثمة احتفال هناك: طابور منتظم من رجال الشرطة وفرقة عسكرية تعزف الموسيقى. لم يعن لي هذا الاحتفال شيئاً. كان ثمة انفصال بيني وبين ما يحيط بي هنا، أقصد التمثال وما حوله.
عدنا إلى القارب وكانت النوارس تطير فوق رؤوسنا على نحو محبب. إنها كائنات الطبيعة المباركة تمارس عاداتها اليومية. فجأة، رأينا آيتي وهاي على القارب نفسه، تعجبنا من صغر هذا العالم الذي يجمعنا! تبادلنا التحيات، وكنا نشعر أننا قريبون من بعضنا بعضاً. قال هاي إنه يعيش مع أخته التي تعمل هنا في نيويورك. قالت آيتي إنها تعيش مع أسرة أمريكية تعرفت إليها في أوغندا. (أولغا كانت في فرانسيسكو قبل بورتلاند_مين ونيويورك. كانت معها أنستاسيا التي تعرفت إلى شاب هناك، وقعت في حيرة بين حبها لصديقها في موسكو، الذي اتفق معها على الزواج، وهذا الصديق الطارئ. سأعرف لاحقاً أنها تجلس في بعض الليالي، باكية من حيرتها وعدم قدرتها على اتخاذ قرار. أولغا تقول إنها ستتزوج صديقها بعد عودتها إلى موسكو)
نزلنا من القارب. دخلنا متحفاً لتاريخ الهجرات إلى الولايات المتحدة. قرأنا أرقاماً مدهشة عن عدد المهاجرين ونسبتهم من كل أمة، ومن كل قارة إلى الولايات المتحدة على مر القرون الثلاثة الماضية حتى الآن. تفرقنا في اتجاهات شتى، ذهبت كانغ وهاي إلى الحي الصيني في مانهاتن. عدت أنا وأرنديز وآيتي إلى مركز المدينة، ثم افترقنا هناك.
في المساء، جاء أندرياش. ذهبنا لتناول طعام العشاء. في المطعم نادل يهودي يضع على رأسه قبعة المتدينين الصغيرة. ثمة طعام يهودي في اللائحة، وطعام فلسطيني مدرج ضمن الطعام اليهودي: الحمص والكباب ألخ. ثمة أطعمة لشعوب أخرى. وثمة نادل آخر، عراقي ذو وجه أسمر. سمعني أذكر اسم العراق فيما كنت أتحدث مع أندرياش حول اللهجات العربية المختلفة، اقترب مني وسألني: هل أنت تونسي؟ ثم أخذنا نتحدث العربية. قال إنه هنا في الولايات المتحدة منذ العام 1978. الغالبية العظمى من المهاجرين إلى هذه البلاد يقضون أعمارهم في أعمال بسيطة، لا تحقق لهم إلا ما يقيم أودهم. قلة قليلة منهم تحقق نجاحاً اقتصادياً، وتعيش في بحبوحة من العيش. تركَنا النادل لكي يخدم زبائن آخرين. أينما تذهب تجد مهاجرين عرباً وفلسطينيين. لهذا الأمر دلالاته المؤلمة.
ينهمر المطر غزيراً في الخارج والأسى يملأ القلب.
3
نيويورك (أخص بالذكر هنا مانهاتن، لأنني لم أزر غيرها من أحياء المدينة الضخمة) مدينة صاخبة تفرض إيقاعها على الجميع. الناس يسيرون في الشوارع سيراً حثيثاً. كل يمضي إلى شأنه بجدية وانطلاق، ولا أحد ينشغل بأحد، وثمة نساء كثيرات يعبرن الشوارع بأزيائهن الحديثة وبالحقائب الصغيرة المتدلية من أكتافهن، وبالأحذية ذوات الكعوب العالية التي تضرب بلاط الأرصفة وهي يمضين مبتعدات، يمضين إلى أماكن ومواعيد ووظائف ومقاه وعلاقات، وغير ذلك مما يمكن أن يخطر أو لا يخطر على بال.
زرت متحف الميتروبوليتان. بقيت فيه أربع ساعات. لم أتمكن من زيارة الجزء الأكبر من أجنحة المتحف. شاهدت الأقسام التي تتحدث عن الحضارة المصرية القديمة، وعن حضارات الصين والهند وكوريا وفيتنام وتايلاند ألخ.. تتبعتُ التماثيل الخاصة ببوذا، مرة وهو واقف وأخرى وهو جالس، وبالتماثيل الخاصة بالبوذية، ذات الأيادي الأربع أو الست ألخ.. (كما لو أن الكثرة تعبر عن القوة والعظمة)
ذهبت أنا واندرياش ليلاً إلى شارع برودواي المشهور. تمشينا في منطقة مليئة بالمتاجر والسيارات والبشر، ثم ذهبنا من دون تخطيط مسبق (التقانا شخص يوزع أوراقاً دعائية للمحل، فذهبنا إليه) إلى ملهى ليلي، تقوم فتيات فيه بالرقص وبالتعري. (الساعة الثمينة في جيبي طوال الوقت، وهذه المدينة مثيرة للقلق بسبب كثرة حوادث النهب والسلب فيها) ثمة فتيات جميلات يعرضن أجسادهن، كن ينتظرن أن يقوم الزبائن القريبون من خشبة العرض، بوضع مبالغ زهيدة من الدولارات في أيديهن أو على أماكن أخرى من أجسادهن. غير أن مشهدهن يصبح مؤسفاً باعثاً على النفور والملل، كلما طال الوقت واستمر العرض. بعضهن كن يقمن بحركات قبيحة تستفز الذوق وتثير الغثيان في النفوس. (كنت أرتدي معطفاً خاكياً شبيهاً بمعاطف رجال الشرطة. يبدو أن لون المعطف أثار ريبة أصحاب الملهى، الذين تعاملوا معي بحذر، خوفاً من شرطي يحاول كشف الأنشطة السرية الممنوعة لملهاهم، حيث الدعارة ممنوعة رسمياً هنا. ويبدو أن الملهى مثل غيره من أماكن مشابهة، يقدم لبعض زبائنه خدمات ممنوعة) غادرنا الملهى بعد ساعة ونصف الساعة.
نمت وأنا أحلم باستثمار كل دقيقة من وقتي لمعرفة المزيد عن هذه المدينة.
في الصباح، زرت متحف الفن المعاصر.
تفرجت على وفرة من اللوحات لرسامين من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. أدهشتني كثرة المنحوتات واللوحات المعروضة لبيكاسو التي لم أرها من قبل، (هكذا ينام الفلاحون، نساء عند النبع، امرأة تمسد شعرها، تمثال لوجه امرأة، ألخ..) أعجبتني لوحات هنري ماتيس بأسلوبه المميز الذي يثير الدهشة، (نافذة زرقاء، مشهد للنوتردام، الراقصون، امرأة على كرسي مرتفع) لفت انتباهي الإسباني خوان ميرو ببساطة رسومه التي تشبه رسوم الأطفال. لفت انتباهي مارك شاغال. زرت جناحاً مخصصاً لرسام أمريكي، مات في حادث سيارة العام 1956 اسمه: جاكسون بولوك. له أسلوب خاص يعتمد الرسم العشوائي الذي تحكمه رؤية فنية مبهمة وحدس عميق، وتعبير عن مكنونات النفس الإنسانية وما يكمن في منطقة اللاوعي من مشاعر وأحاسيس. ثمة متعة بصرية أثناء تأمل لوحاته وأعماله الفنية. (سأشاهد على شاشة التلفاز فيلماً عن حياته، يظهره مهووساً بالرسم، يفرد على الأرض قطعة قماش كبيرة، يرش عليها بنزق واستعجال، ألواناً زيتية مختلفة أو غيرها من مواد الرسم، إلى أن تتكون لديه شبكة معقدة من الألوان والتشكيلات المبهمة المتداخلة. زوجته أيضاً رسامة، لكن شهرته طغت على شهرتها)
في المساء، ذهبنا، كانغ وأندرياش وأنا، إلى مطعم تايلاندي.
جاءت كانغ وانتظرتني عند باب الفندق. كنت عائداً من جولة قصيرة. وجدتها هناك تنتظر، انتظرنا حتى جاء أندرياش، كان قد انتقل إلى فندق آخر يتقاضى أسعاراً أقل من هذا الفندق. رأيناه قادماً من بعيد وهو يتلكأ في مشيته، نادته كانغ بصوت منغّم ممطوط: أندريااااااش! غذّ خطاه نحونا ثم سرنا معاً. تناولنا طعاماً جيداً: صحن أرز مع قطع من الجمبري، وبندورة وبصلاً وخياراً. غادرنا المطعم، اتجهنا إلى مقهى تعزف فيه فرقةٌ، موسيقى الجاز. قدّمت لنا الخدمة فتاة مهاجرة من براتسلافا، عاصمة سلوفاكيا. جاءت إلى هنا كما يبدو بحثاً عن الثروة، أو العيش الكريم. كانت تخدم زبائنها بتقديم العصير والبيرة والنبيذ والقهوة من دون أن تتوقف لحظة واحدة. (لا تعرف حتى الآن ماذا تخبئ لها هذه المدينة من مفاجآت!) كان الضجيج في المقهى شديداً. غادرناه في الحادية عشرة ليلاً. ركبت كانغ سيارة تاكسي، ذهبت إلى الشقة التي تقيم فيها مع أرنديز، (ستحدثني فيما بعد أن سائق التاكسي لم يلبث أن اعتذر عن عدم توصيلها إلى المنطقة التي تريدها، لأن سيارته غير مسموح لها بالعمل في تلك المنطقة. اضطرت إلى النزول من السيارة، كنا أنا وأندرياش قد ابتعدنا من دون أن نعرف شيئاً مما وقع لها. قالت إنها ذهبت إلى محطة المترو. شعرت بخوف شديد، وهي ترى المحطة فارغة تقريباً إلا من الزعران والحشاشين، قالت إنها احتملت الموقف حتى جاء المترو وصعدت إليه) عدت أنا وأندرياش مشياً على الأقدام، ثم افترقنا، أنا إلى الفندق الذي أقيم فيه، وهو إلى الفندق الذي يقيم فيه.
انتقلت إلى فندق هوارد جونسون. الفندق أغلى من الفندق رقم 31 ، لكنه مريح. الغرفة صغيرة لكن فيها حماماً. ثمة هدوء هنا افتقدته في الفندق السابق. أقمت في هذا الفندق ليلتين. كان إحساسي بالغربة يتنامى على نحو مقلق، ربما بسبب أسلوب الحياة الصاخب لهذه المدينة العملاقة.
________
*روائي وقاص من فلسطين