الموتُ غرقاً في محيطات الهجرة


*أدونيس



– 1 –
أنتَ الطِّفلُ المكبوبُ على وجهه وحيداً، بين الموج والرّمل، على شاطىءٍ سوريّ – تركيّ، تركيٍّ سوريّ،
تستطيع الآن أن تنضمَّ إلى الأطفال الآخرين الذين سبقوك إلى الموت؛ تستطيع أن تهاجرَ إليهم حرّاً:
لا إجازة مرورٍ، لا حدودٌ، لا عسكرٌ يضرب، ولا شرطةٌ تسجن.
الزّمنُ هو أيضاً مهاجرٌ يموت، والأبديّة نارٌ موقَدَة.
أنتَ الآنَ لانهايةٌ داخلَ هذه النّهايات.
يدُ الضّوء، في وداعكَ،
تَخيطُ نجمةً إلى نجمةٍ، ويدُ الماء تضرب الموجةَ بالموجة.
كلُّ كلمةٍ قالها البحرُ في وداعكَ، كانت ضدّه، وضدّ مدنه وشطآنه.
نعم «لا جديدَ تحت الشمس»:
وُعِد الأطفالُ بالولادة،
وهُيِّئت لهم القبور.
فراغٌ شاملٌ وأعمى، لا يمَيِّز بين زهرةٍ وكركدنٍّ.
يفتح سجِلاًّ افتراضيّاً للموتى:
موتى – أطفالٌ نساءٌ شيوخٌ ينقشون بالموت على كسرةٍ من الخبز،
أبديّةَ الطُّغيان.
سوريّا، تركيّا:
الحروفُ الصّائتة تغارُ من الحروف الصّامتة، وهذه تخجل من تلك.
تكاد الأبجديّة أن تصرخ:
دمُ الشِّعر يتدفّقُ من عروقي التي تقطعها سكاكينُ غيرُ قاطعة.
أنارٌ تزدردُ الشّمس؟
بجسمٍ واهنٍ، نصفُه صلاةٌ ونصفُه طُغاةٌ لا يزال موجُ التاريخ ينزلق على صخرةٍ لا تزالُ غامضةً وإنْ أكّدَ بعضُهم أنّها جارةٌ قريبةٌ جدّاً.
إنّه التاريخ – يتقيّأ الورق الذي كَتَبهُ، مُعتَذِراً للغابات التي جاء منها،
مُعتَذِراً للموتى، وللمعَذَّبين، وللأبجديّة.
– 2 –
أنتَ الطِّفلُ المكبوبُ ميّتاً على وجهه،
الآنَ، أتحدّثُ إليكَ وحدك:
في شجرة التّوت التي حضَنَتْ عِرزالَ طفولتي ونمتُ فيه وحدي،
حلمتُ مرّةً أن آخذَ نجمةً من قطيعها في السّماء، وأن أربطها بحبلٍ أربطه بقدميَّ طولَ الليل. على هذا الحبل، بين
قدميّ والبحر المتوسّط جاريَ القريب، كانت تتراقصُ
كلماتٌ خرافات، كلماتٌ للقداسة والتّمجيد، وكلماتٌ لكي تُلْعَنَ وتُجلَد، كلماتٌ تثرثرُ وتَهذي، وكلماتٌ تتلعثم، كلماتٌ أجسامٌ وكلماتٌ أشلاء، كلماتٌ تقتحم وكلماتٌ تتراجع، كلماتٌ تعرج وكلماتٌ تصطدم بكلّ شيءٍ،
كلماتٌ لا تتوقّف عن الخطابة، وكلماتٌ تُواصِل الصّمت، كلماتٌ تهاجر وتغرق في البحر، وكلماتٌ تبكي.
كنتُ أستطيع آنذاك، في تلك المرحلة من الطّفولة، أن أُمضي سهرةً كاملةً، ألاحق فيها ذلك الومضَ السّاحر بين جناحَي كائنٍ يشبه الفراشة اسمُه الحُباحِب. ومْضٌ كأنّه يخرج من نارٍ تخرج من الكهفِ الأوّل في جبل العصر البشريّ الأوّل.
كنت أستطيع كذلك أن أشهد حفلةَ عرسٍ بين ماءٍ يتدفّقُ وحيداً، وجَذْرِ صفصافةٍ تنتظر أن ينطفىء العطشُ الذي يلتهمُ أحشاءها. أن أشهدَ كذلك حفْلَ طلاقٍ بين القمر الغاضبِ لسببٍ لا أعرفه، وغيمةٍ تموت في سريرها تعباً من السّفر.
وكنتُ قد رتّبتُ إيقاعات الوقت في سلالمَ صوتيّةٍ لا يعلمها إلاّ الشعر.
في تلك المرحلة من الطّفولة، كنت أعجبُ أيضاً بالشّجر كيف يغيّر قمصانه، خصوصاً ألوانها، وكيف تتحوّل الشّمس إلى محابرَ لا تُحصى. فــي كلّ شعاعٍ محبرة. لكلّ محبرةٍ أكثرُ من ريشةٍ. لكلّ ريشةٍ أكثرُ من إصــبع. وكنتُ أراقبُ السّاعات التي نزِنُ بها الوقت، كيف تُحتَضَر بين يديَّ. وكيف كانت أغصانُ الشّجر تتلطَّفُ وتنحني فوقها، ترافق جنازاتها إلى مقرِّها الأخير.
ومرّةً، في تلك المرحلَة، سألتُ الليلَ: أهنالك امرأةٌ – أمٌّ لانهائيّة؟
وهو سؤالٌ لا يزال يشغل بالَه وأحوالَه، كمثل ذلك الموت غرقاً في المحيطات، الموت الذي يمتزج بالماء، ويصبِحُ هو أيضاً لانهائيّاً، ثمّ نسمّيه بعد ذلك موتَ الهجرة، أو الموت في الهجرة، أو الموت في الموت. وكنت أرى كيف تُعذِّب الرّيحُ تلك الآلة الموسيقيّة التي تتمايل بين يدي الليل وتكاد أن تنكسر عندما تكتشف جثَّةَ طفلٍ مات غرقاً في بحر الهجرة، ولم يكد أن يطأ الأرضَ بقدميه.
قولي معي، أخيراً، أيّتها الساعات:
الزّمنُ هو كذلك مرآةٌ تتقطّر دماً.
– 3 –
أنتَ الطِّفلُ المكبوبُ على وجهه، ميتاً،
عرفتَ باكراً كيف تحوِّل قدميك إلى جناحين لا مكان لأيّ شبهٍ بينهما وبين أجنحة الملائكة. يطيران من جدارٍ إلى جدار إلى جدارٍ في سجون العالم بحثاً عمّا يضطربُ خلف الجدران. وكنتَُ في سنِّك، عندما بدأتُ أعشقُ الليلَ وهو يخلع نعليه ويخفيهما على شاطىء البحر. وكنت أرى بين الكتب المصفوفة في ظلّهِ أكثر من كتابٍ ضخمٍ مليءٍ بالرّمل، حوله جرّةٌ كبيرةٌ بلون السّماء مليئة باللحم، تلقي على كتفيه رأسها.
ولا أعرف لماذا كنتُ أثق أنّ السماء ستقول: نعم، عندما أقول: نعم، ولا، عندما أقول: لا.
– «لا أظنّ أنّ الشمس هي التي خلقت الظلّ»، هكذا كنت أتجرّأ في النّقاش الذي يدور بيني وبين الطّبيعة. وكنتُ أكمِلُ قائلاً:
– «عكسُ ذلك هو الأكثر صحّةً». ثمّ ألتفِتُ نحو البحر الذي يكاد أن يغصّ بجثث غرقى غير منظورين، وأرجوه أن يطرح معي هذا السّؤال:
– ماذا تقولين أيتها السّماء؟ وما السّؤال الذي يمكن أن تطرحه الجحيم الآن على النّعيم؟
كلّا،
ليس من العَدْل أن يكون الورقُ تاجاً للرّيح.
خصوصاً أنّ السّماء والأرض تتّحدان اليوم في سكّينٍ تقطع رأس الوجود لكي ينسى البحارَ وأغوارها، الهجرةَ وموتاها، ولكي يقيم حدوداً موحِشة وحديديّة بين الزّهرة وعطرها، وبين البحر وأمواجه.
لكن، هل سيجرؤ التاريخ على سرد الأسباب، أسباب الهجرة وموتاها، وعلى ذكر الذين يرقصون طرباً وراءها؟
احفظ لسانَك، أنتَ يا مَن تقرؤني.
– 4 –
في الطّريق نحوك، أيّها البحر المتوسِّط الذي يلفظ زوّارَه، أحياءَ وموتى،
مهندسون غامضون يرسمون خرائط العصر بأشلاء البشر.
وشعراء غامضون، هم أيضاً، يرسمون خريطة النّجوم على جسم الصّحراء.
مَن يرسم نجمَك الآنَ، يا بحر الهجرة والموت،
على وجه الكون؟
التّاريخ يمشي على عكّازٍ من الحديد، في حديقة عرضها السماء والأرض، وثمّة شموسٌ تكتب وظلالٌ تمحو.
أسألك أيّها البحر. لكن لا تُجِبْ.
اسألِ السّؤالً نفسَه الذي يُطرَح عليك.
وسوف ترى، أو لعلّك سترى. أنّ الجواب اليوم،
خبزٌ تعفّن منذ أن عُرِف قمحُ الواحد.
قُلْ لجدّتك الأرض أو لأمِّك الحياة أن تُعلِّم أبناءها كيف
يخبزون خبزاً آخرَ من قمحٍ آخر في أفرانٍ أخرى.
لكن، ماذا سيتعلّم الشّاعر، لكي يحتفي بهذا الخبز؟
_______
*المصدر: الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *