السينما العربية «بتتكلم» هندي



د.وليد سيف


حققت الأفلام الهندية نجاحا جماهيريا وتجاريا على مستوي العالم عموما وفي المنطقة العربية خصوصا، ذلك أنها، ومنذ زمن، توصلت إلى تركيبة جذابة ذات طابع شرقي خاص موغل في أجوائه البطولية والخيالية الأسطورية، يتواصل بقوة مع جماهير الشرق التي أدمنت وأبدعت منذ سنوات بعيدة روائع الخيال القصصي مثل «ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة»، وغيرها من الحكايات والأساطير.

ويمكننا القول إننا نعيش حاليا مرحلة الغزو الهندي الثالث لسوق السينما العالمية، ولكن من خلال أفلام تجمع بين «الجماهيرية» و«الأسلوب» الفني والفكري المتقدم في ذات الوقت، فقد اجتاحت السينما الهندية العالم بميلودراماتها الحزينة والغنائية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بمجموعة من أهم الأفلام التي أصبحت خالدة في ذاكرة السينما؛ ومنها (سانجام) و(ماسح الأحذية) و(الصديقان).
ولكن ثمة موجة من الأفلام ذات الطابع الواقعي الإنساني ظهرت مبكرا هناك متحدية الموجة التجارية السائدة، ومن خلال مخرج كبير هو «ساتيا جيت راي» الذي أخرج السينما الهندية من نطاقها المحلي وبعث بها إلى العالمية في المهرجانات الدولية عن طريق أول افلامه (باتر باتشالي) 1956 الذي فاز بالجائزة الكبري في مهرجان فينيسيا، وكان نقطة انطلاق لمدرسة تقوم على تقديم حكايات إنسانية قوية مستغنية عن الإبهار الغنائي والراقص الذي اعتادت عليه هذه السينما من قبل.
وفي العقود التالية واصلت الهند نجاحاتها التجارية بموجة أفلام الحركة ذات البعد الاجتماعي والتي تسيدها نجم النجوم الهندي «أميتاب باتشان» والجيل الذي تلاه.. ثم عادت مع القرن الجديد بأفلام إنسانية الطابع عالمية التوجه تتضمن عددا من الرسائل السياسية والاجتماعية المهمة، منها (اسمي خان) و(نيويورك) و(أنا خائف).
ميلودراما مصرية
على جانب آخر ظلت صفة الفيلم العربي يقصد بها الفيلم المصري، وذلك قبل أن تنتشر السينما في مختلف بلاد الوطن العربي ويقدم بعضها إنتاجا منتظما قد يفوق ما تنتجه السينما المصرية في ظل كبوتها الحالية، وهو ما تحققه بالفعل السينما المغربية بقوة حاليا.
وإذا كانت «الميلودراما» هي الطابع الغالب على السينما الهندية عبر تاريخها، فإنها أيضا سيطرت على الفيلم المصري طويلا، ولم تختلف كثيرا السينما المصرية عن الهندية في لجوئها للرقص والغناء، ولكن المؤكد أن السينما المصرية لم تلجأ في بداياتها إلى حركة المجاميع الضخمة الراقصة ولا التصوير الخارجي في الأماكن الطبيعية إلا قليلا، وهو ما اتجهت إليه في مرحلة الخمسينيات والستينيات ربما تأثرا بالسينما الهندية، أو سعيا لاسترداد أسواقها التي أغرقتها السينما الهندية بأفلامها.
ومن ناحية أخرى، فإن تأثير الفيلم الهندي في تشكيل الوعي السينمائي أمر لا يمكن إغفاله، فالإقبال على الأفلام الهندية شهد حالات من الرواج الكاسح للأسواق، ولا يزال في مخيلة الكثيرين صور الزحام أمام شباك التذاكر في مختلف دور العرض، بل وتخصيص دار عرض شبرا بالاس على وجه الخصوص لعرض الأفلام الهندية تلبية للإقبال الرهيب لمن يعتبرون السينما وسيلة للمتعة والتسلية والإبهار البصري والموضوعات الإنسانية والعاطفية التي تمس القلب.
وعلى الرغم مما حمله الفيلم الهندي القديم من مبالغات أقرب للخرافات حتى ولو في أفلام تدور أحداثها في الواقع المعاصر بشخصيات تبدو واقعية في مظهرها، فإنها أثرت بلا شك في ذائقة الجمهور العربي حتى ولو كان قد اعتاد على سبيل التندر أن يصف أي حدث أو موقف غير واقعي بأنه فيلم هندي، بل إن هناك فيلما مصريا يحمل عنوان (فيلم هندي) إشارة لما يكتنف أحداثه من مصادمات ميلودرامية حادة، ولكن في إطار كوميدي ساخر وهو ما تتقنه السينما المصرية بتميز شديد.
مشاهد هندية
وعلى مستوى الشكل، كثيرا ما لجأت السينما المصرية إلى أجواء شبيهة بالأفلام الهندية، واعتمادا على شخصيات هندية في أحداثها، وهو ما رأيناه مثلا في (عودة أخطر رجل في العالم) والجزء الخاص بسرقة المهراجا الهندي، وهو ما تكرر أيضا في فيلم (شيكامارا) الذي لم يكتفِ بعنوان يحمل اسما هنديا، بل وبصياغة مواقف يقلد فيها الأفلام الهندية وبتقديم استعراض على غرار ما تقدمه، كما اعتمد فيلم (طير إنت) في أحد مشاهده اعتمادا كاملا على السخرية من القوة الأسطورية لأبطال السينما الهندية بطريقة مثيرة للضحك واستغلالا لثقافة الجمهور العربي المولع بالسينما الهندية.
وإذا كان النموذج الأميركي هو الغالب والأكثر تأثيرا على مستوى الاقتباس أو إعادة إنتاج أفلام هوليوود بمعالجات مصرية، وهو أمر يصعب حصره، فإن التأثير الهندي ربما يبدو أكثر وضوحا في المعالجات التي تحيد كثيرا عن المسار الطبيعي للدراما متجهة نحو الميلودراما، وهو ما يبدو واضحا في الإغراق في مشاهد الحزن والغضب والبكاء، مما يترك أثرا على الأداء الانفعالي للممثل الذي يبدو واضحا في الأفلام التراجيدية، بينما تظل الكوميديا هي مجال تميز للسينما المصرية التي عرفت منذ بداياتها الأولى أداء متقدما في هذا المجال لنجيب الريحاني في أول روائعه (سلامة في خير) 1936 ومن أعقبه من فناني الكوميديا الطبيعيين جدا في أدائهم عبر أجيال فؤاد المهندس، ثم عادل إمام، ومن بعده أحمد حلمي، وغيرهم.
في السينما اللبنانية التي نشطت في السبعينيات، كان يمكنك أن تلحظ التأثر الشديد بالميلودرامات الهندية في موضوعات تشهد تقلبا حادا من الحياة المرحة السعيدة اللاهية إلى المآسي الفاجعة؛ ومنها (الأبطال) و(قطط شارع الحمراء)، وكان بإمكانك أن تلمح أيضا في مشاهد العنف لقطات تبدو وكأنها منقولة من السينما الهندية، كما تلوح تأثيرات الإيقاع الهندي السريع، ولكن بصورة أكثر جموحا.
طابع وطقوس
وطبقا للناقد السوري خالد زنكلو «تحظى الأفلام الهندية بدرجة متابعة كبيرة من السوريين، وتشغل الحيز الأوسع من اهتمامهم بالسينما على حساب نظيرتها الأميركية التي تحتل مركز الصدارة عالمياً، ويدمن بعضهم مشاهدة تلك الأفلام ويتوحدون مع أبطالها الذين حلوا ضيوفاً دائمين على بيوتهم يحتلون غرف التلفزيون وترفع صورهم على الجدران».
وينعكس تأثير الفيلم الهندي على بعض الإبداع السينمائي السوري في هذه الروح العاطفية المغرقة في الحزن، والتي أمكن لمخرجين كبار مثل عبد اللطيف عبد الحميد من أن يطوعها لأساليب واقعية نقدية لا تخلو من ملامح فكاهية.
في السينما المغربية، هناك اهتمام بالطقوس والعادات والتقاليد المحلية والحرص على إظهار البيئة المحلية بكل عناصرها، وهي مسألة تبدو بارزة في السينما الهندية التي تظهر فخرها واعتزازها دائما بتراثها وملامحها بل وأزيائها، كما تبدي حرصا شديدا على إرضاء الحس الأخلاقي المجتمعي والقيم الأصيلة، وكلها أمور مشتركة بين البلدين في غالبية الإنتاج.
وعلى جانب آخر، تشهد السنوات الأخيرة أيضا حالة من المد والانتشار للدراما الهندية وأصبح المسلسل الهندي يحقق نجاحا ورواجا، ونظرا لحالة التقارب الشديد التي نعيشها اليوم بين فنون الدراما والسينما بعد تطور تقنيات الفيديو واتجاه فناني السينما للعمل بها، فإنه من المتوقع أن يحدث تأثرا بالدراما الهندية في السنوات المقبلة، كما لاحظنا في السنوات السابقة، من تأثر الدراما المصرية والسورية بالتركية.
وعلى أية حال، فقد أمكن للسينما الهندية، رغما عن أية انتقادات، أن تحقق طابعا متميزا وروحا خاصة ما زالت محتفظة بها مع سعيها الدائم لتطويرها على مستوى الصورة والفكر، وهو ما يجعلها تحتفظ برواجها وانتشارها وتأثيرها الواسع.
الاتحاد

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *