البيضة الحَجَريَّة


*عبد العزيز بركة ساكن


قال له وهو يضربها على زجاج المنضدة: «دي بيضة حجر، أدّوني ليها التومات.»، فقفز الأب مذعوراً من مرقده كالملسوع، وأخذ يحملق في البيضة وكأنها عفريتٌ يخرج من قمقمه الآن، وبدون أن يشعر صرخ بأعلى صوته في ابنه بأن يعيد البيضة إلى حيث وجدها، أن يعيدها للتوأم، وألا يقربها مرةً أخرى. وقف الطفل مندهشاً، ممسكاً بالبيضة في يده، ولا يدري ماذا يفعل بها، ولا يدري لماذا تثير الرعب والخوف في والديه، وهي ليست سوى بيضةٍ حجريةٍ أهدتها إليه التوأم!. عندما دخلا الشقة، قابلهما «فرّاج» فرحاً، مادّاً هديّته ليريها لأمّه، لا يدري لماذا دخلها كلُّ هذا الفزع من البيضة التي دفعها «فراج» دفعاً في كفِّها، لدرجة أنها رمتها بعيداً عن يدها، وكأنها جمرةٌ ملتهبة، لكنها تراجعت- تدريجيّاً- عندما رأت الدهشة في وجه «فراج» وأخته، اللذين كانا في استقبالها عند الباب. لقد خرج «السرّ» مبكّراً إلى القيادة العامَّة لترتيب أمر حقوق ما بعد الخدمة وشهادات الخبرة وإخلاء الطرف، أبدت البنت ملحوظةً لأمِّها بأن تلك ليست سوى بيضة حجرية، لا أكثر، فلِمَ الخوف؟ قالت الأمُّ بصوت مبحوح: «ما كنت أظنها تقيلة، تخيلتها بيضة عادية، من وين جبتها؟ من التومات، مش كدا!»
كان «فتح الله» مشغولاً بالتخلُّص من جلبابيه وعمامته الثقيلة، حيث إنه لم يعتد على لبس جلبابين وعمامة، لأنه لم يمتلك سعرها في الماضي ولا يحبُّها الآن، يحسُّ بها حملاً ثقيلاً على رأسه وجسده، لا ضرورة له، ولكن البروتوكولات الاجتماعية تحتِّم عليه لبسها، بل لبس أكبرها حجماً، وأكثرها ليونة؛ ليبدو مثل رجل ثريٍّ يُوضع له ألف حساب وحساب. تدرَّب على لبس العمامة بواسطة أخي زوجته، الجنرال.
انتزعها من رأسه انتزاعاً، تخلَّص- أيضاً- من الجلباب الأعلى، وبقي بالجلباب القطنيِّ الداخليِّ القصير، نفض رجليه نفضتين سريعتين، أطارتا فردتي المركوب بعيداً، لتسقط واحدة منهما على الكونسول، وتكاد تصطدم بمرآته المصقولة، غالية الثمن، والأخرى حلَّقت في الهواء قليلاً واستقرَّت على الكنبة الكبيرة المستطيلة التي تقبع مواجهةً لمقعده.
نفخ الهواء في كسل، صاح يريد ماءً بارداً من الزير، وهو قّلة فخّارية ضخمة يحتفظون بها في حجرة قصيَّة بعيداً عن أعين الزائرين المترفين من الجيران، وأنه يريد أيضاً كيس صعوطه وسفنجته.
بدا واضحاً أنه ليس بمزاجٍ طيب. اصطحبته الأمُّ «نصرة» إلى غرفته وأغلقت الباب خلفهما. قال له الشيخ بعد أن تفحَّصه جيِّداً واستمع إلى قصته مع الديك، ومغامراته في التعدين العشوائي للذهب، وسرقة ممتلكات الموتى من النوبة الأقدمين (طبعاً كان «فتح الله» وزوجته حريصين ألَّا يحكيا للشيخ قصة البيض الذهبيِّ والثروات التي جنياها منه): إن الديك هو الشيطان حارس الذهب.
وأكَّد لهما أن هذا الديك لن يفارقه ما لم يتم التخلُّص من الخاتمين بالطريقة السليمة، وهي أن يحضرهما للشيخ، الذي سيقوم بوضع بعض التمائم عليهما، ثمَّ يُرمَيان في النيل في ليلة مظلمة، أو أن يعيدهما إلى القبر النوبيِّ المسحور، ثمَّ على «فتح الله» أن يذبح ثوراً أسود أو أبيض شديد البياض كرامةً وفديةً لنفسه، وأن يحدث هذا في أوَّل يومٍ من الشهر القمري. أوضحا له أن الخاتمين موجودان في بيت أسرة المرحوم، ولا يمكنهما الحصول عليهما، كما أن الأسرة لا ترغب في بيعهما في المدى القريب، إنهم يحتفظون بهما للذكرى. ولكن الشيخ أكَّد على أن علاجه من الديك حارس الذهب يكمن في تلكَ الطريقة، ولا بدائل لها، حسب علمه ومعرفته وفهمه للجنِّ والإنس.
لحق «فراج» بوالديه في الحجرة، كان مسروراً جدّاً بعودة والديه، يحاول شتّى الحِيَل ليعرف أين كانا بالضبط، ولماذا لم يأخذاه معهما، ولكن أمَّه تبطل محاولته بالعبث بشَعْره وإغراقه بالأسئلة التقليدية: ماذا أُطعِمَ في غيابها، وكيف قضى ليلته، وهل تحدَّث كثيراً مع أخيه «السرّ»، ولِمَ لَمْ ينَمْ في حجرة «ميرم»؟ أمَّا والده فكان يحاول جهده أن يمتثل للنوم، ولا يجاوبه بغير همهماتٍ قصيرةٍ لا معنى لها، ولا فائدة تُرجى من ورائها.
كان «فتح الله» يدير حواراً صامتاً مع الديك، يرجوه أن يتركه لكي ينام، ولو قليلاً، وإنه سيفعل كلَّ ما يأمره به، فقط إن تَرَكه ينام، ولو لدقائق قليلة. كان الديك يقبع على جبهته، يضع كلَّ قائمةٍ من قائمتيه على عينٍ من عينَيْ «فتح الله فرّاج»، وبمخالبه، يباعد بين جفنَي العين، وبين فينةٍ وأخرى ينقر على أنفه، ويصيح.
عندما يئس «فراج» الصغير من جذب انتباه والديه إليه، أخرج البيضة من جيبه، وخاطب والده:
– شوف عندي شنو؟
وبزاوية عينه اليمني نظر الأب إلى البيضة، وحاول أن يغمض عينيه مرةً أخرى، وهو يقول له بصوت ناعس:
– لا تلعب بالبيضة، كُلْها، وخلص.
قال له وهو يضربها على زجاج المنضدة: «دي بيضة حجر، أدوني ليها التومات.»، فقفز الأب مذعوراً من مرقده كالملسوع، وأخذ يحملق في البيضة وكأنها عفريتٌ يخرج من قمقمه الآن، وبدون أن يشعر صرخ بأعلى صوته في ابنه ليعيد البيضة إلى حيث وجدها، أن يعيدها للتوأم، وألّا يقربها مرّةً أخرى. وقف الطفل مندهشاً، ممسكاً بالبيضة في يده، ولا يدري ماذا يفعل بها، ولا يدري لماذا تثير الرعب والخوف في والديه، وهي ليست سوى بيضة حجرية أهدتها إليه التوأم.
لمز إليه الديك بعينٍ يسرى ماكرة وغمز، وعلى منقاره ابتسامة مخيفة، قائلاً: «جبااااااان» وضحك وهو يضرب بجناحيه الهواء، فيتطاير ريشه ليملأ الفراغ كلّه، لدرجة أن حجب عنه رؤية ابنه المندهش، وزوجته التي تحاول أن تشرح للطفل المسكين أن والده عنده صداع، وأنه مرهق من السفر، لذا كان ردُّه بهذه الصورة، «فلنخرج إلى المضيفة أو إلى غرفتك، ونتركه ينام قليلاً.».
جلست «ميرم» قربها، بل التصقت بها كثيراً، كانت تحسُّ القلق الذي تعاني منه والدتها، وتشعر بأن هنالك سرّاً مؤلماً يأكل أحشاءها، ولكنها- أيضاً- تريد لِحَياتها أن تمضي، وتريد أن تبدأ مشوارها في عشّ الزوجية بأسرع ما يمكن، والأفضل الآن، فمشاكل أمِّها وأبيها لا نهاية لها، منذ أن خلقهما الله هما قلقان ومهمومان ومشغولان بأمور الدنيا، هذا هو حالهما، أثرياء كانوا أم فقراء، لا فرق لا فرق، قالت لها:
– «أحمد» ح يرسل أمه يوم الاثنين. 
نظرت إليها أمُّها وكأنها لم تسمع شيئاً، كانت مقلتاها فارغتين من أيِّ معنى، حولهما هالةٌ سوداء، عندما أفرجت عن شفتيها لتقول شيئاً، كرَّرت لها «ميرم» الجملة، وهي تحملق في وجهها لترى ردَّة فعلها، قالت لها بصورة حادَّة ونهائية:
– ما في عرس يا «ميرم»، وكفاية النحنا فِيهُ الآن.
قالت لها مستفسرة:
– شنو النحنا فيهُ يا أمّي؟
قالت لها بصوت مبحوح:
– أبوك مريض!
قالت بخوف:
– مالُه؟
قالت لها الأمُّ متجنّبةً عيني ابنتها اللتين تخترقانها كالحربة:
– أبوك ما بيقدر ينوم، الليل كلّه يفضل صاحي، وتجيه هلاويس!
قالت في براءة:
– كويّس، يمشي الدكتور!
قالت الأمُّ، وهي تعبث بشعر «فراج» الذي يدير البيضة في كفّه:
– مرضُهُ ما مرض دكاترة، مرض «فكية».
قالت «ميرم» وهي تنهض من قرب أمِّها:
– ما في مرض اسمه مرض دكاترة، ومرض «فكية»، المرض مرض، والحمد لله مرضه خفيف، أحسن يمشي الدكتور، يوم الأحد، حَ تحضر أم أحمد وأبوه.
قالت الأمُّ غاضبة:
– الزواج بعد الجامعة يا «ميرم»، ونحنا اتّفقنا، مش كدا؟
قالت «ميرم» مستنكرة:
– اتّفقت مع منو؟ معاي أنا؟ لأ!
ولم تنتظر إجابة أو تعليق والدتها، دخلت حجرتها، أغلقت الباب خلفها بصوت مسموعٍ، بل مُدَوٍّ، خلعت ملابسها، دخلت الحمام، جلست على المقعد، أخرجت سجائر «برنجي لايت» ذات العلبة الزرقاء من خلف المقعد، أشعلتها، وأخذت تمتصُّ الدخان في قلقٍ، بينما كانت أدمعها تسيل على خدَّيها، عقلها يعمل مثل ألف ساعة، لها ألف بندول، تدقُّ في ألف زمنٍ مختلف.
*فصل من رواية «مَنِفِسْتُو الدِّيكِ النُّوبِيِّ»، تصدر قريباً.
________
*الدوحة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *