*محمود شقير
خاص ( ثقافات )
ظلال مدينة أخرى
1
سافرت في الحافلة إلى شيكاغو في الحادية عشرة والربع من صباح الأحد.
استغرقت الرحلة أربع ساعات ونصف الساعة. ركاب الحافلة في معظمهم من أبناء الفئات الاجتماعية متدنية الدخل، بينهم عدد غير قليل من النساء والرجال السود. لم أشعر بالراحة، لأن السفر في حافلة كل هذا الوقت أمر مرهق، أو هذا ما شعرت به، لكنني اعتبرت ذلك تنويعاً لا بد منه.(وقعت مشادة بين شابة سوداء وشاب أسود، شتم أحدهما الآخر بقسوة، قال إنها عاهرة، قالت إنه قمامة، ثم لم تلبث المشادة أن خفّت حدتها بالتدريج) تابعت السهول الفسيحة الممتدة والغابات الشاسعة، وكذلك المدن التي تمر بها الحافلة.
حينما اقتربنا من شيكاغو، شدت انتباهي ناطحات السحاب الصاعدة نحو السماء. جاء داود السلحوت إلى محطة الحافلات لكي يأخذني من هناك، (مقيم في الولايات المتحدة منذ سنوات، بيني وبينه صلة قرابة) ومعه ابن أختي، باسل، الذي جاء من هيوستن، ورجل ثالث، صديق لداود من هاييتي، مقيم في شيكاغو منذ تسع وعشرين سنة، منفصل عن زوجته، مقيم مع صديقته. اتجهت بنا السيارة نحو فندق “ديز إن” الواقع في الطرف الجنوبي من المدينة، قرب المطار. (كنت اقترحت على داود أن يحجز لي غرفة في فندق بوسط المدينة، ولكي أجنبه الإحراج، أخبرته أن الجامعة ستدفع أجرة الفندق، غير أنه لم يقتنع بما قلته له، لذلك بادر إلى حجز غرفة لي ولباسل في هذا الفندق على حسابه)
استرحت ساعة في الفندق، ثم ذهبنا، نحن الأربعة، لتناول طعام العشاء. تناولنا لحوماً مشوية في مطعم السلام الذي يملكه شخص فلسطيني، راقت لي فكرة تناول طعام فلسطيني في مدينة أمريكية، غير أنني رأيت أسى مكتوماً في عيني الفتاة الفلسطينية التي تعمل نادلة في المطعم. اعتقدت أنها تعيش ظروفاً ليست سهلة. (لو أتيحت لي فرصة مواتية، لطلبت منها أن تروي لي حكايتها مع أمريكا منذ وصولها إليها حتى هذه اللحظة) سألني بعض العرب والفلسطينيين هناك، عن أحوالنا في فلسطين، حدثتهم بإيجاز عما نعانيه وعما نتطلع إليه، ثم غادرنا المطعم واتجهنا إلى المحل التجاري الذي يملكه داود، في حي مكتظ بالسود. هناك، التقيت “راتب”، الأخ الأصغر لداود، الذي عرفته حينما عدت إلى الوطن بعد سنوات طويلة من الإبعاد القسري، ثم ما لبث أن سافر بعد ذلك بأشهر قليلة إلى أمريكا.
تابعت الزبائن الذين يدخلون إلى المحل لشراء بعض حاجياتهم، ثمة بؤس ظاهر على ملامحهم. غادرنا المحل واتجهنا إلى مركز المدينة، صعدنا إلى قمة ناطحة السحاب المسماة: “سيرز تور” التي تتكون من مئة وعشرة طوابق. نظرنا إلى المدينة من علو شاهق: إنها مدينة كبيرة متمددة على سهل فسيح، فيها ناطحات سحاب أخرى، تضفي على المدينة مهابة، بأضوائها الملتمعة.
شاطئ بحيرة متشيغان. ثمة خلق كثيرون: شابات وشباب بوجوه لا يعتريها أي بؤس، (أو هذا ما توقعته) يتمشون قرب الشاطئ، أو يصطفون في انتظار الصعود إلى القوارب والسفن التي ستحملهم في رحلات ليلية عبر البحيرة. هنا تتجلى بعض تفاصيل مجتمع الاستهلاك، هنا يتسطح وعي الأجيال الجديدة التي لا يعنيها شيء مما يدور حولها في هذا العالم. على الشاطئ، ثمة مقاهٍ ومطاعم ومراقص وساحات عامة، وثمة تماثيل لافتة للانتباه: امرأة ضخمة من جبس ولها نهدان كبيران بارزان، امرأة سوداء من برونز تستقر عارية فوق مقعد من المقاعد المخصصة للمتنزهين، ثدياها مترهلان من بؤس وشقاء. ثمة تمثال من البرونز لكاتب يجلس في هيئة مَنْ يستعد للكتابة، وتمثال آخر لامرأة تخرج من صدر رجل عارٍ.
تمشينا في المدينة وقتاً طويلاً. ثمة أفواج من الشابات والشباب يتجهون إلى النوادي الليلية أو يتجمهرون عند أبوابها انتظاراً للحظة الدخول إليها. هذه الأجيال الجديدة لها عالمها الخاص. عدنا بالسيارة إلى الفندق في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وثمة مطر غزير يهطل فوق المدينة.
مساء اليوم التالي، عدت في الحافلة إلى أيوا. في الليل، والحافلة تقطع المسافات عبر السهول، كانت شيكاغو ما زالت تومض في ذاكرتي، حاولت إقصاءها وأنا أتخيل عمليات الإبادة التي تعرض لها الهنود الحمر في هذه السهول الفسيحة وفي غيرها من مناطق القارة الأمريكية بشمالها وجنوبها، فعلتُ ذلك بتأثير من كتاب “فتح أميركا” لتودوروف، ولكي أثبت لنفسي كذلك، أن عملية طمس الحقائق التي يجري تمويهها هنا ببراعة وإتقان، لن تنطلي عليّ.
2
غادرت غرفتي متجهاً إلى الطابق الأرضي من السكن الجامعي، لحضور الندوة التي يقودها البروفيسور بيتر نازاريث. جاء بيتر ومعه زوجته ماري التي ترافقه دوماً مثل ظله، (لهما ابنتان متزوجتان، وليس ثمة أحد في البيت سواهما) قرأت أرنديز، قصة عنوانها “غبار” تتحدث فيها عن طغيان نمط الحياة الأمريكية على استانبول، قرأ المجري أندرياش ثلاث قصائد. أجرينا بعض الحوارات حول المواد التي استمعنا إليها. افتقر الحوار إلى العمق، ربما بسبب عدم التركيز أثناء الاستماع. أخذت نسخة من قصة أرنديز لكي أقرأها بتمعن. وجدتها قصة جيدة.
عدت إلى الغرفة. أخرجت كيس النفايات واتجهت إلى الخارج لرميه في الحاوية المخصصة لذلك. التقيت الكاتبة الروسية الشابة، ابنة الجنرال في المخابرات الروسية، أنستاسيا ذات العينين الخضراوين، خارجة من المصعد نحو غرفتها. حينما رأتني أهمّ بالنزول في المصعد ومعي كيس النفايات، أدركت قصدي. أخبرتني أن ثمة مكاناً لرمي النفايات في الطابق الثامن الذي نقيم فيه. دلتني على باب معدني صغير في ركن الممر، فتحته بنفسها، رميت الكيس الذي انحدر مبتعداً نحو الأسفل. شكرت أنستاسيا على هذا التصرف. عدت إلى غرفتي، وأنا موقن أنه لولا هذه التفاصيل الصغيرة التي يتداولها الناس في ما بينهم بسلاسة، لكانت الحياة جافة.
قرأت واحدة من قصص كانغ القصيرة. إنها قصة “فواكه امرأتي”. (أصدرت حتى الآن مجموعتين قصصيتين ورواية واحدة، وفيما بعد سترسل لي بالبريد كتاباً جديداً لها يشتمل على مجموعة من النصوص القصصية) القصة تبدأ بداية واقعية: زوجة شابة تبدأ علامات سوداء بالظهور على جسدها. أثناء ذلك، تستعرض الكاتبة على لسان الزوج الذي هو سارد القصة، حياة المرأة قبل الزواج وأثناءه، ثم تتحول المرأة إلى شجرة. أحببت القصة بما اشتملت عليه من غرائبية ذكرتني بأدب أمريكا اللاتينية، إنما بنكهة كورية. أكملتُ قراءة سيناريو “ابتسامات ليلة صيف” لإنغمار بيرغمان، وهو مليء بالمواقف الإنسانية المثيرة.
في اليوم التالي، ذهبت مع بقية الزملاء إلى حفل الاستقبال الذي أقامه لنا بنك “فيرست ناشينال”. (البنك الذي أخذتنا إليه ماري نازاريث وقام كل منا بفتح حساب له فيه. بعد ذلك سلمتنا موظفة جميلة مهذبة بطاقات الفيزا كارد) كان جو القاعة هادئاً، ثمة نساء ورجال يتبادلون أحاديث عابرة، وتندّ من هنا وهناك ضحكات. ضم الحفل خليطاً متنوعاً من المثقفين والكتاب ورجال الأعمال ونسوة المجتمع، وموظفي البنك وموظفاته. كان هذا الأمر مسلياً إلى حد ما.
أخرج من حفل الاستقبال، وأتجه إلى مكتبة بريري لايتس، أمشي في الشارع المؤدي إلى المكتبة. كان الوقت عصراً، والشمس تسلّط أشعتها الحارة على شوارع المدينة التي تشهد في مثل هذا الوقت من النهار حركة نشطة. ألمح صورتي المنعكسة على الواجهات الزجاجية للمحلات التجارية، وأشعر بشيء من الرضى عن الذات. أقلب بسرعة أوراق صحيفة شيكاغو تريبيون. (دينيس روس من جديد في الشرق الأوسط لتحريك عملية السلام المجمدة) أشتري رواية لإشميل ريد ورواية أخرى لأليكس شيرمان، وهما كاتبان من هنود أمريكا الأصليين.
أغادر المكتبة وأتجه إلى المقهى الهندي. (ليس للكاتبين المذكورين آنفاً علاقة بذلك) أشرب زجاجة بيبسي كولا، أستمع إلى بعض الأغاني الهندية. نادلة المقهى تتمايل بحركات راقصة خفيفة. لم يكن في المقهى سوى قليل من الزبائن، يداهمني إحساس غير مريح، أشعر أنني أهيم على سطح هذه المدينة التي لا أفهمها حتى الآن، أو كأنني أتحرك في فراغ، فأبدو مثل التائه في بعض الأحيان. (سألتقط من هذا المقهى مادة لإحدى قصصي القصيرة جداً، فيها تعبير عن تضارب الأهواء)
عدت إلى السكن الجامعي في التاسعة والنصف مساء. وجدت رسالة مسجلة على الهاتف من محمد السلحوت، هاتفته، أخبرته أنني سأزوره في هيوستن أوائل شهر تشرين الأول. شعرت بشيء من الراحة، فثمة صديق حقيقي يسأل عني، ويدعوني إلى زيارته، كان هذا الأمر مدعاة لشيء من الطمأنينة.
3
رحلة إلى مدينة “دوبوك” وإلى نهر المسيسيبي.
البروفيسور ستيف أونغر، مسؤول برنامج الكتابة الدولي، هو الذي رافقنا في الرحلة، ومعه زوجته روبن، بروفيسورة العلوم الطبيعية في الجامعة. (الرجل هادىء، قانع بحياته كما يبدو، وزوجته تتمتع بهدوء مشابه ورصانة تزيدها جاذبية وحضوراً) مررنا بمدن صغيرة عديدة. وثمة أرض خصبة وأشجار. قطعنا المسيسيبي بقارب حملنا ونحن في السيارة إلى الجانب الآخر من النهر. ذهبنا إلى منطقة فيها تلال كثيرة.
تناولنا طعام الغداء في متنزه مطل على النهر. كنا قد أحضرنا طعامنا معنا، مثل طلاب رحلة مدرسية. ثم انقسمنا إلى مجموعتين: واحدة اختارت الذهاب إلى النهر للسباحة، والثانية اختارت أن تمارس رياضة المشي فوق التلال وبين الأشجار. كنت ضمن المجموعة الثانية، (لا أجيد السباحة ولدي خشية من مياه الأنهار) كان معي ستيف أونغر وزوجته، الكاتب السويسري إميل زوبفي وزوجته، والكاتبة التركية أرينديز. أرينديز لم تواصل المشي، جلست تنتظرنا تحت ظل شجرة. مررنا ببعض مساحات مرتفعة قليلاً من الأرض، عليها لوحات معدنية تشير إلى أن ثمة آثاراً تدلّ على الهنود الحمر. كان المشهد سياحياً لا غير، كما أعتقد، ولم يكن يشكل أي اعتراف بالهنود الحمر أو بالمصير الذي تعرضوا له على أيدي المستوطنين الأوروبيين. غبنا عن أرينديز نصف ساعة تقريباً ثم عدنا. وجدناها منكبة على الكتابة، قالت إنها تتم رواية شرعت في كتابتها منذ جاءت إلى أيوا.
عدنا من حيث أتينا. في الطريق، مررنا ببلدة “ديكيفل” وفيها كنيسة لها ساحة، الساحة مسورة بسور مبني من الحجارة الصغيرة ذات الأشكال والألوان المختلفة، وثمة تماثيل وتشكيلات مبنية من الحجارة الصغيرة. ثمة تفرد خاص لهذا النمط من البناء. شعرت أن مراكمة حجر صغير على حجر صغير قادرة على الإتيان بنتائج مفاجئة. فارتاحت نفسي لذلك.
تناولنا طعام العشاء في مطعم بمدينة “دوبوك”، وهي أكبر من أيوا. جمعنا عدداً من الطاولات إلى بعضها بعضاً وجلسنا متجاورين، طلب كل منا الطعام الذي يريده، شرب بعضنا البيرة، ثم دفع كل منا حسابه. كان مشهدنا حميماً في ذلك المطعم، في تلك المدينة، بعيداً من بيوتنا وأسرنا. كنا مثل أفراد أسرة واحدة، أو هذا ما اعتقدته. غادرنا المطعم، ذهبنا إلى ساحة في المدينة تعزف فيها فرقة موسيقية ألحاناً صاخبة. كان القمر يطل من عليائه على الساحة، وثمة عدد كبير من الرجال والنساء والأطفال يملأون المكان. ثمة رجال ونساء على حلبة الرقص، ما شجع بعض المشاركين في الرحلة على الرقص: الكاتب السويسري رقص هو وزوجته (إنها تجيد الرقص، أما هو فلا يبدو عليه ذلك) الكاتب المجري أندرياش رقص مع الكاتبة الألمانية بياتريس. (أندرياش شاعر مرهف، في التاسعة والثلاثين من العمر، مندفع في البحث عن التجارب الجديدة) آيتي الأوغندية رقصت كذلك، فاسيلي المولدافي رقص وأثبت أنه راقص متمرس. أرينديز كانت تقف أمامي، رقصت رقصاً موضعياً خفيفاً وهي في مكانها، راقبتها وهي تهز جسدها اهتزازات خفيفة، ثم توقفت عن ذلك بعد لحظات. أنا لم أرقص ولم أفكر بذلك، ولم يكن هذا أمراً حسناً.
وصلنا أيوا حوالي العاشرة والربع ليلاً. نمت دقائق قليلة في الطريق، وكنت متعباً.
4
مركز المدينة، واليوم هو الأحد.
في المساء، اتجهت إلى مقهى جافا هاوس، المقهى يعج بأصناف من الشباب والشابات، ثمة أحاديث وضحكات وصخب محتمل إلى حد ما. شربت شاياً وقرأت الصحف. هذا الأحد لا يروق لي، ثمة عطلة أسبوعية لا أعيشها كما ينبغي.
غادرت المقهى إلى سينما بيجو. شاهدت فيلم “تحت وجه البسيطة” لمخرج يوغوسلافي لم أحفظ اسمه. فيلم طويل مدهش، مليء بالكوميديا والفانتازيا، يتحدث عن يوغوسلافيا منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم.
خرجت من السينما. كان المطر يهطل باعتدال، مطر ناعم خفيف. فتحت المظلة فوق رأسي ومشيت، لم أكن سعيداً بسبب مزاجي المتقلب الذي لا يستقر على حال. الساعة هي الحادية عشرة ليلاً، ثمة أعداد قليلة من الناس في الشوارع. وجدت الحافلة المتجهة إلى السكن الجامعي واقفة في المحطة المحاذية لمباني الجامعة. ركبت فيها وعدت إلى غرفتي، تفرجت على التلفاز، ولم أقرأ شيئاً.
مساء الاثنين، غادرنا، كانغ وهاي ومينت وأنا، مبنى الجامعة.
كنا مثل طلبة مجتهدين، مشينا في الشوارع مغتبطين، بعد الانتهاء من الندوة التي تحدثتُ فيها عن تجربتي في كتابة القصة القصيرة. دعوت الجميع لتناول القهوة والشاي في جافا هاوس على حسابي. جاء بعد ذلك أندرياش وآيتي. بقينا في المقهى مدة ساعة تقريباً، تبادلنا الأحاديث والتعليقات السريعة وكنا فرحين. حينما همّ الجميع بالإنصراف، أخبرتهم بأنني سأبقى في المقهى لقراءة الصحف. تصفحت بعض الصحف بحثاً عن أخبار الوطن، لم أجد فيها شيئاً يذكر، (ثمة تجاهل مقصود كما يبدو، لما يحدث في فلسطين من ممارسات تعسفية إسرائيلية) جاءت أنستاسيا الروسية وزميلتها أولغا، سلمتا عليّ، تبادلنا بعض كلمات ممزوجة بابتسامات، ثم ذهبتا للجلوس في الفسحة المحاذية للرصيف. (مكان مخصص للمدخنين، حيث التدخين ممنوع داخل المقهى)
غادرت المقهى إلى المكتبة العامة. بحثت في قسم الأفلام عن أي فيلم لإنغمار بيرغمان، وجدت فيلم “الشخص”. شاهدته وأعجبت به. عدت إلى غرفتي، تناولت طعام العشاء: خضروات وفواكه، شربت كأساً من البابونج. قرأت ثلاث قصص قصيرة جداً باللغة الانجليزية، ليس ثمة إدهاش في هذه القصص.
بعد ظهر الثلاثاء، سيقام حفل استقبال للكتاب الضيوف في مقر المركز الدولي في أيوا. مشيت وقتاً كافياً في شوارع المدينة قبل الوصول إلى المركز، كنت أشعر أن المدينة تقع خارجي تماماً، ولا بد من بذل جهود مكثفة لخلق نوع من الصلة الحميمة معها. (نحن هنا منذ ثلاثة أسابيع) قام بعض الزملاء بارتجال نصوص نثرية لا يزيد الواحد منها عن مئة كلمة، لم أشارك في هذه التجربة لأنني شعرت بالتهيب الذي تمليه علي حسابات شخصية، (تهيب يلازمني بين الحين والآخر، فأبدو مستاء مني. لا أسبح في ماء النهر، لا أرقص في حلبة الرقص، ولا أرتجل نصاً نثرياً كذلك. هل هذا معقول!) تناولنا طعاماً خفيفاً، خطر ببالي أن أقتني نسخاً من كراسات تتضمن نصوصاً لا يزيد الواحد منها عن مئة كلمة، كتبها طلاب وطالبات وعدد آخر من هواة الكتابة المكثفة. وجدت بيتر نازاريث واقفاً هناك كما لو أنه يحرس الكراسات. سألته: هل يمكنني اقتناء بعض الكراسات؟ قال: بالطبع، وعليك أن تدفع ثمنها. قلت: سأدفع. قال موضحاً موقفه: أعذرني، أنا مضطر لقول ذلك. قلت: لا عليك! ثم استثمر هذا الحوار لكي يروي لي نكتة، قال: جاء شخص إلى فندق، فوجد بالباب كلباً. قال لموظف الاستقبال: أنا أخاف من الكلاب. قال الموظف: لا تخف، كلبي لا يعض الناس. دخل الرجل بعد أن بدد الموظف مخاوفه، غير أن الكلب هجم عليه وعضه. قال للموظف: قلتَ لي إنه لا يعض الناس. قال الموظف مستدركاً: نعم، ولكنْ هذا ليس كلبي! ضحكنا معاً. (هذا البروفيسور مهذب ذكي، أوغندي من أصل هندي، الآن هو مواطن أمريكي، مثقف واسع الاطلاع. لم تكن ماري واقفة بالقرب منه، لكنها حاضرة في القاعة بالتأكيد).
———-
*روائي وقاص من فلسطين