مشاعر مستعملة


*علي عبيدات


خاص ( ثقافات )
كلنا نبحث عن الدهشة، عن شيء جديد يثير عددا من الأشيّاء، سواء كان سلوكا أو قولا أو فعلا أو صفة يلصقها الآخرون على انعكاساتنا، لكننا بلا دهشة، حتى أنّ الرتابة أمست ركناً رئيساً من أركان هذا العيش. كلُّ شيءٍ باهت، الصحبة التي اعتدناها والمواعيد الرتيبة واللقاءات التي لم تعد استثنائيّة وقد كلّلها اللاجديد بكامل كلاسيكيّته، كيف نصنع.

لي صديقٌ امتشقَ الدهشّة غير مرّة، وآوى إلى سبيلٍ لم يسلكه أحد، وقد جعل يرتبُ الدهشّة المنشودة وينسقُ لها ما يليق بصدمّته المُحبّبَة، كتبَ رسائل كثيرةً على مدار شهر، وأرسلها إلى عناوين عشوائية، وانتظر الرد، مرّ اليوم إزاء اليوم، ومضى الشهر الأول وتمطّى الثاني وتمغط انتظار الثالث حتى وصل ردّ من أحدهم فيه مطالبةٌ ماليّة باسمه، وقد ظنَّ الآخر أنّ صديقي أحد المُستدينين من أبيه الذي مات منتكساً بعد وعكَة ماليّة، فلم يندهش صديقي وخرّت حيلتهُ كأن شيئاً لم يكن، فالمطالبات الماليّة جزء من تكوين المواعيد والتعارف. فلا جديد.

كيف سيحلّبُ المرءُ دهشته؟ أنى لنا أن نأتي بصدمة؟ فالحبُ مثلاً، لم يعد صادماً ففي زمن الرسائل الورقيّة والوقوف على أطلال النوافذ والأحياء بحثاً عن وجه جميل أحبّه المرء، لم يعد ممكناً، ماتَ الحب من النظرة الأولى فما من أحد يمشي وبصره أمامه، ليصاب بسمه لحاظ إحداهن، أو لينزل على غرار فعلٍ عشقيٍ صادم، كل شيء باهت، إن انتظرنا من الآخر صدمَة، فهل من حبٍ صادمٍ أو صفة ملقاة على قارعة ما نوّد لو التصقت بنا لنتجاوز السائد ويمس المرءُ موصوفاً بشيء خارج على ما ألفناه؟

مشاعرٌ مستعملةٌ وقلوبٌ صدئةٌ وحواس ابتلاها الروتين بعمى المشاعر، لا شيء جديد من آخر سئمنا سلوكه ونهولُّ بما ورثنّا منه من خيبّات، وليس أمامنا إلا حُبّ البعيد المغلف بوهم لذيذ، وانتشَال اليقين من نفوسنا المجهدة والسمو بها صوب مشاعر علويّة ولذة بنكهَة المعارج والغُلة الروحيّة التي نبحث عن شفائها وارتواء صبرها القاحل، ولو كلفنا الأمر إيماناً جديداً بوهم قديم، إنه التصوف.

صافى الله فصافاه، وصوفٌ وتقشفٌ وصفوَّة وصوفةٌ مطروحةٌ في حضرّة المعشوق الكبير، وبعضُهم ذهب إلى الاصطفاف والصفِ والصفَة، لكنه واحدٌ منذ الثالث لهجرة العظيم ومروراً بأهل الخلوّة والحدس والنقاء والفناء والسُكْر برسم الصحو وامتثال اللامتماثل ومخاطبّة الهباء باعتباره أصلٌ في التكوين.

في حالتهِ وبمعيّة الانشدّاه منه والمرور به ومعرفته من كثّبٍ وعن بعُدٍ واستدراك قولة ابنائه وتكوير عبير أفواههم، لن تكون وحدك ما دمت فيك، وستصدم بشكل دائم، فيك ما منه وفيه ما منك وبينكما أنكما وحيدان في شرف التأمل والإصاخة، وفيه ما فيه، إلا الرتابة وله ما له إلا أن يكون مشاعر مستعملة.

بين هلالين وأسفل ظل التي لا تزول أنتما صنوَّان، قفرٌ يتورق وأسئلةٌ خالدةٌ إجابتها في عدم السؤال عنها، لذيذٌ كحوارٍ بين الأصل والفرع، كامل ككينونة المفكك في صميميّة بناء كامل، أنتَ تسأل ولا أحد يجيب، أنتَ تتأمل وكل شيء يشاطّك الإصاخة، أنت تمتلئ حد الفراغ وهو خابيّةٌ عطشى في ظل تينَة الحيرة ويلُفها كشكولٌ قديم كان لدرويش جاب الأرض شرقاً وغرباً وهو يرددُ:” مددٌ مددٌ … حيٌ حيْ ..”.

ستجدُ على الباب حلول واتحاد وكشف ومنامات ورؤى ومعارج وهواتف ووحدة وجود وفناء وبقاء وتوحيد وجحافل إبهام و وجوم، حتى ترى أذنَّ الروح في مأزق بعد أن جدع الفناء أنفها، كلُّ شيءٍ يكتَمل وتتغيّر الأسماء وتندهشُ العبارات ويمس المُسمى آخر ما يتعلق بالمضمون، هو الملاذ وزوادة التائه، وكل جديد فيه مستجد .. اندلق فقط .. وتعال …
____________
*شاعر ومترجم من الأردن.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *