علي محمد سليمان
تلقّف العرب أطروحة نهاية عصر الكتاب والقراءة الذي راج في العالم في التسعينيات بشغف واهتمام يثيران الدهشة.
ففي مجتمعات لم يكن فيها الكتاب يوماً جزءاً من الحياة اليومية، ولم تكن القراءة ثقافة متأصّلة في السلوك الفردي، لا قبل ثورة الاتصالات ولا بعدها، بدا الأمر وكأن غياب الكتاب والقراءة، ليس سوى نتيجة لما يحدث في العالم من تحوّلات ثقافية.
لم يتمكن، في الحقيقة، أحد من إعلان موت الكتاب رغم حُمّى النبوءات التي اجتاحت الثقافة العالمية في العقد الأخير من القرن الماضي. نبوءات بدأت بنعي التاريخ واستسلمت لغواية العناوين، فأخذت تعلن نهايات وأفول الأسس التي قامت عليها الثقافة الحديثة، فيما بدا وكأنها احتفالية غامضة بتتويج ملك عارٍ.
لم يكد العقد الأول من القرن الجديد ينتصف، حتى ظهر للكثيرين ممّن نظّر وروّج لثقافة النهايات، أن الكتاب هو الطفل الذي صرخ في وجه الجميع: إنّ الملك عارٍ، وإنّ علاقة البشر بالثقافة لا يمكن تصنيعها وتعليبها بكل تلك البساطة التي توهّمتها إمبراطوريات صناعة الترفيه الكبرى. فلا المسرح ولا الموسيقى ولا الأدب، ولا غيرها من أنماط التعبير الثقافي، يمكن أن تختفي من قائمة ضروريات الحياة الإنسانية.
كانت الفكرة التي انتشرت في التسعينيات تفيد بأن عصر الكتاب قد انتهى؛ بسبب ثورة وسائل الاتصال الرقمية. وَجدت هذه الفكرة من القلق الذي سبّبه طغيان صناعة الترفيه على الاقتصاد والحياة الاجتماعية وأنماط السلوك الفردي، بيئةً مناسبة لتتحوّل إلى موضوع شغل المفكّرين والمؤسّسات الثقافية، ثم ما لبثت أن تحوّلت إلى مادة إعلامية رائجة، تمكّنت مراكز القوى الكبرى في صناعة الترفيه والإعلام من تسييسها بشكل منهجي، لفرض نبوءة نهاية الكتاب على الوعي العام.
ما حدث، في حقيقة الأمر، كان مختلفاً تماماً عن كل ما روّجه الإعلام. ففي الوقت الذي كان العالم يعيش تحوّلات ثقافية كبرى، كان البشر يقرؤون ويُقبلون على الكتاب، كما لو أن كل تلك الضجة التي تحذّر من عصر أمية جديد، وذلك البكاء الذي يعلن موت الكتاب، إنما يحدثان في عالم آخر. بل إن العديد من الدراسات والإحصاءات أظهرت في منتصف العقد الأول من القرن الحالي زيادة غير مسبوقة في عدد الكتب المطبوعة، وإقبالاً على القراءة من قبل الشباب.
حدث هذا في أوروبا على وجه الخصوص، حيث لم تتراجع شعبية معارض الكتب الكبرى، بل إنّ مراجعةً لما نشرته شركات بيع وتسويق الكتاب فاجأت المتابعين؛ حيث تبيّن أن سوق الكتاب يطلب الأعمال الأدبية الكلاسيكية في طبعات جديدة مناسبة للشباب مثلاً، وأن فرضيات عزوف الأجيال الشابة عن القراءة وخفوت نجم الكتاب لصالح ثقافة الوسائط المتعددة ليست سوى خرافات تم تصنيعها في مختبرات الثقافة الكونية الجديدة، لم تلبث أن تلاشت أمام نزوع الإنسان نحو المعرفة.
لا ينفي هذا أن ثقافة القراءة في العالم تعرّضت إلى تحوّلات، وأنّ طبيعة الحياة المعاصرة فرضت نفسها على علاقة القارئ بالكتاب، وأن التقنيات الرقمية أصبحت جزءاً من عملية إنتاج الكتاب واستهلاكه كمنتج ثقافي وسلعة اقتصادية.
إلا أن الواقع كشف قدراً كبيراً من التزييف والهشاشة في ما ساد من قناعات وأفكار تنبّأت بزمن تنتهي فيه الحاجة إلى القراءة. حدث هذا في أنحاء مختلفة من العالم بدرجات وأشكال مختلفة، ولم يكن العالم العربي بعيداً عن هذا المسار، رغم اختلاف الظروف.
في هذا السياق، اجتاحت القنواتُ الفضائية المجتمعاتِ العربية، واستولت أسواق الإنتاج التلفزيوني على مساحات التعبير والتواصل في الفضاء الاجتماعي.
وقد لعبت النخب الثقافية دوراً ملتبساً في حمّى الصورة الجديدة. فانطلاقاً من فرضية أن التلفزيون سلاح ثقافي فعّال في مجتمعات أمّية، انخرط العديد من المثقفين والمبدعين العرب في لعبة الإنتاج التلفزيوني كتابة وإعداداً وترويجاً، وكثيراً ما برّروا هذا التوجّه بأن التلفزيون بديل للكتاب في عصر غزت فيه الشاشات كل مساحات الحياة.
في حمّى النجاحات الاقتصادية لشركات الإنتاج والتوزيع، تراجعت كل أشكال الإنتاج الثقافي والإبداعي أمام طوفان من المسلسلات كرّس وهماً خطيراً في الحياة الثقافية. هل يستطيع التلفزيون أن ينتج ثقافة؟ أليست كارثة أن تُوكَل مهمة إنتاج القيم والجماليات والأخلاق إلى نشاط ترفيهي اقتصادي وحيد هو الإنتاج الدرامي؟
لم يكن من الممكن مواجهة هذه الأسئلة بجدية، في غياب الثقافة ذاتها عن حياة المجتمعات العربية التي تحوّل فيها الشباب، على مدى عقدين، إلى جماهير تتكدّس أمام الشاشات.
لكن انفجار المجتمعات العربية في مطلع العقد الثاني من هذا القرن؛ أظهر بشكل واضح كم أن أوهام الثقافة التلفزيونية حفرت عميقاً في عقول الشباب، مُخلّفةً فيها فجوة من العوز والفقر الروحي والإنساني. فبعد عقدين من أوهام تلفزة الثقافة، وجدت هذه المجتمعات نفسها أمام هاوية سحيقة من الفراغ القيمي والأخلاقي والثقافي.
العربي الجديد