مقهى الصُّدف الشحيحة


*ناصر الريماوي



خاص ( ثقافات )
“1”
كل عام، ينتهي البحث هنا، تحت شرفة المقهى المطل على وسط المدينة، وأمام تلك اللافتة الخشبية، المثبتة على جبهة البيت القديم، كذكرى، المحفوره عليه كصندوق بريد مهمل، لم يعد يستقبل الرسائل، أقف مودعاً.
هذا الصيف، وبعد ثلاثين يوما، تكشف لي عمان – مجددا – عن صعوبة البحث فيها عن أحد، 
منذ شهر وأنا أطارد وجها واحدا فقط،
بين تلك التفاصيل الكثيرة، المحتملة، بلا جدوى…
شرفاتها المتناثرة تسد الطرقات السائبة بفوضى السهر، 
نوافذها كثيرة، وواعدة، لكنها تخفي الكثير،
شوارعها متاهة عميقة لاتنتهي، 
ووجوه الناس تختلط في الزحام.
منذ أسبوعين، وأنا أهادن الصدف وأطارد وجها واحدا يشغل حيزا ضئيلا فقط، من هذا الجنون الممتد فوق جسد المدينة الواسع، 
لكنني ككل مرة، أضيع، وتأخذني التفاصيل الصغيرة، التي لاقيمة لها، نحو الفراغ.
بعد أسبوع، لن يبقى شارع أو بيت في عمّان،
إلا ويمد لي لسانه، .
لن تبقى صدفة لتضحك في وجهي، 
إلا على سبيل السخرية…!
أغلب التفاصيل مرعبة، وغامضة، تناسلها مخيّب، وكثرتها
تسرق الوقت والملامح.
” 2 “
أسقطت من حساباتي مكانا واحدا في عمّان، واحدا فقط.
تجاهلت كل دعوة إليه عن عمد،
قلت… سأتركه فقط لسيدة الصدف الشحيحة، والملامح.
عمان لا تدعم خاصية الصدف في البحث عن أحد،
استيعابها ضئيل ومحدود، 
ولا يتسع صدرها لتحميله، كتطبيق مفترض…!
روزنامة التقويم… يصدمني احتجاجها مؤخرا على قرار كهذا،
وهي تطوي أوراقها الأخيرة في وجهي، وبكل وقاحة.
في أسبوعها الأخير لم تعد لطيفه… كعادتها،
لتفعل هذا خفية عني.
” 3 “
في العودة مساءً، 
كانت تجر إلى حجرتها نصف عمّان.
سيدة الصدف الشحيحة، 
أو هكذا اعتدنا أن نسميها في غياب الملامح.
حين اختفت، عثروا في الدرج المجاور لسريرها،
على محترفات عديدة للرسم ومسرح واحد، مقاهي كثيرة كان يرتادها الشعراء، 
تشقق أغلبها في فضاء الصالة المزدحم، 
ولم تعمد إلى ترميمها، 
مطاعم وصالات عرض “سينمائية” ومسبح صيفي واحد، 
أكشاك كتب ومبنى صحيفة يومية،
كل ذلك وأكثر، في حين لم يكن بمقدورنا أن نعرف، 
لم كل هذا… 
وكيف جلبته !؟
لم يعلق في أذهاننا على مدى سنوات
عديدة، في العمل، سوى إيقاع اسمها الثلاثي…
كانت تلقي علينا تحية الصباح ثم تسارع بلباقة
لتسترد من عيوننا فيض الملامح.
آخر النهار، تستأذن الجميع، كي تنظف المكان من كل الوقائع، 
وحين تنتهي تحرص جيدا أن تعود، لتلم ما تناثر
من نبرات صوتها في الأحاديث العابرة، وتذهب.
عثروا في الحجرة الصغيرة، على اسمها الثلاثي،
عثروا على كل شيء، 
عدا بقايا صوتها المنسي أو صورة “فوتوغرافية” لها…
رحلتْ ولم تترك شيئا للصدف. 
كان الغريب، هو ذلك المقهى المعلق عند مدخل البيت،
صندوق بريدها المعدني، كان قد إختفى، وحل مكانه ” جفرا ” … !
“4”
لكن أحدا منهم لم يسأل، ليعرف شيئا 
عن حقيقة المكان.
في البدء، 
كنا وحدنا رواد ذلك المقهى، نستبيح غرابة وجوده لنلح عليه بالسؤال.
لسنوات عديدة بعد رحيلها، ونحن نحاول، لكننا لم نقو على انتزاعه من مدخل البيت، 
وهو أيضا لم يُجب.
ظل مبهما، معلقا في وجوهنا كقنديل زيت صامت، ومعتم،
يرشح بذكرى عتيقة، معتمة.
تبدل المقهى الصغير، وصار بيتا واسعا… مع الوقت، 
لكنه ظل وفيا، محتفظا بأسرار الملامح لسيدة الصدف،
تحول البيت مزارا، مع الأيام، تربض عند مدخله الكبير بقايا عربة قديمة، وأرجوحة خشبية معلقة… ولم يفش نبرة الصوت أو يطلق ايقاع رنينها في أذن أحد.
حين تكاثر الناس، صنعوا له إسما وشرفة، وسلّما لولبيا يصعد بهم بعيدا عن لجة القاع،
وسط المدينة.
نشروا مقاعدهم وسط المكان، حين افترقنا، ولم نعد. 
في الصيف من كل عام، يقف الوقت مجددا، على
احتمالات جديدة، ولقاءات نادرة، تبقى رهينة الصدف…
سرعان ما ينفد الصبر لدى “روزنامة” التوقيت،
وينحسر، أمام حشد التفاصيل الصغيرة، المملة،
للشوارع والبيوت. 
اليوم، لم يعد وجوده غريبا، وهو يسدّ بوابة البيت القديم كلافتة، أو مقهى، أو حتى صندوق رسائل، نراه معلّقا وفارغ، تعبره الرياح من كل الجهات، نذكره ونحن نبتعد، لكنه لا يفضي لشيء، كلما تعلّق الأمر بالبحث عن أحد.
___________________
*قاص من الأردن 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *