عيسى مخلوف.. العالمية اليوم تخلط الغث بالسمين


علي عاشور


نبحث عن الجمال في ركام الأشياء حولنا مثلما يبحث الفقراء في نفايات الأثرياء، في ساعة متأخرة من الليل»، هكذا ينظر الأديب اللبناني عيسى مخلوف إلى تفاصيل الحياة بأبعادها المختلفة. إذ يؤمن أن الجمال هو الغاية والوسيلة معاً. ما إن تجلس معه في زاوية من زوايا مقهى ما حتى تشعر أن الأبعاد تخرج من هناك.

عن الشعر والثقافة العربية والعالمية والسياسية والمجهول الإنساني والفلسفة والفنون، تستنشق الكلمات مع عيسى مخلوف هواء آخر.
–  تصدر قريباً الترجمة الإنكليزية لكتابك «عين السراب» بعد صدوره بالفرنسية والإسبانية. ما الذي يجمع بين هذا الكتاب وكتابك الأخير «مدينة في السماء»؟
 كتاب «عين السراب» يحكي عن الحبّ والموت والسفَر، أما كتاب «مدينة في السماء» فينطلق من مقرّ منظمة الأمم المتحدة في نيويورك حيث عملتُ بين عامَي 2006 و2007 مستشاراً خاصاً للشؤون الثقافية في إطار الدورة الحادية والستين للجمعية العامة، ورأيتُ عن قرب كيف أنّ ذاك المكان يختصر صورة العالم والقوى المسيطرة فيه. وهو، للمفارقة، المكان الذي تُلفظ فيه كلمة «سلام» أكثر من أيّ مكان آخر في العالم، كما توجد في صالاته وممراته الفسيحة مجموعة فنية مهمّة هي بمثابة هِبات من الدول الأعضاء… من ذاك المقرّ إذاً ينطلق الكتاب ليذهب في اتجاه أمكنة وأزمنة عدّة، وليطرح السؤال حول السلطة والفنّ، وحول العلاقة بين الجمال والدم المُراق.
– منذ كتاب «عين السراب» حتى «مدينة في السماء» أعطيتَ النثر ـ كمضمون سردي ـ والشعر ـ كحلقة رمزية ـ بعداً واحداً في الكتابة، إضافة إلى التداخل والتقاطع مع الفنون الأخرى كالموسيقى والنحت والتشكيل. ما الذي تشكّل لديك من خلال هذا النص؟ وما الذي تغيّر في رؤيتك للكتابة؟
كانت مجموعتي الشعرية «عزلة الذهب» هي المجموعة الأخيرة التي أكتبها بتلك الصيغة الشعرية البحتة. الكتب التالية: «عين السراب»، «رسالة إلى الأختين» و «مدينة في السماء»، جاءت من منطقة أخرى تبطل فيها المسافة بين الشعر والنثر. إنه الشعر لكن بأسلوب ينفتح على وسائل التعبير المختلفة ويحاول أن يصهرها في بنية فنية واحدة. لقد جاءت هذه الكتابة من تساؤلات كثيرة حول المعنى الذي تكتسيه الثقافة اليوم، وحول ما يؤول إليه الشعر في الزمن الراهن. فالشعر – بما هو لحظة تأمّل عميقة في الذات والكون، وبما هو تعامل خاصّ مع اللغة وأخذها دائماً في اتجاهات مبتكَرة جديدة -، ينحصر دائماً في فئة معيّنة من القرّاء، ما عدا بعض الشعر الملتزم، أو، وبصورة نادرة، الشعر الذي ينطلق من أسئلة وجودية وميتافيزيقية. لكن حتى هذه الفئة من القرّاء تبدو اليوم محاصَرة ومهدّدة في وجودها ذاته.
–  في رأيك، ما هي الأسباب التي أدّت إلى هذا الواقع؟
قبل التطرّق إلى الأسباب، لا بدّ من طرح بعض الأسئلة ومنها: هل يأخذ الشعر في الاعتبار ما أنجزته الثورة التقنية والتكنولوجية، تلك التي تسابق الحَدْسَ أحياناً؟ هل لوسائل الاتصال الحديثة من أثر على الكتابة، وكيف يتجلّى هذا الأثر؟ كيف تتبدّى الآن العلاقة بين الشعر وبقية الفنون؟ أسئلة كثيرة مطروحة في هذا المجال، لكن ما تغيّر بالفعل ليس فقط النظرة إلى الشعر، وإنما أيضاً خروج الشعر من الحيّز العام وانكفاء حضوره في المجتمع. وهناك أسباب عدة لذلك، منها بالأخصّ سيادة نسق مهيمن تعنيه، في المقام الأول، المردودية المادية. ما لا يمكن تحويله إلى سلعة، وما لا يخضع لمنطق العرض والطلب، لا يجد مكاناً تحت شمس هذا العصر.الشعر، هذا الكائن الغريب، الذي يتعذّر تدجينه وتحويله إلى مادة استهلاكية، هو من ضحايا هذا التوجّه العام… ليس الشعر وحده، بل الفلسفة والمسرح والفكر على العموم، أي ما شكّل طوال قرون من الزمن جزءاً مهماً من «مجد الحضارات الإنسانية»، بحسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو.
–  تريد أن تقول أنْ لا وجود لما لا يمكن تسليعه؟
 دور النشر، شرقاً وغرباً، ليست مهتمة كثيراً بنشر الشعر، حتى لو تقدّم به شعراء من أمثال دانتي أو ريلكه أو رامبو. لكنها تقبل بنشر قصائد الروائي الفرنسي ميشال ويلبيك، ليس لأنّ قصائده تستحقّ النشر، بل لأنّ اسمه أصبح «ماركة مسجّلة» ويمكن تسويقه بسهولة.
الرواية اليوم
–  ألهذا السبب يعمد بعض الشعراء إلى كتابة الرواية؟
هناك دائماً شعراء يكتبون الرواية وروائيون يكتبون الشعر، أما الالتفات المتزايد اليوم إلى كتابة الرواية من قبل الشعراء فقد تفسره الظروف الراهنة بالتأكيد.
– بهذا المعنى، هل يمكن القول إنّ الكتابة الأدبية أصبحت تنحصر في كتابة الرواية؟
 قراءة الرواية، وأقصد هنا الرواية الموجّهة لذائقة العامّة، أسهل من قراءة ديوان الشعر الجيّد. يقول كريستيان بوبان ما معناه إنه يلزمنا ساعات قليلة لقراءة رواية ويلزمنا عمر بأكمله لقراءة قصيدة… والمقصود هنا أنّ ثمة كتابة تنطلق من هواجس إنسانية وجمالية، ومن رؤية مفتوحة على التأمل والأسئلة والآفاق الواسعة، وقد نجد هذا النوع من الكتابة في بعض الأعمال الروائية نفسها أيضاً وليس فقط في بعض الشعر.
– كيف تنظر إلى المشهد الروائي العام؟
 نظرة شاملة سريعة إلى الرواية تضعنا أمام الآتي: هناك دائماً أعمال روائية متميّزة تطالعنا بين الفينة والأخرى، وتدهشنا. لكن ما تلفظه المطابع ودور النشر من روايات هو، بصورة عامة، مادة للاستهلاك فحسب. قرابة 600 رواية تصدر في باريس في الموسم الأدبي الحالي، ومع صدورها يبدأ العدّ العكسي للجوائز التي تتنافس فيها كبريات دور النشر الفرنسية. وهذه الدور تعتمد في تسويقها الكتاب سياسة التسويق المعتمدة في القطاعات التجارية الكبرى. كيف لا، والكتاب الذي يحظى بجائزة «غونكور» تبلغ نسبة مبيعاته 400 ألف نسخة، وجائزة «رينودو»: 200 ألف نسخة… الموسم الأدبي في فرنسا يمثّل ظاهرة فريدة من نوعها في العالم. لكن هذا «الاستثناء الثقافي»، إلى أيّ مدى هو ثقافي وإلى أيّ مدى هو تجاري؟ هل يتمتّع الصحافيون والنقّاد وأعضاء لجان التحكيم بالوقت الكافي لقراءة هذا الكمّ من الروايات؟ كيف تتعامل المكتبات مع هذا الواقع، وما مصير الكتب التي لا تخرج من الصناديق المقفلة ولا ترى النور، مثل طفل يولد لكنه يبقى في بطن أمّه؟ منافسات ومباريات محتدمة، بل معركة حقيقية يسقط فيها الكثير من الضحايا!
 لكنّ الإعلام يولي اهتماماً كبيراً بالروايات؟
 صحيح. التلفزيون يقوم بدور كبير في مجال الترويج هذا، وكذلك الجوائز والصحافة المكتوبة. في فرنسا تتصدّر الإعلان عن بعض الروايات الصفحات الأولى من كبريات الصحف، في حين أن هذه الصحافة نفسها لا تكرّس سطراً واحداً عن كتاب جديد للشاعر والباحث الفرنسي إيف بونفوا مثلاً. وإذا ما التفتت الصحافة الغربية إلى الشعر فذلك من باب السياسة والحديث الرائج عن الإرهاب. مجلّة «نيويوركر» الأميركية خصصت مقالاً مطوّلاً للحديث عن شاعرة «داعش»، أحلام النصر. ألا يشبه الاهتمام بهذه الشاعرة الجهادية ما حظيَ به «شعراء» من أمثال أسامة بن لادن وصدام حسين؟
– هناك اليوم روايات فرضت نفسها على المستوى العالمي، فكيف تبلغ العالمية لولا أهميتها؟
هناك روايات تستحق الاهتمام، وهي بالفعل عابرة للّغات والثقافات، إنما العالمية اليوم، وفي حالات كثيرة، أصبحت مبرمجَة وخاضعة لشروط محددة. في هذا السياق، الكوكاكولا عالمية والهمبرغر عالمي والمسلسلات المكسيكية عالمية، ومؤخّرة كيم كرداشيان أيضاً… قلّما اختلط الغثّ بالسمين كما هو الحال الآن. كأن يُقدَّم في أمسية موسيقية واحدة معزوفة لبيتهوفن وأغنية طقطوقة، أو أن يجتمع في حلقة تلفزيونية واحدة ميشال سير وإدغار موران إلى جانب لاعب فوتبول وعارضة أزياء… هناك وسائل إعلامية، وفي مقدمتها التلفزيون، همّها التجارة والوصول إلى الجمهور العريض، وهي تعمل يومياً على تسطيح كل شيء وتعميم الجهل وجعل الابتذال قيمة قائمة بذاتها.
السفير

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *