نهى حوا
لا تتوقف الروائية الأميركية توني موريسون، الحائزة على جائزة نوبل للآداب، عن سرد ما اقترفه نظام العنصرية الرهيب في أميركا من تشويه داخل المجتمع الأميركي من أصل إفريقي، ومنذ أن مُنحت لقب «ضمير أميركا»، كانت هذه قصتها التي روتها وأعادت سردها على مدى نصف قرن بغضب وعاطفة جارفة دوماً.
وكتابها الأخير بعنوان «ليكن الله في عون الطفلة» لا يخرج عن هذا السياق. فموضوعه يدور حول فكرة الجمال وما يحدثه في ذوي البشرة الداكنة، وموريسون مستعينة بأجواء كافكا وروايته «المتحول»، تدخلنا إلى النفوس المعذبة لضحاياه.
مفهوم الجمال وفكرة الصورة الذاتية عنه، كانا محور المقابلة التي أجرتها معها صحيفة الـ«غارديان» البريطانية عن روايتها الجديدة أخيرا، حيث بطلة الرواية فتاة سوداء جميلة تدعى «برايد» تحاول حماية نفسها من ماضيها، من خلال إجراءات تجميلية سطحية. وكان لافتا تأكيدها في الحوار، أنها تكتب للسود وليست مضطرة للاعتذار عن ذلك.
نمر في الثلج
البشرة السوداء الداكنة لـ«برايد» كانت مصدر مآس كبيرة في طفولتها، وأمها ذات البشرة الأقل سوادا كانت مرتعبة عندما أنجبتها، حتى انها فكرت في قتل طفلتها. ثم أصبحت بشرة برايد السوداء سببا لنجاحها عند بلوغها سن الرشد..
وهي ستعمل في مجال الأزياء والجمال وتتبع أقوال أحد مصممي الأزياء في ارتداء ملابس بيضاء فقط، محوِّلة نفسها إلى ما يشبه «نمر في الثلج». ويقول لها صديقها بوكر في الرواية: «عمليا، العرق غير موجود، وبالتالي العنصرية من دونه هي عبارة عن خيار. يجري تعليمها طبعا من قبل أولئك الذين يحتاجون إليها، لكنها تبقى مسألة خيار، والذين يمارسونها يصبحون لا شيء من دونها».
والجمال بالنسبة لموريسون يمكنه أن يزعزع كيان المرء واستقراره، إذا كان هذا كل ما لديه وكل ما يهتم به وهو منبع نجاحه، وهي ترغب في رؤية الإنسان بأبعاد ثلاثية في مكان خارج الملابس ومساحيق التجميل والتعري التي أصبحت إحدى مقومات الجمال هذه الأيام حسبما تقول.
ونتبين أن روايتها الأخيرة تجري في إيقاع معاصر، كما روايتها «طفل القطران» الصادرة عام 1981، حيث عارضة أزياء في السوربون تدعى جادين تخشى اقتلاعها من عالم ثقافة البيض تقع في حب شاب أسود معدم. وإذا كان هناك من تغيير طرأ في كتابها الحالي، فإنه انعكس في السطحية المتزايدة التي تميز أوقاتنا، فجادين ربما تكون عارضة أزياء، لكنها ليست مهووسة بالمظاهر أو امرأة طفولية ضعيفة عاطفيا كما حال «برايد».
حكايات
تتحدث توني موريسون عن روايتها الأولى التي كتبتها قبل 45 عاما، بعنوان «أكثر العيون زرقة» عن قصة تلك الفتاة السوداء الشابة التي تصلي من أجل عيون زرقاء، بأنه يمثل الكتاب الذي أرادت قراءته ..
ولم يكن متوافرا. وكانت تستيقظ الساعة رابعة صباحا كل يوم للعمل على تأليفه، ذلك أنها كانت أما لطفلين ترعاهما لوحدها. وكتبت موريسون في عام 2007 مقدمة الكتاب وركزت على الطريقة التي يمكن لـ«شيء بشع مثل تشويه عرق بأكمله، أن يتجذر في أعماق طفل هو العضو الأكثر رقة في المجتمع، والأنثى وهي العنصر الأضعف». وتقول: «أكتب للسود بالطريقة نفسها التي لم يكتب تولستوي لي، الفتاة الملونة التي تبلغ من العمر 14 عاما من لورين في ولاية أوهايو»، وتضيف: «لست مضطرة للاعتذار أو أن اعتبر نفسي مقيدة لأنني لا أكتب عن البيض، ثم هذا ليس صحيحا أبدا، فهناك العديد من ذوي البشرة البيضاء في كتبي. والنقطة أنه لا يقف فوق كتفي وأنا اكتب هذا الناقد ذو البشرة البيضاء».
وهي تعني بذلك الكاتب جيمس بالدوين الذي تحدث عن وجود «رجل أبيض صغير داخل كل منا». تؤكد أنه لم يكن موجودا يوما في أعماقها، وتعزو ذلك ربما لأنها ترعرعت في أحياء مختلطة في لورين.
لكنها لا ترى الأمر من وجهة نظر ديموغرافية بقدر ما يتعلق بثقتها القصوى بنفسها. وهذه الثقة هي التي دفعتها للذهاب إلى جامعة هاورد ومن ثم إلى كورنيل..
حيث أنهت شهادة ماجستير في الأدب، وهي التي أعطتها الشجاعة للانفصال عن زوجها عندما كانت حاملا بطفلها الثاني، والتي جعلتها متمردة حرة عندما عملت كمحررة في «رادندوم هاوس»، حيث دفعت بأعمال كتاب من السود أمثال «انجلا دايفز» و«توني كايد».
أمران مرتبطان
منذ ثلاث سنوات تحدثت عن معاملة السود، لا سيما حادثة مقتل ترايفون مارتن، فقالت موريسون: «هناك أمران أبحث لرؤيتهما في الحياة. أحدهما اطلاق النار على فتى أبيض من الخلف من قبل شرطي، وهذا لم يحدث أبدا. والثاني وجود سجل أدين فيه رجل ابيض في تاريخ العالم لاغتصابه امرأة سوداء، واحدة فقط».
وشكل عام 2014 سنة قاتمة تحديدا مع قائمة من الأرواح التي سقطت على يد الشرطة، وهي ترى أن الوضع كان هكذا دائما، وتقول: «انا لدي ابنان، وعليهما أن يقولا «سيدي» إذا أوقفهما الشرطي، وتعلمون إنها استراتيجية للتعامل مع المشكلة أو تجنبها». وموريسون تضع على جدران منزلها رسومات تجريدية لابنها الثاني الذي توفي بسرطان البنكرياس، كلها آذان من دون فم.
تقول إنها الآن في الثمانينيات من العمر، وهناك ثلاثة أشياء ترغب في قولها: أولها «كلا» وثانيها «اصمت» وثالثها «اخرج». اكتسبت حقها في عدم القيام بما لا ترغب به، وهذا يشمل كتابة مذكراتها، على الرغم من توقيعها عقدا مع «راندوم هاوس». وتقول: «كثير من الروايات المعاصرة، حتى عندما تكون مكتوبة بصورة جيدة هي نوع من إحالة للذات. وهي كانت تدرس الكتابة الإبداعية في برنستون، وكانت تقول لطلابها دوما: «لا تفعلوا ذلك، لا تكتبوا عن حياتكم المحدودة».
«ليكن الله في عون الطفلة».. حين تشوه العنصرية الجمال
كعهدنا بها، نجد في قلب رواية «ليكن الله في عون الطفلة» للروائية الأميركية توني موريسون، قضية العنصرية ومفهوم الجمال وتأثيرهما المشوه في حياة السود الأميركيين. والقضية تبدأ من الطفولة، وبينما تذهب المخيلة الجماعية إلى صور للطفولة بأنها محصنة ضد الشرور والأمراض النفسية، ومحمية من الاختطاف والضرب والاغتصاب والعرقية والاهانة والاذى وكره الذات والهجران..
فإنها تشكل على نقيض ذلك جرحا عميقا في رواية موريسون، قصة خرافية بظلال من كتب «بورزرز غريم»، قسوة رهيبة تصيب الاطفال برحلة الى الغابة مع امراة عجوز شريرة و«ما تفعله بالاطفال له اهمية، ويمكن أن لا ينسوه ابدا».
مديرة تنفيذية
بطلة القصة هي امرأة شابة جميلة ذات بشرة سوداء داكنة تعمل مديرة تنفيذية في شركة تجميل ناجحة، تعرضت في طفولتها للإهمال والإساءة على يد والدتها ذات البشرة الفاتحة التي كانت ترى في سواد بشرة طفلتها علامة خطيئة وتخجل بها.
والأم ستحرم ابنتها من أبسط أشكال الحنان، باعتقادها أنها بذلك تدربها على مصاعب الحياة التي ستواجهها في المستقبل. وتحت ضغط العنصرية والتوتر الطبقي المنتشرين في المجتمع الأسود في أميركا، تستمر الأم في نفث سمومها، لا سيما وان زوجها رفض تقبل الطفلة وترك العائلة متهما زوجته بخيانته.
عار وتوق
وتنمو برايد في بيئة من العار والتوق للحب والقبول بها، ووالدتها في غضون ذلك تصر على أن تدعوها طفلتها «سويتنس» بدلا من أي شيء يشير الى أمومتها لها. ثم تجد «برايد» فرصة للفوز بحب والدتها، فتتواطأ مع رفيقاتها في الصف لاتهام أستاذتها، امرأة بيضاء تدعى صوفيا هكسلي، انها تتحرش بالطلبة.
تقول الأم: «اللون الأفتح هو الافضل في النوادي الاجتماعية والجيرة والكنائس والجمعيات النسائية، وحتى في المدارس الملونة. لكن كيف لنا أن نتمسك ببعض من الكرامة؟».
كذب غير مستغرب
وإذا كان لون البشرة ما يسمح للسود بالتمسك ببعض من الكرامة، فإن برايد لن يتسنى لها أي من ذلك. بأم تكره وجودها، فإنه ليس مستغربا أن تكذب برايد وتدفع بامرأة بريئة الى السجن فقط كي تتمكن من الفوز بحب أمها، وتحظى هي أيضا ببعض من الكرامة.
وبرايد ستنمو لتصبح امرأة جميلة تلفت الأنظار أينما توجهت، طويلة وأنيقة وترتدي دوما الثياب البيضاء، وهو لونها المفضل لأنه يعكس جمالها كـ«نمر في الثلج». وترتبط في غضون ذلك بشاب اسود اسمه «بوكر» في علاقة حب متقلبة.
وتحاول برايد التقرب من أستاذتها بعد أن أفرج عنها بسراح مشروط، لكنها تتعرض لضرب مبرح. وأثناء تماثلها للشفاء تلاحظ ان جسمها بدأ يعود نحو مرحلة ما قبل البلوغ. ومثل برايد، فإن الكتاب مليء بشخصيات أعاقت الطفولة تطورهم السليم ويحملون آثار طفولة مضطربة وعلاقات مشحونة مع الأهل.
وموضوع النمو وبناء الشخصية يتكرر في روايات موريسون، من صديقها بوكر التلميذ الجامعي الحزين والى مقتل اخيه، إذ يحول قلق طفولته الى سعي للحقيقة من خلال التاريخ والجاز. لكن نعمة الموسيقى والكتب ورفقة «برايد»، تبقى غير كافية عندما تظهر صدمات الطفولة غير المحكية بينه وبين برايد، فيهرب.
وهذا القلق نراه أيضاً في روايتها «الجاز» عام 1992، عندما يتـــذمر غولدن غراي لوالده الأسود: «لا اريد أن أصبح زنجياً حراً، اريد أن اصبح رجــــلاً حراً». فيرد عليه والده هنري لستروي مدركاً معنى أن تكون اسود هو اساس الانسانية والحرية، وليس العائق لكليهما: «كن ما تريده، ابيض او أسود. لكن إذا اخترت أن تكون اسود، عليك أن تتصرف بناء على ذلك، بمعنى ابنِ رجولتك، بسرعة ولا تأتِ الي بحماقات الشاب الأبيض».
القصة من تسعة فصول كل فصل بصوت إحدى الشخصيات، كما لو أنها تتناوب السرد الفردي المرتجل. ربما تكون الرواية عن الشخصيات التي تحقق نفسها رغم المعاناة في طفولتها، لكنها تفيد أيضاً بأنه: «لا ندرك ما معنى الحب إلا عندما نتعلم معنى الأغاني الكئيبة الزنجية«.. وموريسون صنعت الكتابة من إيقاعات حسرة الأميركيين من أصل إفريقي.
نبذة
ولدت الروائية الأميركية الأفريقية توني موريسون، في اوهايو عام 1931.
حازت على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة هاورد عام 1953، وماجستير من جامعة كورنيل.
عملت في التعليم قبل أن تصبح محررة لدار النشر «راندوم هاوس»، حيث لعبت دوراً حيوياً في الدفع بأدب السود إلى الواجهة.
نالت جوائز عديدة، من أهمها: جائزة بوليتزر في عام 1988 على روايتها «محبوبة»، وجائزة نوبل عن مجمل أعمالها في عام 1993، الوسام الرئاسي للحرية من الرئيس الأميركي باراك أوباما في عام 2012.
تُرجمت أعمالها إلى مختلف لغات العالم، ومن بينها العربية.
البيان