قصص نفسية واجتماعية وفكرية لواقع عماني يتغيّر


فيصل عبدالحسن


معظم قصص مجموعة “مرعى النجوم” الجديدة، للقاص العماني محمود الرحبي تدور حول إشكالية نصية أثيرة عند القاص، وهي الصراع التاريخي بين الماضي الذي يريد البقاء على حاله، والجديد الذي يكافح من أجل إثبات أهليته وملاءمته لأوضاع العالم، وما تستجدّ فيه من تطورات.

يتناول القاص العماني محمود الرحبي في مجموعته القصصية الجديدة “مرعى النجوم” التي صدرت في كتاب مستقل مع العدد الأخير من مجلة نزوى 83 الصراع الحضاري في المجتمع العماني. وللقاص الرحبي العديد من المجموعات القصصية والروائية السابقة منها “اللون البني وبركة النسيان” و”لماذا لا تمزح معي؟” و”أرجوحة فوق زمنين” وروايات مثل “خريطة الحالم” و”درب المسحورة” و”فراشات الروحاني”.
القاص محمود الرحبي ينظر إلى هذا الصراع من زوايا عديدة، من بينها الصراع الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، فتجد أبطال قصصه يواجهون اختيارات صعبة بين الماضي، وما اعتاد الناس أن يفعلوه، وبين الحاضر ومسلماته.
صراعات نفسية، وفكرية، وأيديولوجية نجدها تستعر في ثنايا كل قصة، والسارد أحيانا يقف متحيّرا بين رؤيتين، رؤية ترى في الماضي الخير والجمال كله، ورؤية مناقضة ترى أن ذلك الماضي ولّى، وعلينا لكي نعيش أيامنا بحكمة وفي سعادة أن ننسى ذلك الماضي، ونتعلم كيف نتعامل مع الحاضر ومتغيّراته، وفق ما وصلنا من وسائل وتقنيات تكنولوجية حديثة لتسهيل أعمالنا وحياتنا.
ومن خلال إعادة بناء هيكلة كل نص في المجموعة لإبراز مكوناته الأساسية وترتيبها، وتدقيق مدى الانسجام بين هيكلة النص، والظروف الاجتماعية والثقافية والتاريخية، التي ساهمت في إفرازه، نستنتج الكثير من المسلمات الدلالية، ومن بينها ما أشار بشكل لا يقبل الجدال، إلى الانحياز العاطفي والفكري -الضمني- للسارد، نحو ذلك الماضي بكل صعوباته ومساوئه وعذابات ناسه.
وهذا ما دلّ عليه أيضا استعمال السارد لقاموس لغوي في معظم قصص المجموعة، ينتمي إلى القرية العمانية أكثر من انتمائه إلى المدينة، وهو ما دلّ بنيويا على الانحياز للماضي، وتفضيل القرية على المدينة.
عناوين القصص التي وردت كعتبات نصيّة دلّت على هذا الاتجاه، ابتداء من اسم المجموعة “مرعى النجوم” الذي هو مكان يقع بين الجبال، يسير إليه أخو السارد مع غنمه لعدّة أيام، ليصل ذلك المكان النائي.
وفي ذلك المكان الرعوي يستطيع السارد وأخوه الراعي، وزوجته التمكن من رؤية بانورامية لنجوم السماء، ورعاية القطيع، الذي يقتات من أعشاب هذه المنطقة الجبلية الوعرة.
والقصة تحكي عن الطبيعة والناس، والحياة التقليدية بالرغم من دخول التكنولوجيا الحديثة، لتضيف لمسة حانية على حياتهم، وتقلل مخاطر ما يواجهونه في حياتهم البدوية، ولكن هذه اللمسة الحانية تصير وبالا حين لا يجد السارد الكهرباء لشحن بطارية هاتفه الجوال كي يتصل بأخيه، وهو في متاهات الجبال والأودية.
لقد تفنن القاص الرحبي في وصف الطبيعة العمانية الغناء في الكثير من قصص المجموعة، من بينها: ممر العربات، حكاية الوالي وصائد الحمام، زوايا القمر على كمزار، وغيرها. ولقد وفق في هذا الوصف الدقيق، الذي أستخدمه كقاموس لغوي دالّ يصل بالقارئ والناقد إلى قناعات السارد، التي تؤكد على جمال الحياة البدوية، وانحيازه إليها وإلى ناسها، بالرغم من أحساس عميق بالتناقض تجده مبثوثا في علاقات الشخصيات القصصية ضمن هذه القناعات، وفي الواقع الحياتي الذي يعيشه كواحد من أهل المدينة.
في قصة “مسمار القيلولة” يسرد القاص من خلال لغة مقتصدة، وخيال واسع، ما يعيشه بطله سالم من ظروف بالغة الصعوبة من خلال عمله في مكان بعيد عن محل سكنه في القرية. فهو يقطع كل يوم أكثر من مئة كيلومتر، في الذهاب والعودة، إلى مكان وسيط يقضي فيه ليله ليعود مجددا إلى عمله في المدينة كراقن في إحدى المطابع.
وزوجته وعائلته يعيشون في قرية أبعد من ذلك المكان الوسيط، ولا يقضي عندهم سوى ساعات معدودة كل شهر بعد أن يقبض راتبه. والرحبي لا يتناول هذه الإشكالية النصية بالرغم من كونها في غاية الأهمية بل يسعى إلى ما يظنه المتسبب في كل هذا العذاب لبطله. فيجد في رجل الأعمال الجديد، الذي اكترى كراجا لبيع السيارات تحت شقة سالم “الإشكالية النصية” التي عليه تناولها في قصته، ليضعنا من خلال تلك الإشكالية أمام حقيقة معاناة سالم في الواقع الجديد.
إذ تمنع سالم ضجة السيارات، وتزميرها المتواصل من نوم قيلولته القصيرة، وهي في العادة تستمر لمدة ساعة بعد ساعتين من عذاب السفر بين مكان عمله، والشقة التي اكتراها كمكان وسيط يرتاح فيه.
ومما أضاف للقصة بعدا تهكميا أن رجل الأعمال ذاك طلب من سالم موافقته على وضع لوحة إعلانية ضخمة تضيء ليلا مقابل نوافذ شقته، وأن يأخذ توصيلة كهرباء من شقة سالم لقاء تسديده فاتورة كهرباء الشقة.
في قصص “ممر العربات” و”يا أبي سأضطر إلى حبسك” و”زوايا القمر على كمزار” نقرأ أصداء الصراع بين القديم والجديد، القرية والمدينة، الآباء والأبناء، الروحي والمادي.
ففي الأولى يلخص لنا القاص من خلال مونولوج شعري، حياة طفل يتيم مات والده بعيدا عنه في دولة البحرين، وتركه في رعاية جده، فكان الجد معلمه الأول، وكان للصبي خيال جامح، فهو دائم الرسم في خياله لعربات، كالتي يراها أبوه في الجنة أو كتلك التي رآها جده في زنجبار. وقد وضع القاص في قصته الكثير من فولكلور سلطنة عمان، من خلال الحياة اليومية لصبي يتيم يحاول أن يجد مكانا له في عالم الكبار، ومن خلال ما بدأ يؤديه من أعمال بإشراف جده، الذي علمه الصلاة، وأهداه جحشا كمكافئة ليعمل عليه ويكسب رزقه.
تسع قصص ضمتها المجموعة الجديدة للقاص محمود الرحبي نقلتنا إلى معالجات نفسية واجتماعية وفكرية لواقع عماني متغيّر. فالقاص الرحبي يحاول من خلال نصه الإبداعي اللحاق بتسجيل سماته الجديدة، ومقارنة ذلك بما عاشه الآباء من ظروف حياتية صعبة.
العرب

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *