من أدب الرحلات/ أيوا.. البحث عن إيقاع ما (6)


* محمود شقير


خاص ( ثقافات )
شيكاغو مرة أخرى
1
رحت أفكر بالسفر إلى شيكاغو من جديد، لأن هدوء أيوا يضجرني في بعض الأحيان، صحيح أنني جئت إلى هنا أنشد الهدوء، إنما ليس إلى هذا الحد.
ذهبت إلى جافا هاوس للقاء طالبة جامعية اقترحت عليّ أن تجري معي حواراً.
إنها فتاة نحيفة، إنما بأناقة وانسجام، لها نظرات تنم عن شخصية قوية. سألتها عن دراستها، قالت إنها تدرس الصحافة وهي في السنة الثالثة، والحوار الذي ستجريه معي له علاقة بما تدرسه في الجامعة. وجّهت إليّ مجموعة من الأسئلة المحبوكة بعناية لافتة للانتباه: كيف وجدت الناس هنا؟ ما هي فكرتك السابقة عن أمريكا؟ هل مجيئك إلى هنا سيترك أثراً على كتاباتك اللاحقة؟ ما الذي تريد أن تقوله في قصصك؟ هل تحب أن تترجم قصصك إلى اللغة الانجليزية تمهيداً لنشرها في أمريكا؟ هل تحب أن تلتقي الناس هنا؟ ماذا عن علاقاتك مع زملائك الكتاب الضيوف؟ ما هي فلسفتك في الحياة؟ ماذا تحمل من أفكار؟ أجبتها عن أسئلتها وأنا أخمن (بعد أن استيقظت شكوكي) أن هذا الحوار ليس بريئاً. مع ذلك، من يدري! 
فيما بعد، رأيت الفتاة نفسها تعمل في حانوت صغير لبيع العطور والمساحيق في ساعات فراغها. لاحظت أن وقع شخصيتها ظل هو نفسه بالنسبة لي، حتى وأنا أراها في وضع لم أتوقعه من قبل، قالت إنها تعمل مثل الكثيرات من الطالبات والكثيرين من الطلبة، لتدبير مبالغ من المال تعينها على استكمال دراستها الجامعية. بعد ذلك، أعدت النظر في شكوكي تجاه الفتاة واستبعدتها إلى حد ما.
غادرت الحانوت، واتجهت إلى مكتبة بريري لايتس، اشتريت كتاباً عن شيكاغو يساعدني على فك مغاليق المدينة، صعدت إلى المقهى وجلست أتصفح الكتاب، وأتابع ما فيه من معلومات عن متاحف المدينة ومواقعها السياحية المختلفة. خرجت إلى الشوارع نصف ساعة أو أكثر قليلاً، مارست رياضة المشي التي أعشقها. كنت أثناء ذلك أتأمل واجهات المتاجر ووجوه الناس وأشكال النساء.
عدت إلى مقهى جافا هاوس. ثمة موعد مع إليزابيث، الطالبة في الدراسات العليا. وجدتها تنتظرني هناك، دفعتُ قهوتها وكأساً من الشاي لي. اطلعت على ترجماتها لقصصي (شابة أمريكية من أصل يهودي، أهلها يقيمون في بوسطن، تقيم هنا في أيوا وتعد للماجستير. تعلمت العبرية والعربية. أخبرتني أنها زارت إسرائيل وأقامت فيها ستة أشهر، قالت إنها زارت القدس أيضاً. ليس لها اهتمام بالسياسة، لكنها ترغب في إحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. سألتقيها فيما بعد في فلسطين، ستواصل العمل على ترجمة قصصي، وستبذل جهداً كبيراً في ذلك، ستدفع عدداً منها إلى بعض الصحف والمجلات الأمريكية وستنشر هذه القصص فيها) صححت بعض الجمل والمفردات في القصص التي قامت بترجمتها. لم نتبادل بعد ذلك سوى القليل من الكلام.
غادرنا المقهى، قالت إنها ستعود إلى بيتها في المدينة، ودعتها، وذهبتُ إلى مكتبة البلدية. شاهدت فيلم “الصمت” لإنغمار بيرغمان، الذي يتحدث عن صديقتين ترتبطان بعلاقة حميمة ثم تنفصلان بقسوة. الأجواء التي يجسدها هذا المخرج تعجبني، فهي تتسم بالعمق والبساطة وإثارة الفضول، والحوار في أفلامه عميق الدلالات.
2
عدت إلى السكن الجامعي. وجدت بعض الزملاء يستعدون للذهاب إلى حفل الاستقبال، الذي تقيمه منظمة محلية مهتمة بالزوار الأجانب، الذين يفدون إلى مدينة أيوا. ذهبنا إلى المتنزه القريب سيراً على الأقدام. كان عدد قليل من الناس قد وصلوا إلى المكان. (لاحظت أن الدقة في المواعيد غير متوفرة هنا في أيوا، كما هو الحال عندنا تقريباً)
جاء المضيفون ومعهم أطعمتهم التي أعدوها في بيوتهم. جرى تعارف سريع بيننا، ثم انهمكنا في حوارات بعضها جدي وبعضها الآخر مجرد ثرثرات. لاحظت أن أغلب المضيفين من المسنين المتقاعدين، والنساء مسنات كذلك، بدا واضحاً أنهن ودعن منذ زمن، أيام الرشاقة والجمال، غير أن روح التواصل الإنساني النبيل توفرت إلى حد كبير ، ولم يكن هذا بالشيء القليل.
بعد ساعات من السمر وتناول الأطعمة، غادرنا المكان وعدنا إلى السكن الجامعي. تفرجت على حفل راقص في التلفاز، قدمته فرقة من الملونين والسود في قاعة البيت الأبيض، بحضور هيلاري وبيل كلينتون. (سأرثي له وهو جالس في غاية الحرج، أمام قضاة يحققون معه بخصوص تورطه في علاقة غرامية مع مونيكا لوينسكي، سأشعر بالغثيان من إصرار محطات التلفزة الأمريكية على تخصيص وقت أكثر مما ينبغي، لمتابعة تفاصيل هذا الموضوع الذي لا يستحق كل هذا الاهتمام) رقص إيقاعي يعتمد على حركات الأقدام، غير أنني غفوت أثناء ذلك، ولم أستيقظ إلا في نهاية الحفل. شعرت بالأسف. 
دقت كانغ على باب غرفتي في حوالي الحادية عشرة والنصف. (كنت أعرتها في المساء الكتاب الخاص بمدينة شيكاغو، وطلبت منها أن تعيده لي قبل الثانية عشرة ليلاً، لأنها ستسافر في السادسة من صباح الغد إلى شيكاغو، ولن أراها في الصباح) جلستْ معي نصف ساعة، قدمت لها كأساً من الميرمية، تحدثنا عن الكتابة، وعن الديانة البوذية. تمنيت لها سفراً مريحاً، كانت هادئة مبتسمة واثقة من نفسها كعادتها، قالت إنها ستقيم ثلاث ليالٍ في معبد بوذي في شيكاغو، لتقليل نفقات الرحلة.
ربطتُ جرس المنبه على التاسعة صباحاً لكنني صحوت قبل ذلك.
حلقت ذقني واغتسلت. في العاشرة انطلقت بنا سيارة الفورد إلى المدينة، توقفت السيارة أمام سوبرماركت إيغل، لكي نشتري أطعمة وفواكه وخضروات. شعرت بالحزن يغمرني، وهي حالة تنتابني كلما ذهبت للتسوق صباح الجمعة. يبدو أن إحساساً بالوحدة يتسلل إلى صدري وأنا أشتري لنفسي طعاماً، أو يبدو أن ذكريات البقاء مع الأهل يوم الجمعة، تستيقظ في داخلي، أو أن ذكريات السجن الإسرائيلي، تعاودني من دون أن أدري (أقصد ذلك الشعور بالأسى الذي يخلفه وداع الأهل بعد انتهاء زيارتهم لنا في السجن، والعودة إلى الغرف ونحن نحمل ما أحضروه لنا من فواكه وخضروات).
غير أن هذا الحزن الطارئ لا يدوم طويلاً، إذ لدي القدرة على التعاطي معه بوسائل متنوعة، كأن أمشي مسافة طويلة وأنا منشغل بمراقبة كل شيء من حولي، أو أنهمك في القراءة أو أقوم بمهاتفة الأهل وبعض الأصدقاء. كان هذا هو حالي حينما ذهبتُ إلى ورشة الترجمة، ورأيتُ إليزابيث التي وصلت بعد وصولي بلحظات. جلستْ إلى جواري، وهي ترتدي بنطالاً قصيراً مثل بقية زميلاتها، تخففتُ من حزني مع مرور الوقت واندمجت في جو الورشة. ولاحظت مع الأيام أن إليزابيث فتاة خجول، لا تتكلم أثناء الحصة، لا تضحك بانطلاق، إنما تكتفي بابتسامة خافتة. زميلاتها الأخريات يتكلمن ويضحكن بصخب، ويقدمن مداخلات عديدة حول مواد الترجمة. هي على العكس منهن، متحفظة، منطوية على نفسها بعض الشيء. أخبرتني أنها ستترجم قصتين أخريين من قصصي. 
غادرتُ ورشة الترجمة وذهبت إلى مكتبة بريري لايتس، قطعت الطريق في خمس عشرة دقيقة. وجدت هناك الفتاة النحيفة هيثر، الكورية الأصل التي تعمل في المكتبة. قلت لها: هاي. ردت على تحيتي بمثلها. (في يوم سابق، سألتها عن اسمها، وسألتها ما إذا كانت تدرس في الجامعة وتعمل في الوقت نفسه، قالت إنها لا تدرس في الجامعة. سألتني: كيف اعتقدت أنني أدرس في الجامعة؟ قلت لها: رأيتك في جافا هاوس تقلبين أوراقاً وكتباً. قالت: أدرس وحدي من دون أن أنتظم في الجامعة. ثم أخبرتني أن أسرة أمريكية تبنتها وهي طفلة صغيرة، لذلك عاشت حياتها كلها في أمريكا، وقالت إنها تسكن في مدينة أيوا مع فتاة أخرى تشترك معها في دفع أجرة البيت. كنت أشفق عليها لشدة نحافتها)
شربت كأساً من الشاي في المقهى التابع للمكتبة، قرأت بعض الأخبار والمقالات في صحيفة نيويورك تايمز، (المستوطنون الإسرائيليون يقتلون شاباً فلسطينياً بالقرب من بيتونيا، فيما كان هو وزملاؤه الطلاب عائدين من المدرسة إلى بيوتهم) أصبح القتل عادة يومية في بلادي. قرأت بعض القصائد في مجلة أدبية. لاحظت أن قصائد الشعراء الأمريكيين تميل إلى البساطة والتقاط التفاصيل اليومية الصغيرة، مع بعض الإشارات الثقافية. قررت أن أقرأ أكبر قدر ممكن من الشعر الأمريكي خلال الأسابيع القادمة.
3
حلت الذكرى المؤلمة. 
تذكرت ذلك وأنا جالس في الساحة المحاذية لمبنى مكتبة الجامعة. كنت أتابع المشهد أمامي: طالبات وطلبة يجلسون فوق سور الساحة غير المرتفع، لا يعنيهم شيء مما يقع خارج اهتماماتهم الشخصية. أشجار باسقة وحدائق خضراء وهدوء يشمل المكان كله، على نحو لا يوحي بأن ثمة مكاناً لتذكر الوقائع المحزنة. باختصار: ليس ثمة أحد في موقعي هذا يشاركني الذكرى. نهضت محاولاً تناسي الأمر، دخلت إلى المكتبة، شاهدت فيلمين لإنغمار بيرغمان: الختم السابع، وكرز بري. الفيلم الأول مكرس للحديث عن الموت والقيامة بأسلوب تعبيري. الفيلم الثاني موغل في تصوير الأسى الذي يملأ قلوب الناس. خرجت للجلوس في الساحة من جديد، رحت أتأمل الأشجار الخضراء والأرض المليئة بالحشائش اليانعة والبيوت والمباني المنتشرة هنا وهناك، رحت أستعرض شريط حياتي، بعد لحظات تذكرت المذبحة في ذكراها السادسة عشرة مرة أخرى، تذكرت صبرا وشاتيلا فانقبض صدري.
نهضت واتجهت إلى مكتبة المدينة. 
في الطريق، شاهدت ملابس معروضة في واجهة أحد المحال التجارية، عليها أسعار مخفضة. اشتريت قميصاً وسويتراً بمبلغ زهيد، شعرت بشيء من العزاء لأنني بمثل هذه التفاصيل الصغيرة أقيم علاقة من نوع ما مع المدينة. واصلت طريقي إلى المكتبة، هناك شاهدت فيلم “امرأتان” للمخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا، من بطولة صوفيا لورين، يحكي قصة امرأة وابنتها، تغادران روما أثناء الحرب العالمية الثانية، تعودان إلى قريتهما، ثم تتعرضان للاغتصاب على أيدي الجنود في كنيسة خربة.
حدّثت كانغ وأرينديز عن شغفي بالأفلام، فانتقلت العدوى إليهما وأصبح لدى كل منهما برنامج شبه منتظم لمشاهدة الأفلام التي تتوفر في مكتبة الجامعة. قالت كانغ ذات مساء إنها تدعوني أنا وأرينديز لتناول طعام العشاء، قبلنا الدعوة. كنا نجلس في المقهى التابع لمكتبة بريري لايتس. ثرثرنا كثيراً وضحكنا، تأملنا الشارع من نافذة المقهى وكنا مسرورين. غادرت كانغ المقهى عائدة إلى السكن الجامعي لكي تعد لنا الطعام. ذهبت أنا وأرينديز إلى مكتبة متخصصة في بيع الكتب المستعملة بأسعار رخيصة، وذلك لحضور ندوة تعقد فيها، بمناسبة مرور مئة عام على ولادة الكاتب الأمريكي سكوت فيتزجرالد. (تذكرت أرنست هينمجواي، الذي اشتهر في الفترة نفسها وكان فيتزجرالد واحداً من أصدقائه) كان عدد الحضور قليلاً، (ذكرني بالحضور القليل للكثير من الندوات في بلادي) ومن بينهم امرأة شابة ترتدي تنورة قصيرة فضفاضة، تنحسر عن فخذين متفلتين طائشين. قام بعض الحضور بقراءة قصص للكاتب وبعض رسائله إلى ابنته. 
غادرنا المكتبة عائدين إلى السكن الجامعي. وجدنا كانغ تنتظرنا هي وآيتي بقلق، خصوصاً أننا تأخرنا بسبب انتظارنا إلى حين انتهاء القراءات التي استمرت ساعتين.
قدمت لنا كانغ طعاماً كورياً طيباً: أرزاً مع بعض قطع من اللحم المفروم وبعض البذور، شرائح شهية من التونا والخضار. أحضرت معي تفاحاً وبيبسي كولا، أحضرتْ أرينديز علبة صغيرة من الشوكولاتة. آيتي، شريكة كانغ في السكن، قدّمت بعض الأطعمة. تناولنا طعام العشاء في العاشرة مساء، وبقينا نتسامر حتى الثانية عشرة والنصف، تحدثنا عن الديانات المختلفة، عن التعصب والتزمت والقيود، حدثتنا كانغ عن البوذية التي تعتبر الإنسان مسؤولاً عن أفعاله. حينما يموت، فإنه يعود إلى الحياة عبر التناسخ، فإذا كانت أفعاله جيدة عاد إلى الحياة متقمصاً شخصية إنسان، وإذا كانت أفعاله سيئة عاد إلى الحياة متقمصاً شخصية حيوان. 
أنا وأرينديز تحدثنا عن الإسلام، تحدثنا عن عدل عمر بن الخطاب وعن ابن سينا وابن رشد. ثمة ذاكرة مشتركة بيني وبين أرينديز. بدا هذا الأمر ممتعاً إلى حد ما. آيتي حدثتنا عن المسيح، وعن الجالية العربية في بلادها، قالت إن بعض العرب هناك يسيئون إلى سمعة العرب.
4
ذهبت إلى شيكاغو في حافلة مكتظة بالمسافرين.
حجز لي داود غرفة في سويس أوتيل مدة ليلتين، ثم دعاني لتناول طعام العشاء في مطعم نابلس، الواقع في حي بالمدينة لا يشهد اكتظاظاً. أكلنا وجبة فلسطينية: شقفاً وحمصاً وفولاً وسَلَطة. كل شيء في المطعم يوحي بالألفة. شعرت ببهجة وأنا أتبادل الأحاديث مع عدد من المغتربين من أبناء شعبي. غادرنا المطعم وذهبنا للتمشي على شواطئ بحيرة ميتشيغان. 
داود شاب طموح وهو ذكي قليل الكلام. اقترحت عليه، بسبب معرفتي بكثرة أشغاله، أن أتجول في المدينة وحدي في اليوم التالي، خصوصاً أن لديّ كتاباً يدلني على تفاصيل المدينة، لم يُبد اعتراضاً على ذلك. خرجت من الفندق، اتجهت إلى شارع ميتشيغان حيث يقع متحف الفنون. دخلته في الساعة الواحدة والنصف ظهراً، وغادرته في الخامسة. (أي في لحظة إغلاق المتحف لأبوابه) شاهدت لوحات مغرقة في الحداثة، لم تعجبني كثيراً. توقفت ملياً عند تماثيل لبوذا، وغيرها من التحف والرسوم الكورية واليابانية والصينية، مشتقة من حضارات عريقة لا أعرف عنها الشيء الكثير. (سأحدث كانغ عن ذلك حينما أعود إلى أيوا) ثمة لوحات لم أرها من قبل لبيكاسو (من المرحلة التكعيبية بالذات) ولسلفادور دالي. تماثيل لرودان، ولوحات لكلود مونيه (قرأت ما مفاده أنه لم يكن معجباً بأعماله الفنية أبداً) وسيزان وفان كوخ وغوغان ورينوار. لم أتمكن من رؤية كل ما في المعرض من أعمال فنية، لضيق الوقت.
جلست مثلما فعل الكثيرون على درج بناية المتحف. أكلت قليلاً من الخبز والجبن الذي كنت أحمله معي. تجلس امرأة على مسافة قريبة مني، امرأة وحيدة تجلس وتدخن سيجارة، وتبدو حزينة، (أو هذا ما اعتقدته) ثم لا تلبث أن تنهض وتغادر المكان بعد أن تنهي سيجارتها، أتابعها بنظراتي وهي تبتعد، أتعاطف معها من دون أن تدري، ثم أنهمك في مراقبة فرقة للعزف على مسافة ما مني، ثمة رجال ونساء يرقصون في الشارع على أنغام الفرقة. الطقس لطيف وثمة غيوم في السماء. 
أنهض وأمشي في شارع ميتشيغان. أشعر براحة نفسية وأنا أسير، وعلى مسافة غير بعيدة تتطاول في سماء المدينة ناطحات السحاب. أتذكر أن لشيكاغو اسماً مرعباً موروثًا من زمن الأفلام التي تتحدث عن عصابات المافيا. أتوقف بالقرب من الحاسب الآلي لأحد البنوك كي أسحب مبلغاً من المال، أبدو حذراً متخوفاً من احتمالات التعرض للنهب. أشاهد في الشارع نفسه، ستة أولاد من الملونين، أحضروا معهم عصياً قصيرة وجرادل من البلاستيك، (كانت مليئة ذات يوم بمواد الدهان أو ما شابه ذلك) ما لبثوا أن شرعوا في الضرب عليها بإيقاعات متقنة. أتبرع لهم بدولارين، ثم أنطلق ماشياً في شوارع المدينة ومعي كتابي الذي يدلني على الأمكنة. لشيكاغو رونقها الخاص وغموضها الذي لا يستهان به. أتعب من المشي وأعود إلى الفندق الذي يتكون من ثلاثة وأربعين طابقاً. ينحشر زبائنه في غرفهم من دون تواصل أو اتصال فيما بينهم إلا ما ندر، لأن تلك هي مواصفات الحياة الحديثة في المدن الكبيرة. أقيم في الطابق السابع عشر، و بحيرة ميتشيغان ونهر شيكاغو أمامي.
أمضي ليلة أخرى في الفندق، يأتي داود صباح اليوم التالي، يأخذني في سيارته إلى محطة الحافلات المركزية، محطة كثيرة الضجيج قاسية الملامح. نمكث هناك بعض الوقت، أشكره على حسن الضيافة، أودعه، وأصعد إلى الحافلة المتجهة إلى مدينة أيوا، حيث الهدوء والدعة.
________
*روائي وقاص من فلسطين

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *