* مادونا عسكر
خاص ( ثقافات )
قراءة في المجموعة القصصية ” مملكة الرّئيس” للكاتب الفلسطيني “سعيد الشّيخ”
– العنوان العلامة: ” مملكة الرّئيس”.
يقودنا عنوان المجموعة القصصيّة ( مملكة الرّئيس) للكاتب الفلسطيني سعيد الشيخ إلى تلمّس مكنون النّصوص قبل الولوج فيها. وتتجلّى في العنوان معان يترجمها الواقع المؤلم الممتدّ من عقود بعيدة إلى عقود آتية، نحياها في ظلّ ممالك ابتناها رؤساؤها وفصلوا أنفسهم عن شعوبهم، بل جعلوا منهم عبيداً لملوكيّتهم. أراد الكاتب ( مملكة الرّئيس) نموذجاً لكلّ نظام نصّب نفسه إلهاً على شعبه مطالباً إيّاه بالسّجود له وتقديم فروض الطّاعة، ضارباً بعرض الحائط كرامته الإنسانيّة.
1) الرّئيس الإله:
خمس قصص يفتتح بها الكاتب المجموعة القصصيّة تعبّر عن قدرة الرّئيس على بسط تسلّطه الشّامل على حياة النّاس. فيستعيد ماضيهم ويبحث فيه عن أيّة هفوة مسّت بشخصه. كما يتحكّم بحاضرهم ويقتل البهجة في نفوسهم ويحرمهم من أبسط حقوقهم، ويسيطر على مستقبلهم بقمع حرّيتهم الفكريّة ومصادرة آرائهم والاستحواذ على حياتهم. كما نقرأ في هذه الافتتاحيّة التباساً بين المعنى الحقيقي للألوهية وبين مفهوم الرؤساء لها، ونتبيّن أنّ الرّئيس المنزّه يستبعد الله ولعلّه يعتبره عدوّاً له.
للرّئيس حاشية في مملكته، تحافظ على أمنه الشّخصيّ وتتّخذه إلهاً لها. تلك الحاشية البائسة تشكّل عينيّ الرّئيس، تراقب تحرّكات النّاس وتترصّد آراءهم ملتزمة بتنفيذ شريعته، ومستعدّة دائماً للدّفاع عنها بشراسة، حتّى لو اقتضى الأمر انتزاع حياتهم. وبما أنّ هذه الحاشية عابدة لرئيسها فلا تختلف سلوكيّاتها عن سلوكيّاته. وتسمح لنفسها أن تنتهك حرمات البيوت وتغتصب أجساد وكرامات النّاس.
أظهر الكاتب إبداعاً خاصّاً في تعبيرات لخّصت فكره الشّخصيّ وملاحظاته على آداء الرّئيس الإله في مملكته:
– ( لقد دعت ربّها أن يجلب الموت للرّئيس وعائلته).(1)
تشير هذه الجملة إلى جسارة كبيرة في سلوك الرّئيس إذ يعتبر أنّ ربّ السّيدة المطلوبة للاعتقال مغاير لربّه بل لشخصه. وبالتّالي تخلق كلمة ( ربّها) صدمة لدى القارئ إذ إنّها تبيّن له القطيعة بين الرّئيس في مملكته وبين الله. وكأنّي بالكاتب يريد القول أنّ الرّئيس لا يعبد الله أو لا يعتبره القدير المترفّع عن الفعل الإنسانيّ السّيّء، وإنّما ينزل الله إلى مستوى صورته الشّخصية معتبراً أنّه يحاربه من خلال المؤمنين به.
تقابل هذه الجملة شبيهة لها: ( يا حقير هذا ربّك الأعلى ، يجب أن تقدّسه!) (2). تعيدنا هذه الجملة إلى صورة الحاكم الإله في تاريخ الشّرق: ( في الأصل كان الحاكم يعدّ من طبيعة إلهيّة، فهو لم يكن مختاراً من الإله بل كان الله نفسه. وقد قامت الحضارات القديمة عموماً في مصر، وفي فارس، وفي الهند، وفي الصّين على أساس هذه النّظريّة، وكان الملوك والأباطرة يُنظر إليهم باعتبارهم آلهة.) (3). وكأنّي بالكاتب يؤكّد على أنّ هذه الفكرة ما زالت راسخة في ذهن من يعتلون سدّة السّلطة.
– ( هل تسمعني يا سيّدي؟) (4)
تتكرّر هذه العبارة ثلاث مرّات حتّى يُهيّأ لنا ونحن نقرأ ( أنياب ومخالب) (4)، أنّنا أمام صنم غير مبالٍ بأوجاع سيّدة انفطر قلبها على أخيها المسجون في مملكة الرّئيس. تشكو ألمها يوميّاً بسبب الظّلم الّذي ألحقه الرّئيس وحاشيته بأخيها وبها. لا بدّ أنّ الكاتب يريد من خلال هذه القصّة تسليط الضّوء على أمرين: الأوّل، قتل الأمل والحلم ماديّاً ومعنويّاً. فالسّجن الّذي نشهده في هذه القصّة لا يشكّل عقاباً على مخالفة قانونيّة، وإنّما يدلّ على قمع الحرّيّة وتعطيل الرّأي وتدمير الطّاقة الإنسانيّة الخيّرة. والثّاني، اعتبار الإنسان مجرّد سلعة وملكيّة خاصّة يمكن التّصرّف بها بشتى أنواع القبح والإهانة، إمّا بهدف إرضاء الغريزة الحيوانيّة وإمّا بهدف السّيطرة القمعيّة. فالبشر لا كرامة لهم في مملكة الرّئيس ولا قيمة لإنسانيّتهم.
– سيّد الفساد. (5)
لعلّ ( سيّد الفساد) من أروع المشاهد في هذه المجموعة.
يضعنا الكاتب أمام مشهدين متناقضين تماماً: فروض الصّلاة مقابل سلوكيّات سيّد الفساد.
يفترض التّقدّم للصّلاة نقاء ذهنيّاً وروحيّاً واتّضاعاً تترجمه أفعال إنسانيّة في الواقع. وأمّا هنا فنحن بصدد مراءٍ يصلّي مقابل أن يأخذ أجره من النّاس، أي ليظهر بمظهر التقيّ والمؤمن في حين أنّه يمارس شتّى أنواع الفساد. فبعد كلّ فرض وعلى امتداد النّهار، يهتمّ ” سيّد الفساد” بجني الأرباح من صفقات غير مشروعة، وبالتّلذّذ بتعذيب المساجين من معارضيه، ثمّ التّوجّه إلى الحانات لينقض كلّ وصيّة إلهيّة. فيشرب الخمر ويلهو بألعاب المراهنات، ليخلص إلى قضاء اللّيل في زنى يشرّعه لنفسه.
قوّة هذا المشهد تكمن في أنّ الكاتب استطاع أن يجسّد الفساد شخصاً. فأخرج من هذه الشّخصيّة كلّ القبح والسّوء، فما عدنا نرى ملامح إنسان بل فساداً بهيأة إنسان، أو بمعنى أصح، جثّة بشريّة تتنفّس فساداً.
2) مقاربة نفسيّة لصاحب السّلطة.
أجاد الكاتب في ( حواريّة لصاحب السّلطة مع المرآة) (6) إبراز المسلكيّة النّفسيّة لصاحب السّلطة، مبيّناً مواطن ضعفه واضطراباته النّفسيّة وذلك بتسليط الضّوء على جوانب شخصيّته المتسلّطة. وتمتدّ هذه المقاربة لتُظهر واقع “مملكة الرّئيس” الغارق في شتّى أنواع البؤس الإنسانيّ، نتيجة انحرافات هذه الشّخصيّة.
تجسّد المرآة في هذا النّص ما يسمّى باعتراض الضّمير، فيصوّر لنا الكاتب صاحب السّلطة يحاول السّيطرة عليها ويأمرها بإخراج صورته الجميلة: ( أنا صاحب السّلطة، آمرك بصورة تعكس قوّتي ووسامتي). وإن دلّ هذا الأمر على شيء، فهو يدلّ على إدراك صاحب السّلطة لبشاعته من جهة، ومن جهة أخرى، مواجهته لهذه البشاعة تجعله مضطرباً ما يدفعه لتحطيم هذه الصّورة.
– ( لا سلطان لك عليّ)
اعتراض الضّمير لا يخضع لنزوات الإنسان، ويتجلّى في كشف ذاتيّته بوضوح تامّ فيظهر صورة الإنسان الحقيقيّة. بيد أنّه لا يعيد السّلوك الإنساني إلى حالته الأصليّة السّليمة إلّا بقرار من الإنسان نفسه.
– ( أنا صانع الوقائع والمصائر، صاحب السّلطة الحاكم، ولي يذعن حتّى الجماد والنّبات .. وما أنتِ إلّا كائن حقير أستطيع تهشيمه بقبضتي.)
قوّة صاحب السّلطة تكمن في صورته البشعة. بمعنى آخر، يعتبر صاحب السّلطة قدرته على الاستبداد والتّسلّط والتّرهيب حصناً منيعاً وقيمة عظمى له. وأيّة حركة لإعادة النّظر في هذه القيمة يرهبه، لأنّه يخشى على فقدان سلطته وهيمنته، فإن فقدهما فقد قيمته الذّاتيّة.
3) اعرف عدوّك:
في ( مملكة الرّئيس) (2) يغيب عن ذهن القارئ للحظة عدوّه الحقيقيّ، ويُخيّل إليه أنّه مشتّت بين أعداء كثر. وقد يقتنع بأنّ أعداءه الدّاخليين متواطؤون مع العدّو الحقيقيّ وينفّذون هجماته بانتظام. وقد يلتبس لديه مفهوم الوطن، فيتحوّل إلى مفهوم المملكة المقتنى الخاص للرّئيس بل دولة بوليسيّة ربّها الأعلى الرّئيس، وعلى المنتمي إليها السّجود وتقديم كلّ فروض الطّاعة والولاء. في هذه المملكة المفترضة وطناً في الأصل، يخضع المواطن للتّفتيش والاحتقار وشتّى أنواع العنف الجسدي والمعنوي لمجرّد أنّه خالف وصيّة واحدة، ألا وهي الاعتناء بصورة الرّئيس! فتتولّى الحاشية الدّفاع بشراسة عن الرّئيس الإله. يؤكّد الكاتب هذا الواقع بمشهد مميّز ولافت: ( في هذه الأثناء دوّى الصّوت. الصّوت الهادر الّذي يغطي جميع الأصوات .. صوت طائرات العدو وهي تجوب أجواء البلاد في إحدى طلعات التّحدي الرّوتينية.). معبّرة جدّاً هذه الصّورة الّتي ينقلها لنا الكاتب، المنبعثة من عمق واقعنا المذري والمخزي والمتخبّط بين العدو المتربّص لنا وبين الرّئيس العدو.
4) أوّل الحرّيّة والكرامة:
لا بدّ أنّ الكاتب أراد استعادة الأمل من ثورات ما سمّي بالرّبيع العربي، واصفاً المشهد كنور ينكشف أمام الظّلم والقهر والاستعباد ويفاجئ الرّئيس في ظلمته الدّامسة. فسحة من الحرّيّة والكرامة حملت في ظاهرها أملاً جديداً للشّعوب المقهورة للانعتاق من مملكة الرّئيس. إلّا أنّنا سنرى لاحقاً أنّ المضمون اختلف كثيراً عن الظّاهر وحوّل مسار الثّورات إلى جحيم من نوع آخر يحوي إمارات جديدة لا تقل وحشيّة عن ” مملكة الرّئيس”.
لكنّ الأهم أن واقع الثّورات أظهر شرخاً في النّفس الإنسانيّة، سواء أكان هذا الشّرخ في المواطن نفسه أو في الجندي الموكل إليه الدّفاع عن الوطن أو في الجماعات المأخوذة بالدّفاع عن العقيدة… فوجد المواطن نفسه في مواجهة مع أهله وإخوانه وأهل بلده.
تطفو على سطح هذه الثّورات غرائز دفينة تطلق العنان للنّعرات الطّائفيّة والمذهبيّة. ولقد فجّرت هذه الثّورات كبتاً تمرّس في الإنسان فحلّت الفوضى، واستبيح القتل، وتفرّقت العائلة، وازداد القهر والظّلم. وانتُزعت البراءة من الطّفولة وتحوّلت إلى وحش ينمو في ظلّ حرّيّة زائفة. ( ما معنى الحرية لطفل مقتولة طفولته سلفاً في عالم ليس له؟)(7)
لقد بدّلت هذه الثّورات ملامح الوطن والمواطن، ولعلّها غرّبته عن نفسه وعن وطنه وهو ما زال يحيا فيه. ( لا أ أريد الحرب … أنا لست أنا … لست أنا … أنا، هل حقاً أنا هذا الّذي في المرآة! من أنا؟ من أنا؟ وانفجر في بكاء مرير.)(8) .
هل ما نحن بصدده ثورة أم حرب ضارية؟ هل هي مسيرة نحو التّحرّر من العبوديّة أم نزف جراح لا تندمل؟ استيقاظ العقل في الإنسان واستعداده للاستنارة في سبيل التّقدّم أم عودة إلى عصور مظلمة يُسلَك فيها بردّات فعل غرائزية؟ تحقيق مفهوم المواطنيّة وبناء الوطن أم صراع قبائل على النّفوذ والسّلطة؟ أليس من نهاية لمملكة الرّئيس أم أنّ خلودها حتميّ؟. وتطول لائحة التّساؤلات، وقد يزداد الاضطراب لفقدان عنصر الإجابة الواضحة.
الجدير بالذّكر أن الكاتب أحسن في مخاطبة عقل القارئ راسماً له الواقع كما هو، داعياً إيّاه بشكل غير مباشر إلى التأمّل بما آلت إليه أوضاعه. ولا شكّ أنّ هذه المجموعة القصصيّة رؤية فكريّة تسلّط الضّوء على الواقع وتبرز ثغراته، وتقود القارئ لاستعادة المفاهيم الأصيلة للحرّيّة والكرامة. ( إنّ كسب الإنسان لحرّيّته لا يمرّ عبر تدمير طبائعه، وإن حدث هذا في لحظة من التّاريخ فإنّ تاريخاّ طويلاّ من الخراب سيعمّ) (8) .
كاتبة لبنانية
—————-
(1) إلى الأبد- ص 5
(2) مملكة الرّئيس– ص 33
(3) الطّاغية- دراسة فلسفيّة لصور من الاستبداد السّياسي- تأليف أ.د. إمام عبد الفتّاح إمام- ص 23
(4) أنياب ومخالب- ص 15
(5) سيّد الفساد- ص 29
(6) حواريّة لصاحب السّلطة مع المرآة – ص 31
(7) البياض- ص 85
(8)عدسة الكاميرا والطّفل- ص 82