محمد الأسعد
في كل مرةٍ تحمل لنا فيها الأخبار شيئاً عن انعقاد مؤتمر ثقافي أو ندوة في أي زاوية عربية، نستبشر خيراً، أمّا إذا حدثنا الخبر عن وضع استراتيجية لثقافتنا، فإن الاستبشار يتحول إلى اطمئنان وثقة، بأن لأيامنا الحالية مستقبل قادم، ولن تكون مثل سالف الأيام، أي مثل قرن مضى من التراكم؛ تراكم الأشياء والمعلومات والزلازل ربما، في الجغرافيا العربية، لم ينتج ما يتجاوز الرغبات والآمال في إيجاد مشروع ثقافي عربي حي وفعال.. ونحن الذين كنا ننظر بجدية إلى هكذا تسميات، وتحمسنا ذات يوم لقراءة مجلدات الخطة الشاملة للثقافة العربية التي صدرت في العام 1986، بعد أن جمعوا لوضعها 600 باحث ومفكر، وطالبنا المثقفين العرب بتعميم إيقاع هذه الخطة، نشعر الآن بأن الأمر لم يكن سوى زراعة في الهواء، أو تمرين في الإنشاء.
تلك المجلدات التي أصدرتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم تحت عنوان «مشروع استراتيجية الثقافة العربية»، انطوت على الكثير من الرغبات، وجاءت في صيغة توصيات لم يأخذ بها أحد على علمنا. فإذا أضفنا إلى هذا جملة من المؤتمرات الثقافية والفكرية، والمهرجانات الحاشدة التي تنشغل بها عقول وجيوب عدد كبير من المدعوين عادة، نجد الأمر لا يخرج عن الرغبات نفسها، لكن بصيغ مختلفة تتنوع حسب المقام، وتطول أو تقصر حسب رغبات من يستضيفون ويعقدون.
في هذه الأجواء، تبدو لنا مقاعد الدرس التي تلقينا عليها أول دروس الأبجدية والتاريخ وسير العظماء وكأنها حدثت في عالم آخر لا يمت لعالمنا الراهن بصلة، أو أنها لم تكن إلّا أحلاماً، في ضوء هذا الركام الساكن؛ لغات ومشروعات وتجمعات وخطط وبشر وطرقات ومدن، هذا الركام الذي لا يكاد يخرج على طور دروس الإنشاء وتمارينه.
كان د. طه حسين يطلق على «الأدب الإبداعي» اسم «الأدب الإنشائي»، وكنت أشعر بغرابة هذه التسمية لأن الإنشاء ارتبط في ذهني بالكتابة المدرسية؛ بالتفنن اللغوي بعيداً عن أية تجربة ملموسة. ولست أجد من المبالغة في شيء ربط المشروع الثقافي الذي تتحدث عنه منظمة تربية عربية تارة وإسلامية تارة أخرى، وتعلكه تجمعات منغلقة على نفسها في هذا البلد أو ذاك بين آونة وأخرى، بدرس الإنشاء القديم حين كان الأستاذ يطلب منا كتابة موضوع عن أي شيء يخطر بباله أو يراه مناسباً؛ فإمّا أن يكون رحلة في الربيع أو زيارة جنة من الجنان.. إلخ، وكلا الموضوعين مصدرهما التوق والرغبة لا التجارب والاستقصاء. وكذلك مشروعات الاستراتيجيات الثقافية، فهي لا شأن لها بواقع وجودنا ككومة أنقاض في زاوية من زوايا هذا العالم، كما لم يكن من شأننا ونحن على مقاعد الدرس أن نعرف ما هو هذا الذي يريد منا الأستاذ الكتابة عنه.
ويتعمق هذا الشعور في ضوء ما يمطرنا به العالم المعاصر من أنباء نهضات وتطورات تلم بالشعوب المنسية والمهملة، هذا إذا غضضنا الطرف عما يحدث في العوالم النامية التي تفصلنا عنها سنوات ضوئية.
هل كان تناول قضايا الثقافة في عالمنا واستراتيجياتها مجرد تمارين إنشائية طيلة ما يقارب القرن؟ وأين نضع هذا الركام الذي نصطدم به ولا نفهمه؟ يبدو أن السؤال الثقافي لم يوضع موضعه الصحيح، حين لم يكن موضوعه «الإنسان» بقدر ما كان موضوعه الأفكار والأشياء. لم تكن تنقصه الأحلام الكبيرة بقدر ما كانت تنقصه الأعمال الكبيرة. هناك أسئلة تستنطق التراث بنيات مسبقة؛ إما بتصوير جوانبه الحية وإنقاذها من النسيان، أو بالبحث عن نسب لنا في منطوياته. حجة النية الأولى كما يقولون عادة هي تجديد الحاضر، وحجة الثانية إعادة تأهيله. لكن من الذي يجدد؟ ومن الذي يؤصل؟ أليس هو «إنسان» هذا الحاضر التائه في الحروب الإقليمية والمعازل والمهاجر؟ «الإنسان» الذي تتناقص قدرته على تلبية أبسط حاجاته الضرورية سنة بعد أخرى؟
عدة جهود شهدها القرن العشرون بذلها أفراد متميزون، منهم د. طه حسين في بحثه عن مستقبل الثقافة في مصر، ومنهم د. طيب تيزيني في بحثه عن مشروع نهضوي عربي أوسع، ومنهم د. حسين مروة في أبحاثه التراثية، ومنهم د. محمد عابد الجابري في تحليله لما سماه «العقل» العربي، وبذلت عدة مؤسسات جهوداً، مثل المنظمة العربية للتربية (1986)، ومثيلتها أو منافستها في الحقيقة المنظمة الإسلامية للتربية (1991). ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين نشطت حركة إيجاد «استراتيجيات ثقافية» خاصة بهذه العاصمة أو تلك، مطالبات في العراق بمفهوم واضح لسياسة استراتيجية ثقافية للعراق الجديد (2009)، والجزائر ترسي استراتيجية ثقافية وطنية تراعي عدداً من العوامل المشكلة للشخصية الجزائرية (2014)، وعلى العكس من هذه الدعوات ظلت تظهر بين فترة وأخرى دعوات تصر على إيجاد استراتيجيات عربية شاملة، مثل الدعوة المصرية إلى إقرار استراتيجية عربية لحماية الهوية العربية ومواجهة التطرف (مايو/أيار 2015) والدعوة الكويتية إلى وضع استراتيجية مشتركة بين مختلف الدول العربية من أجل الحفاظ على الممتلكات الثقافية (أغسطس/آب 2015).
ويلاحظ أنه مع مراوحة هذه النزعات إلى مخططات «استراتيجية» بين نزعات محلية وقومية وعابرة للقومية، هناك تنوع في الأهداف، بعضها يبتغي التنمية، وبعضها يبتغي مواجهة الإرهاب، وبعضها يبتغي حماية الهوية العربية.. إلخ. أو بكلمة مختصرة، يبدو التشتت سمة بارزة تضاف إلى سمة الإنشائية ووضع التوصيات والعجز عن تحويل الخطط إلى آليات متحركة التي وسمت استراتيجيات القرن الآفل.
لو جمعنا كل هذا معاً، نصل إلى حصيلة لا تأخذ طريقها إلى أنساغ الواقع الاجتماعي، ويظل هذا الواقع محكوماً بأشباه مشاريع ثقافية وأشباه مؤسسات حتى هذه اللحظة. وأسباب هذا التصحر داخلية عميقة وليست خارجية فقط، أي أنها جماع علاقات داخل/خارج، ويمكن تلخيصها بالنقاط التالي:
1- الافتقار إلى مبدأ النمو، اللهم إلا على صعيد النمو السكاني. فالمؤسسات والمشروعات تولد وتهرم وتموت في زمن قصير، وكذلك الأفكار التي تتناثر كما تتناثر البذور في الرمال، ولعل اضطرار الأجيال جيلاً بعد جيل إلى البدء من الصفر دائماً على صعيد التربية والاقتصاد والسياسة والثقافة، لدليل على أن التجربة الاجتماعية لا تنمو. ولأن ليس هناك مبدأ نمو، فلا نجد مراكمة تاريخية للأفكار والمشروعات بل طبقات بعضها فوق بعض، يجهل بعضها بعضاً.
2- تجذر مبدأ شمولية السلطة في الوطن العربي، ليس على المستوى السياسي فقط، بل على مستوى الاقتصاد والتربية والثقافة وكل شيء تقريباً أيضاً. ولا سلطة تعلو على هكذا سلطة أو تجاورها حتى، بما في ذلك سلطة الحقيقة، ناهيك عن سلطة الثقافة. وبسبب هذه الشمولية، لا يمتلك أي مثقف نفوذاً على واقع وخيال الناس بمعزل عن أدوات هكذا سلطة. إنه يعيش بها ولها إذا كان له أن يحقق وجوده ويجني ثمار سنوات جهده وبحثه. ومن حيث المبدأ، لا تسمح أي سلطة شمولية بوجود خطاب ثقافي مستقل، ناهيك عن وجود فعاليات مجتمع مدني بمعزل عن تبعيته لها. المثقف المسموح له بالبقاء هو «شبه» المثقف، والمجتمع المدني المسموح له بالقيام هو «شبه» المجتمع المدني. ومعنى هذا أن كل ما هو موجود في ظل السلطة الشمولية موجود بغيره لا بذاته. ومنذ زمن طويل أدرك الكثير من المثقفين هذه الوضعية، فاستقالوا من وجودهم، وعلقوه على وجود السلطة الشمولية، فنصب بعضهم نفسه «مستشاراً» ناصحاً لها، واكتفى بعضهم بوظيفة مقدم الطلبات لزبائن مأدبتها.
3- غياب مبدأ النقد غياباً فاجعاً، وهو نتاج ما سبق؛ نتاج غياب مبدأ النمو ونتاج الاستقالة من الوجود المستقل. والمقصود بالنقد النقد المعرفي، نقد الأسس المعرفية، وليس الشتائم الصحفية التي يصبها مثقفو المهاجر على رأس المجتمعات العربية، فتتهم بأنها مجتمعات آخذة بالانقراض، أو مجتمعات خرجت من التاريخ، أو مجتمعات تستمرئ العبودية.. إلخ. مثل هذا النقد الأساس للبنى الخربة والأنقاض، سواء كانت مناهج تفكير أو مؤسسات، محرم من جانب ومسكوت عنه من جانب آخر. محرم بسبب حظر التجوال المفروض على الباحثين في الماضي والراهن، ومسكوت عنه لأن الذين يتصدون لتغيير الوقائع لا يحملون فكراً بل شهوة للسلطة، وسرعان ما يتخلون عن سعيهم لدى أول عظمة تلقى لهم، والذين يفكرون بلا ادعاءات لا صلة لهم بهذه الشهوة التي تجتاح الحياة العربية.
لكل هذه الأسباب يبدو التراكم المعرفي مؤجلاً، والسؤال عن مبدأ النمو غائب، ومن في الحلبة يتطارحون أسئلة من نوع آخر. وكما أن هناك أشباه مثقفين، وأشباه مجتمعات، هناك أشباه أسئلة. وهناك مبدأ التعويض: المهرجان تعويض عن حوار العقول، والتعلق بالمخلص تعويض عن تحمل المسؤولية الشخصية، وصحف وفنون التسلية تعويض عن صحف التنمية والتثقيف، وخير ما يؤدي أفعال التعويض؛ الاستعراض، وخير من يؤدي الاستعراض هو الشبيه لا الأصل. ويشكل كل هذا الاكتظاظ حياة شبيهة بحياة الركام، وبعيدة كل البعد عن حياة البنى العضوية الفعالة التي لا تقوم أية استراتيجية، ثقافية وغير ثقافية، من دونها.
________
الخليج الثقافي