الغرفة السرية


* آلان روب-غرييه/ترجمة: حسن سرحان


أول ما يمكن رؤيته بقعةٌ حمراء، لونها الأحمر غامق، لامع غير أنه داكن وذو ظلال سوداء تقريباً. للبقعة شكل وردة غير منتظمة، ذات ملامح واضحة. انها تمتد بأكثر من اتجاه بتدفقات كبيرة وأطوال غير متماثلة تتفرق وتتضاءل فيما بعد الى أن تغدو محض خطوط دقيقة شبكية ومتعرجة. يبرز الكل على سطح شاحب، أملس، مدور الشكل، باهت ولؤلؤي في نفس الوقت، نصف كرة موصولة بانحناءات لطيفة الى فضاء من نفس اللون الشاحب ذي بياض يضفي عليه ظلُ المكان بعضاً من الظلمة. قد يكون هذا المكان: زنزانة، صالة منخفضة، او كاتدرائية تتوهج بتألق كبير في شبه العتمة هذه.
الى الوراء بعيداً، تحتل الفضاءَ صفوفٌ من البراميل الاسطوانية التي تتضاعف وتتلاشى تدريجياً نحو الداخل حيث تبدو بوضوح بدايةُ سلم عريض من الحجر يرتفع ويستدير قليلاً فيصبح أضيق فأضيق كلما ارتفع نحو القباب العالية حيث يختفي ويتلاشى.
هذا المشهد كله فارغ بسلالمه وأروقته. وحيداً، في المقدمة، يلتمع على نحو ضعيف، الجسدُ الممدد حيث تنتشر بقعةُ الدم الحمراء- جسد أبيض يبدو ممتلياً وطرياً، انه هش دون شك، وقابل لأن يُجرح بسهولة. الى جانب نصف الكرة المخضبة بالدم، هناك شيء مستدير مماثل، غير أنه سليم لم يمس، يبدو للعين تحت زاوية بالكاد مختلفة، لكن الهالة الملونة التي تكلله ذات لون أكثر عتمة، وهي هنا قابلة للتمييز تماما، عكس الاولى المدمرة كليا تقريبا أو على الاقل المخفية تحت الجرح الذي يغطيها.
في الخلف، عند مقدمة السلم، يبتعد خيالُ شبحٍ اسودَ لرجلٍ يلتفع معطفاً طويلاً فضفاضاً، يرتقي الدرجات الأخيرة للسلم دون ان يستدير، فقد انجز عمله. يتصاعد دخانٌ خفيف باشكال حلزونية يصدر عن مبخرة موضوعة على قائمة عالية مصنوعة من حديد ذي لمعان فضي. قريباً جداً من تلك المبخرة، يستريح الجسد الحليبي حيث تسيل من الثدي الايسر شبكاتٌ واسعة من الدم الذي يمتد على طول الخاصرة ويصل الى الورك.
انه جسد امرأة ممتلئة من دون سمنة مفرطة. الجسد عار تماما، مستلقٍ على الظهر، الجزء العلوي منه مرفوع قليلاً بواسطة وسادات سميكة مرمية على الارض التي تغطيها سجاداتٌ عليها رسوم شرقية. الخصر رشيق جداً، العنق رفيع، طويل ومائل الى الجانب، الرأس ملقىً الى الخلف في منطقة أكثر عتمة حيث تبين، رغم ذلك، ملامحُ الوجه: الفم نصف المفتوح، العينان الكبيرتان المفتوحتان، يلتمع فيهما القٌ ثابت، كتلة الشعر الطويل الاسود، المنتشر امواجاً بغير انتظام على قماش ذي طيات مرتبكة قد يكون مصنوعاً من المخمل. اضافة الى الرأس، تستقر على القماش ايضاً الذراع والكتف.
المخمل من لون واحد، بنفسجي غامق، او انه يبدو كذلك تحت هذه الاضاءة. لكن البنفسجي، البني، الازرق، تبدو ايضا سائدة في الوان الوسادات والتي لا يخفي القماش المخملي الا جزءا بسيطاً منها. الى الاسفل أيضاً، تحت النصف العلوي للجسد وتحت الخصر، يطغى وجود تلك الألوان وكذلك في الرسوم الشرقية للسجادات التي تغطي الأرضية. ابعد من ذلك، نفس هذه الألوان موجودة كذلك على حجارة البلاطات كما على حجارة الأعمدة، وعلى أقواس الأقبية والسلم والمساحات الغامضة التي تضيع عندها حدود الصالة. من الصعب تحديد أبعاد هذه الأخيرة. للوهلة الاولى، تبدو المرأة الشابة المضحى بها تحتل مكاناً مهماً في تلك الصالة، لكن الابعاد الواسعة للسلم الذي ينحدر الى حيث هي ممدة قد تدل على ان الامر لا يتعلق هنا بالصالة كلها والتي لابد لامتدادها المعتبر ان يتوسع في الواقع الى كل الجوانب، يميناً وشمالاً كما نحو هذه الالوان الزرق والبنية البعيدة حيث تصطف الاعمدة في كل الاتجاهات وربما يمتد نحو ارائك اخرى، وسجادات سميكة، ركام من وسادات واقمشة، والى اجساد اخرى معذبة ومبخرات ثانية.
من الصعب ايضا تحديد الجهة التي يأتي منها الضوء. لا وجود لأي أثر على الاعمدة او على الارضية يشير الى الاتجاه الذي تنبعث منه الاشعة. ليس هناك شباك مرئي، ولا شعلة في مكان آخر. انه الجسد الحليبي نفسه هو الذي يبدو يضيء المشهد، الصدر ذو النهدين النافرين، انحناء الوركين، البطن، الفخذان الممتلئان، الساقان الممدودتان والمفتوحتان على وسعهما والشعر الاسود للعضو التناسلي المكشوف، المثير، المانح نفسه والذي لم يعد صالحاً لشيء.
سبق للرجل أن ابتعد عدة خطوات. هو الان على الدرجات الاولى للسلم الذي يتهيأ لصعوده. درْجات السلم السفلى طويلة وعريضة مثل تلك التي تقود الى بناء ما، معبد او مسرح، تصغر تدريجياً بعد ذلك كلما ارتفعت و يصدر عنها في نفس الوقت حركة حلزونية خفيفة لدرجة ان السلم لم يكمل بعدُ نصفَ دورة حتى يختفي عند اعلى القبب. قبل أن يتلاشى، يصغر السلم ويتحول ممراً ضيقاً، حاداً من غير درابزين، يصعب تحديده في الظلمة التي كانت تتكاثف.
غير ان الرجل لا ينظر من هذا الجانب حيث ستحمله، رغم ذلك، خطواته. قدمه اليسرى على الدرجة الثانية واليمنى كانت مسبقا موضوعة على الثالثة والركبة مثنية. استدار كي يتأمل المشهد للمرة الاخيرة. المعطف الطويل الفضفاض الذي رماه على عجل فوق كتفيه والذي يمسكه الآن باحدى يديه المرفوعة الى مستوى الخصر، كان قد سُحبَ بسبب الدوران السريع الذي اعاد الراس توا والجزء العلوي من الجسد في الاتجاه المعاكس لسير الرجل. طية قماش طائرة في الهواء بتاثير هبة ريح تشكل زاوية تلتف على نفسها شبيهة بحرف S انفراجاته واسعة بما يكفي كي تسمح برؤية بطانة الحرير الاحمر المطرزة بالذهب.
ملامح الرجل جامدة لكنها متوترة كما لو كان ينتظر او يخشى ربما من حصول حدث مفاجئ او انه بالاحرى كان يراقب بنظرة اخيرة السكون التام للمشهد. مع انه ينظر هكذا الى الخلف، فان كل جسده بقي منحنياً قليلاً الى الامام كما لو كان لازال يتابع صعوده. الذراع اليمنى-تلك التي لا تمسك بطرف المعطف – نصف ممدودة الى اليسار نحو نقطة من الفضاء حيث ينبغي ان يكون موجودا الدرابزين اذا ما كان هذا السلم يحتوي على درابزين، حركة غير مكتملة، تكاد تكون غير مفهومة، الا اذا كان الامر يتعلق هنا بحركة غريزية غرضها الامساك بالمسند غير الموجود.
اما بخصوص اتجاه نظره، فهو مصوب بالتاكيد الى جسد الضحية الممدد على الوسائد والمباح، اعضاؤه متباعدة مثل صليب، النصف الاعلى للجسد مرتفع قليلا، الراس ملقىً الى الخلف. لكن الوجه ربما يكون محجوباً عن نظر الرجل من قبل احد الاعمدة المنتصب عتد اسفل الدرجات. اليد اليمنى للمرأة الشابة تلامس الارضية بالضبط عند موضع قدمها. سوار سميك من حديد يحيط بالمعصم الهش. الذراع تقريبا في الظل، وحدها اليد تتلقى ما يكفي من الضوء كي تكون الاصابع الدقيقة المتباعدة مرئية بشكل واضح عكس النتوء الدائري الموجود عند قاعدة العمود الحجري. سلسلة معدنية سوداء تحيط بالنتوء وتمر داخل حلقة متصلة بالسوار رابطة بقوة المعصمَ الى العمود. عند الطرف الاخر من الذراع، كتف دائري مرفوع بواسطة الوسائد، هو الآخر مضاء جيداً مثله مثل العنق، الصدر والكتف الآخر، الأبط مع الزغب والذراع اليسرى الممدودة هي الأخرى الى الخلف والمعصم المثبت بنفس الطريقة عند قاعدة العمود الاخر، قريباً جدا من المقدمة. هنا يبدوان بوضوح كامل السوار الحديدي والسلسلة، بارزان بوضوح تام بكل تفاصيلهما الدقيقة.
عند المقدمة، لكن من الجانب الآخر، ينطبق نفس الشيء على سلسلة تشبه الأولى مع كونها أقل ضخامةً بقليل. انها تقيد الكاحل مباشرة، تدور حوله مرتين وتوثقه بحلقة قوية مثبتة الى الارضية. على بعد متر تقريباً او اكثر الى الخلف، توجد القدم اليمنى مقيدة بطريقة مماثلة. لكن القدم اليسرى وسلسلتها هما اللتان ظاهرتان بوضوح اكبر.
القدم صغيرة، رقيقة، مجسمة بدقة. عصرت السلسلةُ بعضَ مواضع الجسد، حافرة فيه نتوءات محسوسة مع كونها ذات انتشار قليل. حلقات السلسلة بيضوية الشكل، سميكة، حجمها بقدر العين، تشبه تلك التي تسخدم لربط الشعر. انها تقريبا ممدودة على البلاطة الحجرية ومثبتة اليها بواسطة رزة ضخمة. على بعد بضعة سنتمترات، يبدأ طرف احدى السجادات. انه يرتفع هنا بتاثير ثنية سببتها دون شك الحركات المتشنجة للضحية عندما كانت تحاول الدفاع عن نفسها مع كون تلك الحركات محدودة جدا بالضرورة.
لا زال الرجل نصف محني على المرأة الشابة، واقفاً على مسافة متر منها. انه يتأمل وجهها المضطرب: عينيها المظلمتين اللتين جعلهما الماكياج اكبر مما هما عليه في الواقع، الفم المفتوح على سعته كما لو كان يصرخ. الموضع الذي يقف فيه الرجل لا يسمح بان يُرى من شكله غير مظهر جانبي ضائع، لكن يمكن للمرء ان يخمن انه فريسةُ حماس عنيف رغم هيئته الجامدة وصمته وسكونه. الظهر منحن قليلا. اليد اليسرى، الوحيدة التي يمكن رؤيتها، تمسك بعيدا عن الجسد قطعةً من قماش، ملبس ما من لون غامق يتسكع فوق السجادة.لا بد انها العباءة الطويلة ذات التطريز المذهب.
يحجب هذا الشبح الضخم جزءا كبيرا من الجسد العاري حيث البقعة الحمراء والتي انتشرت على تكويرة النهد، تنساب بخطوط طويلة تتشعب وتتضاءل، فوق المؤخرة الشاحبة للجذع وعلى كل جانب الجسم. احد خطوط الدم تلك وصل الى الأبط وخط خطاً دقيقاً مستقيماً تقريباً على طول الذراع. خطوط اخرى من الدم نزلت نحو الخصر ورسمت على احد جوانب البطن والورك واعلى الفخذ، شبكة اكثر عشوائية كانت قد بدأت بالتخثر مسبقا. ثلاثة خطوط او اربعة تقدمت حتى تجويف الفخذ وتجمعت على شكل خط متعرج يتصل بحافة حرف V كونته القدمان المنفرجتان، ويتلاشى في شعر العانة الاسود.
هوذا الان الجسد لا زال سليماً لم يمس: الشعر الاسود والبطن البيضاء، الانحناء الطري للوركين، الخصر الضيق والى الاعلى قليلا، النهدان اللؤلؤيان اللذان يعلوان بتاثير تنفس سريع، والذي يتسارع الان ايقاعه اكثر. الرجل قبالتها تماما، يضع ركبة على الارض، ينحني اكثر. الرأس ذو الشعر الطويل المعقوص والوحيد الذي احتفط بشيء من حرية الحركة يضطرب، يتخبط. ينفتح أخيراً فم الفتاة وينحرف، بينما الجسم يستسلم، يتدفق الدم على البشرة الرقيقة، المتشنجة، العينان السوداوان ذاتا الماكياج المتقن تكبران بطريقة هائلة، ينفرج الفم اكثر، يميل الرأس يميناً وشمالاً بعنف مرة اخيرة، ثم على مهل، يسقط، في النهاية، الى الخلف ثانية ويخمد داخل كتلة الشعر الاسود المنتشرة على المخمل.
في اعلى السلم الحجري، الباب الصغير مفتوح، سامحاً لضوء اصفر معزز بالدخول، يبرز بعكس الضوء الشبحُ المعتم للرجل المتلفع بعباءته الطويلة. لم يعد امامه غير ان يصعد بعض درجات كي يصل الى العتبة.
بعدئذ، كل الديكور فارغ، الصالة الواسعة ذات الظلال البنفسجية باعمدتها الحجرية التي تتضاعف في كل الجهات، السلم الاثري الخالي من الدرابزين والذي يعلو مستديراً حتى يضيق اكثر ويتلاشى كلما ارتفع داخل العتمة نحو اعلى القبب حيث يختفي.
قرب الجسد الذي تجلط جرحه وخفت بريقه، يرسم الدخان الخفيف المنبعث من المبخرة في الهواء الهادئ ممرات معقدة: هذه اولا لفة دخان تمتد الى اليسار، ترتفع فيما بعد وتعلو قليلا ثم تعود نحو محور نقطة انطلاقها بل وتتجاوزه على اليمين ثم تعاود الانطلاق من جديد بالاتجاه الاخر كي تعود ثانية راسمة، هكذا، منحنى غير منتظم يضعف على نحو متزايد ويصعد عموديا نحو اعلى اللوحة.
_____
*مجلة نزوى

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *