*طلعت الشايب
تذكُّر شعراء الكون شعراءَ الإنسانية ليس في حاجة إلى مناسبة بعينها كذكرى ميلاد أو رحيل، ذلك لأن من خرجوا من رحم الحياة ينشدون للحرية والعدل لا يغيِّبون كلماتهم الأبقى من الموت خالدة على الجدران وفوق أرصفة الزمن وفي الميادين، مثلما هو باق عزفهم على الكمان للصامدين في المعركة الأخيرة. والعودة إلى شعراء بحجم ناظم حكمت الذي تحلّ الذكرى الخمسين لرحيله هذا العام (1902 – 1963) ضرورة واحتياج، فهي ضرورة تبقى فينا جذوة الأمل والثقة في المستقبل الأفضل واليوم الأجمل الذي لم يأت بعد.
كان ناظم حكمت يغنّي لكي لا يتبقّى وطن واحد أسيراً، ولا إنسان واحد مستعبَداً على وجه الأرض، فإذا كانت جذور شعره ضاربة في عمق تراب وطنه الأم، فإنه يريد أن يستطيل بأغصانه إلى كل أرض، إلى «تلك الأراضي الواسعة دون حدود في الشرق والغرب، في الشمال والجنوب، إلى الحضارات التي شُيِّدت فوق هذه الأراضي، إلى عالمنا الكبير». (1)
لم يكن ذلك رأيه في وظيفة الشعر وهدف القصيدة فحسب، بل وفي وظيفة الشاعر الذي عليه أن يبتكر في شعره صورة جديدة للعالم المفكَّك من حولنا، ويعيد تركيبه ويعطيه معنًى جديداً انطلاقاً من الواقعي، ووفقاً لتجربة ورؤية خاصة، وبذلك تغدو قصيدته «ممارسة كيانية وأخلاقية، ممارسة في معرفة أغنى للعالم، وفي كشف أوسع عن جمال الحياة وفي تحويل الوجود إلى نشيد».
(2)
جاء ناظم حكمت إلى الشعر من عائلة أرستقراطية مثقَّفة. كان جَدُّه ناظم باشا المولوي يكتب الشعر الديني والتعليمي مستخدماً لغة تركية بها قدر كبير من الكلمات العربية والفارسية، كما كان والده حكمت ناظم باشا قنصلاً في هامبورج ومديراً في الخارجية التركية، وواحداً من أبرز قيادات حزب الاتحاد والترقّي، أمّا أمّه «جليلة» فكانت رسامة وقارئة جيدة ومُحِبّة للشعر – على عكس والده – وذات اطِّلاع على الثقافة الفرنسية ومولعة بالشاعر «لامارتين».
يتذكَّر ناظم أنه كتب قصيدته الأولى في إسطنبول وهو في الثالثة عشرة من العمر؛ كان حريق هائل قد شَبَّ في المنزل المقابل لهم، فتملَّكه الفزع، وبعد أن تحول المنزل إلى رماد، كتب قصيدة بعنوان «الحريق».
يقول إن وزنها كان مطابقاً لتلك الأصوات الباقية في مسمعه من قراءة جَدِّه لأشعاره. قصيدته الثانية كتبها وهو في الرابعة عشرة تقريباً وكانت عن الحرب العالمية الأولى التي قضى فيها خاله، وكانت بالتركية ذات الكلمات العربية والفارسية القليلة. بعدها جاءت قصيدته الثالثة وهو في السادسة عشرة على الأغلب، وكانت هذه المرة عن قطّة شقيقته. عرض القصيدة على الشاعر التركي الكبير يحيى كمال أستاذه في مدرسة البحرية وصديق الأسرة، الذي طلب أن يرى تلك القطّة التي وصفها في قصيدته، وكان تعليقه عندما لم يجد شبهاً بين القطّة الحقيقية وتلك التي في القصيدة أنه سيكون شاعراً، بما أنه أجاد تجميل تلك القطّة القذرة.
في السابعة عشرة من عمره سوف يقوم الشاعر بتنقيح قصيدة له بعنوان «غابة السرو»، أول قصيدة له تجد سبيلها إلى النشر، وموضوعها الموتى الذين أحبّوا في حياتهم ويبكون في القبور:
ترامى إلى سمعي أنين ينبعث من غابة السرو/سألت نفسي: أيبكي أحد في هذا المكان؟ أم أنها الرياح وحيدة / تردِّد ههنا ذكريات حبّ عتيق؟ ظننت أن الموتى يضحكون/ حين تسدل فوق عيونهم الستارات السود/ أم أن الموتى الذين أحبوا في حياتهم مازالوا، بعد موتهم، ينوحون مع أشجار السرو؟.
بعد احتلال إسطنبول، كتب قصائد ضدّ الاحتلال مواكبة للنضال في الأناضول. درس ناظم لفترة قصيرة في ثانوية جالاتساري في إسطنبول، ولفترة أخرى في مدرسة البحرية التي تركها لاعتلال صحته. وهناك في الأناضول بعد أن غادر إسطنبول الرازحة تحت نير الاحتلال، كان الشاعر الشاب يكتشف أن بلاده تخوض حربها ضد الجيوش اليونانية بخيول هزيلة وأسلحة عتيقة: «اكتشفت الأمة وحربها، ذهلت، خفت، فأحسست بضرورة كتابة كل ذلك بصورة مختلفة، ولكنني لم أفعل. كنت لا أزال بحاجة إلى هَزّة عنيفة أخرى».
(3)
عمل ناظم بالتدريس فترة من حياته في بولو، حيث جعله الاتّصال المباشر بالشعب وبالفلاحين بخاصة، وسماعة المباشر لما يحدث في روسيا السوفياتية، جعله يشعر بضرورة التعبير شعراً عن أشياء جديدة مسكوت عنها. في البداية، كان مهتمّاً بإيجاد شكل جديد يتناسب مع ذلك المضمون الجديد، ثم أصبح المضمون أكثر أهمية بالنسبة له من الشكل. تعرَّف إلى الشعر الروسي الحديث في العشرينيات، كما تعرّف إلى التيارين المستقبلي، والبنيوي، ورغم أنه لم يستوعب أثرهما تماماً، «نجح في صهرهما ضمن نزعته الغنائية التي وسمت أعماله الأولى»
(4).
اكتشف ناظم في آخر الأمر أن النموذج الذي يريده يتحقَّق عندما يكون الشكل متطابقاً مع المضمون «إلى درجة أنني أريد من هذا الشكل أن يعطي المضمون مزيداً من الوضوح، شريطة ألا يصبح هو طافياً على السطح. مثل جورب ناعم يكاد لا يرى، ومع ذلك يزيد من روعة ساق الحسناء الجميلة».
(5)
لذا نجد الشكل يتبدَّل عنده حتى في أقصر القصائد بحسب تموُّجات المضمون وتطوُّراته.
ناظم حكمت هو الشاعر الذي حقَّق الثورة الأهم في الشعر التركي المعاصر، وهو زعيم حركة التجديد التي أفادت من حركة التجديد الفرنسية والحداثة الروسية، جاء بلغة جديدة ومفردات لم يسبق أن استخدمها شاعر قبله، وفي الوقت نفسه هو المناضل الصلب الذي عرف الملاحقة والاضطهاد والمنفى والسجن والموت في الغربة. بعد عمله لفترة قصيرة بالتدريس في مدينة بولو، ذهب إلى موسكو (1922) حيث درس الاقتصاد والعلوم السياسية في «الجامعة الشيوعية لعمال الشرق» لمدة ثلاث سنوات، عاد بعدها إلى بلاده، وفي 1924 حُكِم عليه بالسجن 15 عاماً بسبب قصائده ومقالاته التي كان ينشرها في الصحف، إلا أنه تمكَّن من الهرب ومن العودة مرة أخرى إلى الاتحاد السوڤياتي (1926)، وبفضل قانون للعفو صادر عام 1928 عاد إلى تركيا، إلا أنه وجد نفسه مرّة أخرى (في 1932) في مواجهة حكم بالسجن أربع سنوات لم ينقذه منه سوى القانون العاشر للعفو العام. ظلَّ الشاعر يفرّ من حكم إلى حكم حتى العام 1938 إذ حُكِم عليه بالسجن لمدة 28 عاماً وأربعة أشهر لقيامه بنشاط معادٍ للنازية ولـ «فرانكو»، قضى منها 12 عاماً في سجون مختلفة، قبل أن يُطلَق سراحه على أثر موجة احتجاج عالمية واسعة للإفراج عنه، نظّمتها لجنة في باريس، كان من بين أعضائها «بيكاسو»، و«بول روبسون»، و«سارتر». كانت التهمة المباشرة الموجَّهة إليه هي تحريض جنود البحرية التركية على التمرُّد عن طريق قصائده التي وجدوها معهم، وبخاصة ملحمة الشيخ بدر الدين (نشرت في 1936)، وهي عن فلّاح ثائر على الحكم العثماني في القرن الخامس عشر؛ وقد وصف فيها صديقه «بابلو نيرودا» معاملة السلطات له بعد القبض عليه ومحاكمته وتعذيبه على سفينة حربية، وكيف كان ناظم يقاوم ذلك كلّه بالغناء! نعم بالغناء، فقد استطاع أن يقهر معذِّبيه بترديد أناشيد الجنود ومواويل الفلاحين كما يقول في روايته: «العيش شيء رائع ياعزيزي»
(6).
في رسالة إلى زوجته من السجن، يقول إنه في الأيام الأولى لم يكن يعرف شيئاً عن الذين يشاركونه السجن. لم يكن مسموحاً له بالكلام مع أحد. كان يكلِّم نفسه، وعندما يكتشف أنها ثرثرة ذاتية فارغة يتحوَّل إلى الغناء، وبعد وقت قصير تحوَّل السجن إلى ساحة عمل وإبداع، «فقد حول صمودُه وحبُّه للحياة السجناءَ والسجّانين من حوله إلى أصدقاء» كما يقول «سارتر». كانت قصائده تهرب من سجن «بورصة» لتنشر في أرجاء البلاد سرّاً، ومنها إلى العالم الواسع، بعد أن خصَّص لها «أراجون» زاوية بارزة في مجلة «ليتراتير فرانسيز». أما عن فترة سجنه الثانية التي امتدَّت اثني عشر شهراً متصلة، فيقول إنها بقدر ما كانت مريرة، كانت مبدعة. كان يعرف أنه حتى بعد اندحار الفاشية في الحرب العالمية الثانية، أن فاشية جديدة سوف تظهر، وأن سجنه سوف يطول. كان يوصي بالعمل من داخل السجن، ورغم المرض والأبواب الحديدية، والجوّ الرصاصي الثقيل الذي يطالعه من النافذة، والحَرّ الشديد الخانق في الصيف، ومرض ابنه محمد بالسّلّ، والتواطؤ على قتله بيد بعض السجناء، برغم ذلك كله ظل متفائلاً محبّاً للحياة والناس. وبعد الإفراج عنه في 1950 هرب في قارب صغير خوفاً من محاولة اغتياله. تتذكره «سيمون دي بوفوار» فتقول:
«روى لي ناظم أنه بعد عام من الإفراج عنه كانت هناك محاولتان لقتله بسيارة في شوارع إسطنبول الضيقة، وبعدها حاولوا إرساله لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية على الحدود الروسية بالرغم من أنه كان في الخمسين من عمره، لكن الطبيب الذي فحصه وقال إنه يمكن أن يموت بعد نصف ساعة في الشمس، أعطاه شهادة إعفاء طبي».
هرب ناظم عبر البسفور في ليلة عاصفة قاصداً بلغاريا،حيث التقطته سفينة شحن رومانية، وفي كابينة الضباط وجد نفسه أمام مفارقة ساخرة: ملصق كبير عليه صورته وتحتها عبارة «أنقذوا ناظم حكمت».
والمضحك المبكي، كما يقول، هو أنه كان قد أطلق سراحه قبل عام. في الخامس والعشرين من يوليو/تموز 1951 أُسقِطت عنه الجنسية، وعاش حتى آخر العمر بين «صوفيا» و«وارسو»، وأخيراً «موسكو»، وبالرغم من إصابته بأزمة قلبية حادة ثانية في 1952، كان كثير الأسفار «حاملاً أحلامه معه». ذهب إلى روما، وباريس، وهافانا، والقاهرة وبكين وغيرها.. «الأميركيون فقط هم الذين لم يعطوني تأشيرة دخول»… «كنت مسحوراً بالناس على الدوام» ها هو يخاطب كتّاب آسيا وإفريقيا فيقول:
«إخوتي / لاتنظروا إلى شعري الأشقر/فأنا آسيوي/ لاتنظروا إلى عينيّ الزرقاوين/ فأنا إفريقي / الأشجار عندنا لا تظلِّل جذوعها تماماً كما هي حالها عندكم/ كسرة الخبز في بلادي عالقة بين شدقي الأسد /عند المناهل تنام الغيلان /يأتي الموت قبل بلوغ الخمسين في بلادي أنا /تماماً كما يفعل عندكم…»
ظلَّ ناظم حكمت حتى آخر يوم في حياته محبّاً للحياة وللإنسان، ممتلئاً بالأمل والتفاؤل، لم تستطع قضبان السجون الصدئة أن تمنعه من رؤية أبعد نجم في السماء… «أَحَبُّ وطن إليّ هو الأرض… حين يأتي أجلي، غطوني بسطح الأرض».
قبل وفاته بعامين كتب (في سبتمبر/أيلول 1961)، وكان في برلين (الشرقية آنذاك) قصيدة بعنوان «سيرة ذاتية» ينهيها بعبارات تقول:
خلاصة الكلام أيها الرفاق/
هي حتى لو كنت اليوم سأموت غمّاً في برلين/ فإنني أستطيع أن أقول بأنني عشت إنساناً / أما كم سأعيش/ وماذا ينتظرني../ فلا أحد يعرف!
وقبل وفاته بفترة قصيرة كتب (في إبريل/نيسان 1963) قصيدة بعنوان «مراسيم جنازتي»:
«ستحملون جنازتي من دارنا.. أليس كذلك/ كيف ستنزلونني من الطابق الثالث/غرفة المصعد لن تَتَّسع للتابوت/والسّلَّم ضيّق هو الآخر… قد تكون الباحة مملوءة بالشمس والحمائم /وقد تهطل الثلوج مملوءة بصيحات الأطفال/ قد تهطل الأمطار غزيرة لتغسل الإسفلت/ في الباحة ستكون سلال القمامة واقفة كعادتها /إذا كنتم ستحملونني في الشاحنة مكشوف الوجه /حسب العادة المحلية / فقد يسقط على جبهتي شيء من إحدى الحمامات/ فأل خير!
سواء أتت الفرقة الموسيقية أم لا /فإن الأطفال سيأتون../ الأطفال مولعون بالموتى../ نافذة مطبخنا ستودِّعني بنظراتها/ وشرفتنا سترفع الغسيل المنشور قليلاً حتى أَمُرّ /لقد عشت سعيداً في هذه الدار…/ أيا جيراني.. / أتمنّى لكم جميعاً عمراً مديداً…»
وفي السابع من مارس/آذار 1963 توقَّف قلب الشاعر الإنسان، تلك التفاحة الحمراء على أثر أزمة قلبية ثالثة. لم تودِّعه نافذة المطبخ بنظراتها، ولم ترفع الشرفة الغسيل المنشور قليلاً حتى يمرّ جثمانه. دُفِن ناظم حكمت في موسكو. وتصاعدت الحملة التي كان يقودها شقيقه في تركيا لإعادة الاعتبار والجنسية إليه واستعادة رفاته لكي يضمّ تراب قرية صغيرة من قرى الأناضول جسد شاعر إنسان، عاش الحياة نضالاً وشعراً، ولم يعشها نزوة عابرة.
الهوامش
(1) من مقدمته للأعمال الشعرية الكاملة (الجزء الأول) – ترجمة فاضل لقمان – دار الفارابي – 1987.
(2) أدونيس – من كلمته في حفل تسلُّمه جائزة ناظم حكمت الدولية للشعر – إسطنبول – 15 يناير/كانون الثاني 1995.
(3) من مقال أملاه ناظم حكمت على صديقه الناقد الروسي أكبر باباييف (نوفمبر/تشرين الثاني 65) لإحدى دور النشر الإيطالية لكي يتصدَّر مجموعة أعماله الكاملة.
(4) عبده وازن – مقال بعنوان «كيف نقرأ اليوم الشاعر الذي أحدث ثورة في الشعر التركي والأممي؟» – جريدة الحياة – 27 يناير/كانون الثاني 2002.
(5) مصدر سابق (رقم 3).
(6) توجد لها ترجمة عربية بقلم نزيه الشوفي – دار الحقائق – دمشق – 1989.
ملحوظة: الاقتباسات والقصائد المتضمّنة في المقال من ترجمة فاضل لقمان.
_________
*مجلة الدوحة