الترجمة: معنى أم تقنية؟


*صلاح نيازي


يبدو أنّ الرعيل الأوّل من المترجمين، كالمنفلوطي، أوفيلكس فارس، أو أحمد رامي في العربية، وفيتزجيالد في ترجمة الخيّام، أو ريتشارد بيرتون في ترجمة ” ألف ليلة وليلة” في الإنكليزية، كانوا معنييّن بالدرجة الأولى بنقل المعنى. وسواء فهموا اللغة الأجنبية مباشرة، أمْ عن طريق مَنْ يفسر لهم النصّ فإنهم وضعوه في لغتهم الأمّ، وضعاً سليماً فنال القبول وانتشر. غير أنّ المترجم الحديث لا يكتفي بنقل المعنى فقط، وإنّما يسعى إلى نقل التقنية التي قيل بها النصّ. بكلمات أخرى،كان المترجم السابق يسأل نفسه: ما الذي قاله المؤلف؟ بينما يسأل المترجم الحديث نفسه: كيف قاله؟ أيْ كيف عبّر المؤلف عن فكرته؟ أي ما هي التقنيات التي توسّلها في إظهار المعنى؟
يمكن أن نضمّ إلى هذه المدرسة المعنية بالمعنى والغافلة عن التقنية، مترجميْن نالا شهرة واسعة هما: جبرا إبراهيم جبرا، وطه محمود طه.كلاهما كرّس من حياته سنين طويلة للترجمة، وكلاهما درّس مادّة الترجمة في الجامعات، إلاّ أنهما، جبرا في ترجمة بعض أعمال شيكسبير، وطه في ترجمة يوليسيس اجتهدا في ترجماتهما اجتهادات من الصعب قبولها، أو إساغتها، ذلك لأن أهمّ ما بشيكسبير تقنياته، وأهمّ ما بجيمس جويس أساليبه المنوعة في التعبير. إلاّ أن ّ المترجميْن أهملا تلك التقنيات التي تميّزهما، فركّتْ ترجمتُهما وخلت أو كادتْ، من النبض والروح والتفاعل.
ما هي تلك التقنيات؟ وهل يمكن التعرّف عليها؟ ولماذا أصبحتْ مهمةً أو في غاية الأهمية، في العصر الحديث؟ ولكنْ قبل ذلك لنتعرّفْ على بعض الأوهام التي وقع فيها المترجمان المشار إليهما أعلاه ولماذا؟
من المحيّر، كيف يقع مترجم مقتدر كالمرحوم طه محمود طه في زلاّت ترجمية لا تتناسب وتضلعه من اللغة الإنكليزية أو تمرسه في الترجمة. زلاّت وليست اجتهادات، لأن الاجتهاد في أبسط تعريفاته، تفضيلُ حالةٍ على حالةٍ أو حالات.
حرصاً على عدم إفلات خيط الموضوع من أيدينا، ستقتصر هذه المقالة على النظر في ترجمة الجزء الثامن من يوليسيس أو على قسم منها، لطول الاختلافات وتنوعها، بالمقارنة مع ما جاء من شروح في كتاب: “Ulysses Annotated”، قام بها Don Gifford و .Robert J.. Seidman
هذه المقالة مدينة جملة وتفصيلاً في الشروح والتعليقات إلى الكتاب أعلاه.
فاتت مترجمنا المرحوم طه معاني الكلمات العامية، ولا سيّما الإيرلندية التي استعملها جويس، وكذلك المصطلحات الدارجة و الأمثلة الشعبية. من ذلك مثلاً أنّ جويس وصف رئيس إحدى كليات دبلن بأنّه: TINNED وهي تعني في لهجة دبلن الدارجة أيضاً: لديه نقود: غني، إلا أنّ المترجم تصوّرها معلب. ومن باب الصدف أنْ كان اسم ذلك الرئيس: سلمون (نوع من السمك). ربما هذا ما زيّن للمترجم أن يضع الصيغة العربية على الشكل التالي: “منْزل…الدكتور سلمون: سلمون معلّب مترب. مترب معلّب جيّداً من الداخل”.
كيف يكون الشخص معلباً؟ ولماذا أضاف المترجم: مترب؟ أمّا ما قاله:”مترب معلّب جيّداً في الداخل فزلّة أخرى. ذكّر المنْزلُ، بلوم بكنيسة حفظ الجثث، فرغم صرامة هندسته من الخارج إلاّ أنّ داخله مترف وأنيق. الترجمة الصحيحة هي أنّ: “منْزله يشبه كنيسة حفظ الجثث”. أدناه النص الإنكليزي:Provost ‘s house. The reverend Dr. Salmon: tinned salmon.Well tinned in there. Like A mortuary chapel.
كان جويس يصف زمرة من البوليس، ويذكر أنّ أفضل هجوم على أيّ منهم هو بعد تناولهم حلوى ” البودينغ” مباشرة لأنهم يكونون متخمين. سخر جويس من طريقة أكلهم الهمجية فقال: Prepare to receive” cavalry. Prepare to receive soup”.. هذا التعبير إنّما هو أمر يصدر لمفرزة مهددة بالغزو، حيث يتوجب عليهم اتخاذ وضعية الدفاع، عندئذ “يركع الجنود في الصفّ الأمامي على إحدى الركبتين والبندقية بحربتها المائلة إلى الأمام، وعقبها مسند على الأرض”.
يبدو أنّ المترجم لم يفهم ما المراد من هذه السخرية من البوليس، فجاءت ترجمته كالتالي: “استعدْ لملاقاة الفرسان، استعد لملاقاة الحساء”. وهكذا فبالإضافة إلى عدم استيعاب مغزى التعبير، فإن المترجم غيّر المخاطبين من الجمع إلى المفرد.
من التعابير الأخرى التي فاتت معانيها على المترجم ما يلي:
1-On the baker’ s list أيْ: على ما يرام. يقال هذا، جواباً عمّنْ يسأل: كيف الحال؟. إلاّ أنّ المترجم ظنّها تعني:”لا يشبع من الأكل”.
2-Turn up like a bad penny: وتعني: تفاصيل مزعجة لا معنى لها. ظنّها المترجم: “كالعملة الرديئة تلفّ وتدور”
3-He has me heartscalded: ومعناه: يسبب وفاتي وهو ما يزال قيد الاستعمال بدبلن. ظنّها المترجم: “سمّم حياتي”
على أية حال، كثيراً ما يقتبس جويس من أغاني الأطفال، ومن الأغاني الشعبية أيضاً. وطالما كان يمزج كلمات أغنية بأخرى مما أوقع المرحوم طه باجتهادات غريبة. من ذلك مثلاً: Gammon & spinach””. ظنّها المترجم تعني: “سمك لبن تمر هندي”. الصواب: هذا تعبير عامّي يعني: مجريات يومية عادية، على غرار ما جاء في الأغنية الشعبية: المقطع الأوّل: “ضفدع ينطلق لصيد الأصوات/ هايْ هوْ قال رولي/ ضفدع ينطلق لصيد الأصوات/ سواء رضِيَتْ أمّه أمْ لا/ مع دجاجة مكتنِزة وفخذ خنْزير وسبانخ Gammon & spinach هايْ هوْ!قال أنتوني رولي.” 
من الأغاني الأخرى التي اقتبس منها جويس، أغنية من كلمات آني كروفورد. كان جويس يصف البروفسور غوردن في آخر حفلة موسيقية له مع مولي زوجة بلوم، فقال: ” بالتأكيد آخر ظهور له على أيّ مسرح “ربّما لأشهر وربّما إلى الأبد”. يعيد جويس هنا صياغة الأغنية: “آه هل نسيتِ أننا سننفصل بعد وقت قصير/ آه، هل نسيتِ أننا سنفترق هذا اليوم/ قد يكون فراقنا لسنين وقد يكون إلى الأبد/إذنْ لماذا أنتِ صامتة ياكاثلين مافورنين؟” إلاّ أنّ المترجم لم يفطن إلى الأغنية فترجمها: “ربما في غضون أشهر، وربّما في المشمش”.
قد تكون اقتباسات كهذه صعبة على كلّ مترجم. الأسلم هو الرجوع إلى المصادر المتخصصة. من تلك الصعوبات على سبيل المثال، ما جاء في الحوار ما بين المسز برين والمستر بلوم، وكانت قد أرتْه بطاقة تسلّمها زوجها صباحاً:
“- ما هذا؟ تساءل المستر بلوم، متناولاً البطاقة؟ U.P?
-U.P: UP قالت. شخصٌ ما أراد أن يظهر عجزه. عار عظيم عليهم كائنْ مَنْ كان”
قال المرحوم طه في ترجمة المقطع أعلاه:
” – وما فيها؟ سألها مستر بلوم وهو يتناول البطاقة. م. س.؟
-م.س. مس. قالت. واحد يحاول أنْ يسخر منه. وهذا عار منهم مهما كان الفاعل”
أيْ أنّ المترجم فسّر U.P ب: “م. س. مس” ، ولكن ما معناها؟ ما المقصود بهذه الحروف؟
المعنى أنUP صفة لشراب الويسكي إذا كان تحت المستوى القانوني المطلوب.استعمل أحد تلامذة الصيدلة تعبير: UP للإعلان عن موت وشيك، لامرأة عجوز. وفي الترجمة الفرنسية ليوليسيس ترجمت البطاقة على النحو التالي: Fou Tu: أيْ أنتَ مجنون: كنتَ سكرانَ. 
جاء في الرواية وصف لزوج بيورفوي:
“Poor Mrs Purefoy! Methodist husband. Methodist in his madness” 
صاغ المرحوم طه ترجمة السطر على الوجه التالي: “مسكينة مسز بيورفوي! وزوجها الميثودي المنهجي. منهجيّ في جنونه”.
جويس يومئ بهذا المصطلح Methodist إلى الفصل الثاني – المشهد الثاني 207 –208 من مسرحية هاملت، وفيه يتظاهر هاملت بالجنون، أمام بولونيوس مستشار الملك الذي بعثه لمعرفة أسباب سلوك مكبث الغريب مؤخراً. كان هذا المستشار متخماً بالألفاظ الجوفاء والبلاغة الفارغة.قارع هاملت لغة بولونيوس الجوفاء بأشدّ منها، جَوَفاً، مع حركات غير سويّة.استغرب بولونيوس، فقال ملاحظة على جانب: “على الرغم من أنّ هذا جنون، إلاّ أنّ فيه نظاماً”.
______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *