ظاهرة إمام ونجم… الثقافة في الوجدان الشعبي


*عزمي عبد الوهاب


ثنائيات الحياة تتسع للجميع – رجالاً ونساء – وهي هنا ترتبط باثنين: شاعر وفنان، منذ أن بدأ ظهورهما معاً في منتصف الستينات من القرن الماضي، وهما يشكلان ما أطلق عليه المثقفون «ظاهرة إمام ونجم»، ويعتبر المفكر فؤاد زكريا هو أول من أطلق على هذا الثنائي وصف «ظاهرة»، فقد كتب في مجلة «الفن المعاصر» التي كان يترأس تحريرها، في عدد يناير/‏كانون الثاني 1969 مقالاً عنوانه «ظاهرة الشيخ إمام» موضحاً ذلك بأنه لم يجد لفظاً أكثر ملاءمة يعالج من خلاله هذا الموضوع الحي، والذي يمثل بالفعل حدثاً مفاجئاً في حياتنا الثقافية، عجز البعض عن فهمه، وفسره غيرهم تفسيراً متعسفاً، ووقف الكثيرون أمامه صامتين مكتفين بإبداء نوع من التعاطف الذي لا يخلو من ترفع وتعال.
يمضي فؤاد زكريا قائلاً: إن معاملته- يقصد الشيخ إمام – على أنه فنان لا تستوعب كل جوانب هذه «الظاهرة» الفريدة، ذلك لأنه لم يتوجه إلى الناس بوصفه فناناً فحسب، بل هو يجمع بين صفة الفنان وصفة الخطيب السياسي والناقد الاجتماعي الساخر، وهو بارع في تمثيله وأدائه، لكنه وسط هذه البراعة التمثيلية لا يبعد بك لحظة واحدة عن صحيح الواقع الذي نعيش فيه يوماً بيوم، إنه بالاختصار يقدم نوعاً من الأداء، يتخطى الحواجز التي ألفناها بين الفنون، بل بين الخيال الفني والواقع الفعلي للناس.
من حجرة فقيرة بحي عريق في مصر القديمة بدأت الظاهرة، بين جمهور عماده أصدقاء الشاعر والفنان، إلى أن خرجت في أشرطة الكاسيت المسجلة تسجيلاً بدائياً ووصلت إلى العمال في المصانع والطلبة في الجامعات، ثم تجاوزت ذلك كله إلى آفاق عربية في اليمن وسوريا والجزائر وتونس وغيرها من بلدان العالم العربي.
كانت البداية في بيت قديم بحي «حوش قدم»، منه خرجت ألحان الشيخ زكريا أحمد ودرويش الحريري ومحمود صبح، وإلى هذا البيت جاء الشيخ إمام، وعلى يدي الشيخ درويش الحريري تعلم النوتة الموسيقية، وحاول أن يعتمد مغنياً في الإذاعة المصرية، لكنه أخفق إلى أن التقى الشاعر أحمد فؤاد نجم عام 1962، الموظف الصغير بمنظمة التضامن الأفروآسيوي، وصاحب ديوان في كرة القدم، والخارج من السجن، بعد أن قضى خلف قضبانه ثلاث سنوات، في قضية تزوير شيك، يقال إنها ملفقة. وعن طريق سعد الموجي تعرف نجم إلى الشيخ إمام، وتمنى أن يلحن له قصائده، وهو يقول: «كنت محظوظاً بالفعل حينما اختارتني الصدفة المحضة لأشارك وأتعاون مع الشيخ إمام، وأن يكون لكلماتي المتواضعة نصيب الأسد في ألحان هذا الفنان الكبير»، فمنذ أن سمع نجم الشيخ إمام يغني ألحاناً للشيخ زكريا أحمد وسيد درويش، قرر أن يسكن البيت الذي يحتوي هذا الفنان، فألقى مفتاح حجرته القديمة من الشباك وخلع حذاءه، لتبدأ تجربة جديدة في الحياة والسياسة والغناء. 
وكما يقول عبده جبير في كتابه «النغم الشارد» بدأت دائرة نجم/‏‏‏ إمام تقترب من دائرة المثقفين الشباب، الذين بدأوا يتوافدون بدورهم على البيت، وكثير منهم حط رحاله في تلك الحجرة، كان الجميع يتقاسمون القروش القليلة التي يملكونها، وكل ليلة كنت تجد الكثيرين منهم وقد تقرفصوا على الأرض أو فوق الكنبة المتهالكة في تلك الحجرة، يسهرون حتى ساعة متأخرة من الليل في مناقشات أدبية وسياسية.
كان أول لقاء بجمهور عام في حفل نقابة الصحفيين الذي أقامته مجلة «الكواكب» في نوفمبر 1968 ليكتب عن الظاهرة كامل زهيري وعبد الرحمن الخميسي ومحمود أمين العالم وكمال النجمي.جرت محاولة لاحتواء الظاهرة، حين ذهب وزير الإعلام، محمد فائق، إلى حوش قدم ليلتقي إمام ونجم، وكان العرض بدلاً من أن يغنيا في أماكن مغلقة ومحدودة «نريدكم أن تخرجوا للضوء، أن تغنوا في الإذاعة حتى يسمعكم الناس»، ووضع نجم وإمام الشروط التي وافق عليها الوزير: «شرطنا الوحيد هو أن تذاع الأغنية التي نسجلها كاملة، ولا نقبل أن تحذف منها كلمة واحدة، وألاّ تذاع أغانينا وسط أغاني الحب والغرام الهابطة». وفي اليوم التالي كان إمام ونجم في الإذاعة، ليقدمهما رجاء النقاش في برنامج اسمه «مع ألحان الشيخ إمام» الذي استمر لمدة شهرين، وخصصت لهما نصف ساعة يومياً، لكن شهر العسل لم يدم طويلاً بين السلطة والثنائي إمام ونجم، فقد نشر ناقد في صحيفة «الأهرام» مقالاً يسيء إلى الظاهرة الفنية، ما دعا د. حسن حنفي للرد على المقال.
فشلت محاولات الاحتواء ولم يبق إلا سيف المعز، فقد تم تلفيق تهمة للثنائي إمام ونجم لكن القاضي حكم ببراءتهما، وأخلى سبيلهما بكفالة قيمتها 20 جنيهاً، وانتشرت الظاهرة
وخرجت بعيداً عن الحاضنة المصرية، لتجوب بلاد العالم، وكان حفل باريس يكتب السطر الأخير في تلك الظاهرة، حين اختصم الشاعر والفنان.
_______
*الخليج الثقافي 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *