فوزي كريم
في حديث لجريدة الحياة (1986) يقول الشاعر أدونيس: «المتنبي يفرز نفسه ويعرضها عالماً فسيحاً من اليقين والثقة والتعالي في وجه الآخرين وضدهم»، ثم يضيف: «إن شعرَه كتابٌ في عظمة الشخص الإنسانية، يسيّرُه جدلُ اللانهاية والمحدودية».
ونثرُ أدونيس النقدي يميلُ إلى تجريد معانيه، تأثراً بالنثر الفرنسي، ولكنه يتضح في الإشارة إلى «اليقين» و«الثقة» و«التعالي» التي يتمتع بها شعر المتنبي وشخصه، وهي عناصر، فيما أعتقد، كفيلة بإنتاج كائن رديء، وبالتالي شعر رديء. تاريخ الشعر الانساني، والعربي ضمناً، عادة ما يكشف عن حقيقة أن «الشك» و«الحيرة» و«التواضع» هي عناصر للشعر مثلى، وهي مصدر قوته ودوامه.
في حديث آخر لجريدة الحياة (2007) يقول أدونيس عن علاقة الشعر بالأخلاق: «… هل يصح تقويم الشعر بوصفه عملاً؟ الشعرُ لغةٌ لذلك ينبغي تقويمه جمالياً ـ فنيّاً، بحصر المعنى. وليس عملاً لكي نقومه أخلاقياً، سلباً أو إيجاباً. الإصرار على تقويم الشعر أخلاقياً فيه نوع من محاكمة صاحبه، إنما هو إصرار على الاستمرار في متابعة تقليد تُنكره، جذرياً، جمالياتُ الإبداع الفني ـ وبخاصة في عالم اليوم».
هنا يبدو أدونيس أقل تجريداً ولكن أكثر التباساً، وتسطيحاً لمادة تبدو أحياناً معضلةً في نقد الشعر. ويبدو لي أن أدونيس يسعى لأن يتعامل مع الشعر كما يتعاملُ مع قطعة موسيقية عمادُها العلاقةُ بين الخيوطِ اللحنية في التماثلِ والتعارض، أو لوحةٍ تشكيليةٍ عمادها العلاقة بين الألوان والكتل والخطوط، بغضِّ النظرِ عن الفارقِ الجوهري بين اللغةِ وبين النغم، أو بين اللغةِ واللون. وهذا التعلّق بعناصر الجمال في اللغة، بغض النظر عما تخفيه من دلالة، يذكرني برسالة الصاحب بن عباد التي جاء فيها: «أيها القاضي بقم قد عزلناك فقم»، إلى قاضيه في بغداد الذي قال: «والله ما عزلتني إلا القافية».
الشعرُ لدى أدونيس لغةٌ، كما هو لديّ، ولدى كل من يعرف الشعر. ولأنه لغةٌ فهو بالتالي ذو معنى، ولكنه معنى شعري، لا معنى نثري يلتزم العقل والمنطق. وبذلك يكون أداةَ معرفة ووعي. وهنا يتسرّب الهاجسُ الأخلاقي. لأن الانسانَ يتطلّعُ، حين يقرأ الشعر، لبصيرةٍ للوعي نافذة، فيكفل بالتالي عالماً أجمل، لا خلاف على هذا، ولكن يكفل عالماً أفضل بالدرجة الأولى.
ولكن كيف، حين يكون الشعر لغةً، «يجب أن يقوّم جمالياً ـ فنياً، بحصر المعنى؟». وهل انتخب أدونيس ما انتخب في «ديوان الشعر العربي» تحت هذا المعيار الجمالي الفني؟ إنني لم أجده انتخب كثيراً من مقاطع الفخر والمدح والهجاء، مع أنها تحتل النسبةَ الكبرى من الشعر العربي. السبب أن فسادَ الهاجس الأخلاقي في هذه الأغراض يُفسد على الشاعر إنجازَ قصيدة مدح، أو قصيدة هجاء «جميلة».
حين يقول المتنبي:
ما يقبض الموتُ نفساً من نفوسهم
إلا وفي يده من نتنها عودُ
وهو يقصد نفس الانسان الأسود، فكيف أقوّمه جمالياً، فنياً؟ هل أتأمل، على طريقة التفكيكيين العرب، علاقة القاف بالباء بالضاد في الفعل «قبَض»؟
هناك دائماً خلطٌ بين المعايير الأخلاقية التي يفرضها الدين، التقاليد، المعتقدات أو الإيديولوجيات الفكرية، وبين معايير البصيرة الشعرية، التي تعتمدُ الخبرةَ الداخليةَ الصادقةَ لدى الشاعر، الساعيةَ إلى وعيٍ أفضل، وخلقِ إنسانٍ أفضل، وحياةٍ أفضل. الشاعرُ قد يكون ميالاً إلى رسمِ مشهد حرب، أو مشهد احتراق، أو مشهد صرحٍ خرِب، أكثر من ميله إلى ماء غدير، أو بناء عامر. ولكن هذا الميلَ لا ينطوي على دعوةٍ للحرب او للتخريب. إنما هو مادة داخلية لتأليب المخيلة والمشاعر، التي تثير الروعَ والأسى. إن «جحيم» دانتي يظل أكثر أسراً وتأثيراً من «مطهره» و «فردوسه». ورصد المعركة لدى المتنبي، بدمائها وأشلائها، رائع حتى يملؤك بالروع. ولكن عاطفةً كاذبةً واحدةً كفيلةٌ بأن تجعلَ المشهدَ قبيحاً، كقوله يصف سيف الدولة:
تمر بك الأبطالُ كلمى هزيمةً
ووجهُك وضاحٌ وثغرك باسمُ
الجريدة الكويتية