تجربتي مع الأدب الهندي


أزهار أحمد


حكايتي مع الأدب الهندي بدأت منذ أن كنت صغيرة، حين وقع في يدي كتاب للشاعر الهندي طاغور. أخذت الكتاب من مكتبة أبي، ولم أكن أفهم ماذا يعني طاغور، ولا ماذا يحوي الكتاب. تصفّحته، ولم أتركه حتى انتهيت منه. كنت أقرأ القصائد المترجمة إلى اللغة العربية بنهم كبير. كل قصيدة كانت تزرع في روحي نبتة من عالم شعري روحاني أدبي عميق. احتفظت بذلك الكتاب الصغير حتى اليوم، وظللت فترة طويلة أقرأ فيه. كبرت وكبر معي حبّي للأدب الهندي والحضارة الهندية، بعد ذلك بدأت أقرأ عن الأساطير الهندية التي أثَّرت في خيالي كثيراً، وجعلتني أتخيّل الحياة القديمة كما لو أنها سحر، وأضافت إلى فكري عالماً جديداً من البطولة وعلاقة الإنسان مع الحياة والكون والآخرين. لم تكن تلك الحكايات والأساطير مجرّد قصص نسجها الإنسان، وإنما كانت بحثاً عن الحقيقة والكينونة، ورحلة في ماهيّة الحياة. 

تبدأ الثقافة الهندية من روح الإنسان، لذلك كانت النصوص الدينية وقصص الفيدا والأبطال الذين صنعتهم، للوصول إلى المراحل العلوية من الاتّحاد مع الطبيعة، مفتاحاً آخر قدّمَته لي قراءاتي الأولى لتصوّر واقتراب من فهم صناعة الحضارات وتعزيزها. كل هذا كان له تأثير في كتابة روايتي الأولى التي استخدمت فيها شخصيات وأماكن وأحداثاً من وحي تلك الأرض العميقة. قبل أن أكتب روايتي «العصفور الأول» مَرّ في خاطري مئات الأماكن، وبحثت في الحضارات الأكثر تأثيراً، لكنني لم أجد أفضل من الهند مكاناً لتصفية الروح والوصول إلى هدف بطل روايتي الذي كان يقبض شعلة الأمل بيدين عاريتين. كان لنهر الجانج، وفاراناسي المدينة المقدّسة وقعٌ خاصّ في نفسي، ساعدني على استلهام أحداث تصنع، من قارئي ومن شخصيات روايتي، أبطالاً نتقارب، أنا وإياهم، في الفكر والحلم. كما أنني فكرت أن الاقتراب من الهند ومعابدها ودياناتها ولغتها وأهلها، ولو بشيء بسيط، فرصة لتقديم هذه الأرض العظيمة والتاريخ العميق لجيل قد لا يفكِّر بالهند كما نفكِّر نحن، ولا يراها إلا كما هي، الآن، نتاجاً للعولمة والتقلُّبات الاقتصادية. ولأن للتاريخ الهندي عبقاً أصيلاً وحضارة طويلة تمتدّ إلى البدايات الأولى لعمر الحياة، فلطالما كان فضولي متوجِّهاً نحو أسرارها وعراقتها. ولا أستطيع القول إنني من خلال قراءاتي البسيطة استطعت الوصول إلى المعرفة التي كنت أرجوها، إلا أنني ما زلت أنهل مما يصل إلى يدي، ومما أجده من متعلِّقات هذه الأرض الغنيّة. 

بعد كتاب طاغور والنصوص الدينية والأساطير بدأت أوسِّع قراءتي في مجال القصة والرواية، وهو الأمر المهم الذي ينقل إلينا حياة الشعب الهندي، بالصورة الصحيحة، حتى لو كانت تلك النصوص ليست مطابقة للواقع، لكننا نعرف أن الكاتب- أي كاتب- يستمدّ من أرضه وشعبه ومجتمعه أفكاره وحركة شخوصه.

من الكتب التي أثَّرت فيَّ الرواية العالمية المشهورة الحائزة على جوائز عديدة «ربّ الأشياء الصغيرة» للكاتبة الهندية أرونداتي روي. تلك الرواية كانت مليئة بالمفاجآت بالنسبة لي، فالتكنيك الذي كتبت به كان كافياً لينقل طريقة قراءتي لها من مستوى إلى آخر، مثل صيّاد يصارع الأمواج على قاربه الصغير. كما أن المخيِّلة الغنية التي أثرت الكتاب، أكَّدت لي قوّة الأدب الهندي وأصالة الكاتب الهندي. كنت، وأنا أقرأها، مثل الرحالة الذي اكتشف طريقاً جديداً. كل الأشياء الصغيرة التي نلمسها كل يوم يمكن أن تغيِّر حياتنا إلى الأبد دون أن نشعر. فقط، علينا الانتباه إليها، وبعدما انتهيت من قراءة تلك الرواية، لم أتمكَّن من القراءة لأسابيع لأنها تركت في داخلي فجوة لم أستطِع حتى التفكير بملئها. وقرّرت ألا تكون قراءاتي أقلّ من ذلك المستوى الأخّاذ.

من تجاربي الأخرى مع الأدب الهندي كانت مجموعة قصصية للكاتبة جومبا لاهيري عنوانها «مترجم المواجع». في الحقيقة، لقد أحببت هذه المجموعة بسبب البساطة الساحرة في السرد. كانت القصص مزيجاً من الحاضر والماضي مع الثقافتين: الهندية، والأميركية، حيث الموطن الأصلي للكاتبة والمكان الذي قضت فيه حياتها. قرأت تلك المجموعة باستمتاع وتشوُّق لكل قصّة، وشعرت بأن الكاتبة تمتلك أسلوباً طرياً ناعماً في الكتابة، يجعل القارىء يجري وراء كل قصة.

ولأنني تأثَّرت بكثير من الكتب، فإن كتاب «النمر الأبيض» للكاتب آرافيند أديغا له شأن خاص، جاء وسط غَرَقي في الأدب الهندي. من خلال تلك الرواية تعلَّمت أشياء جديدة عن الحياة السياسية والحياة الاجتماعية، تقترب من أسلوب الأفلام الهندية الذي اعتدناه. مع أنني كنت أظنّ أن صور الأفلام، دائماً، مبالغ فيها لأبعد الحدود. والحقيقة أنني، من الصفحة الأولى، شعرت بأني أشاهد فيلماً متقناً، لكنه يختلف- بطريقة ما- عن أفلام بوليوود الصاخبة. قَدَّم لي ذلك الكتاب صورة مغايرة عن الهند الحقيقية التي تخرج من إطار العراقة والديانات والتاريخ، الهند الحقيقية بكل تلوُّثها الإنساني وتلوّثها الفكري، والذي غالباً ما تغطّيه الصورة النموذجية لها.

في كل مرّة أقرأ فيها مقالاً لجِدّو كريشنا مورتي، يقودني ذلك إلى فهم أفضل لنفسي وللحياة. كريشنا مورتي ليس كاتباً بل هو مفكّر وعالم روحاني، استطاع أن يستوعب المفاهيم الأساسية للحياة، وكنت أستغرب، دائماً، من قدرته الهائلة على امتلاك كل الأجوبة، وكيف له- بكل سلاسة- أن يعرف معنى ما نحارب نحن من أجله كل يوم. كانت الأجوبة تكمن في الإيمان. الإيمان الحقيقي الصافي، بالوجود والموجودات. ومن خلال كتاباته تعلَّمت أن أواجه الخوف، وأفهم الحبّ، وكيف أصنِّف العلاقات الإنسانية، فكتاباته لا تقرأ مرّة واحدة، بل هي بمثابة مرجع يومي للتعامل مع الحياة، حتى نكتمل بالحكمة. 

في أحد الأيام من عام 2012، كنت متأخِّرة عن عملي، بسبب الازدحام الشديد، وكان مزاجي سيئاً لأنني تجاوزت الإشارة المروية وتَمَّ مخالفتي، ثم أوقفت سيارتي دون أن أدفع للموقف، وحصلت على المخالفة الثانية في اليوم نفسه. كان صباحاً مزعجاً ذا إيقاع عجيب، وكنت على وشك الانفجار، لكنني حالما وصلت إلى مكتبي وجدت مغلَّفاً كبيراً، فاستغربت لذلك، وتساءلت عن مصدره، مع أنني لاحظت، من النظرة الأولى، أنها مجموعة كتب. وبالفعل، كان المغلَّف من الأستاذ عبدالكبير، الكاتب والباحث والمترجم الهندي الذي بدأ بالتواصل معي بسبب إعجابه بروايتي «العصفور الأول». كان المغلَّف يحوي كتابين لكاملا داس، الشاعرة الهندية الكبيرة: أحدهما مجموعة شعرية، والآخر سيرة ذاتية. قرّأت الكتابين وتعرَّفت إلى شاعرة عظيمة، وإلى سيرة حياة مختلفة، وتساءلت: لمَ جاءت معرفتي بها متأخِّرة إلى هذا الحَدّ؟ تبيَّن لي أن كاملا داس كاتبة من العيار الثقيل، فأسلوبها وجرأتها وقدرتها على تصنيف المشاعر والأحاسيس ليست مألوفة.

استمرّ الأستاذ عبدالكبير بإرسال الكتب والمقالات إليّ، كان قد فهم اهتمامي وفضولي، وعرف ما الذي يجب أن يرسله. ومن الكتب الرائعة التي أرسلها لي رواية «شمين» للكاتب الهندي تكازي شيوا شنكارا بالاي، والتي قرأتها دفعة واحدة، وكنت آخذها معي إلى العمل، في حال وجدت وقتاً لقراءتها. العقَبة الوحيدة لي مع رواية «شمين» كان لفظ الأسماء التي تُرجمت بطريقة مختلفة، نوعاً ما، عن طريقة نطقها الأصلية. وللأسف، إن المترجم لم يحاول شرح طريقة نطق الحروف، لكنني- من جهة أخرى- أحببت الرواية جداً، ومنها تعلّمت إمكانية كتابة رسالة غير مباشرة من خلال حوار عظيم. لعل «شمين»- كما ذكرت سابقاً، في إحدى كتاباتي عنه- هو الكتاب الوحيد الذي أقرأه، ويشكِّل الحوار نسبة 90 % منه.

تجربتي مع الأدب الهندي لا تتوقَّف هنا، ولا تبدأ من طاغور. ربما هو أمر فطري صنعَته لحظة ما، لكن التصاقي به ترك أثراً عميقاً على كتاباتي قبل كل شيء. والآن، أسعى جاهدةً للحصول على أفضل الكتب الأدبية الهندية، ربّما يصمت، قليلاً، هذاً الفضول الذي يصرخ دائماً، إنما- بالتأكيد- أوّجه خالص شكري وتقديري- أوّلاً، وقبل كل شيء- للأستاذ عبدالكبير الذي قرأ كتبي، وترجم مقالاتي للمالايالمية، ثم نُشِرت في صحف ومجلّات متنوِّعة في كيرلا؛ مما أكسبني اعتزازاً واحتراماً لهذا الشعب المأخوذ بالعلم والمعرفة.

الدوحة

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *