*محمود شقير
خاص ( ثقافات )
أيام متعاقبة
1
لم يتوقف انهمار المطر طوال اليوم، مطر مدرار يهطل في عز الصيف.
فكرت في الذهاب إلى مركز المدينة بعد الظهر، غير أن المطر حال دون ذلك.
يقصف الرعد بشدة، وتهطل أمطار غزيرة. (في كارولينا الشمالية ثمة إعصار قوي). قالت إحدى نشرات الأخبار إن انفجاراً وقع في تل أبيب. قرأت بعض القصص القصيرة باللغة الانجليزية، ثم كتبت قصة قصيرة جداً.
جرحت إبهام يدي وأنا أقطع بالسكين حبة بندورة. شعرت بالملل من تحضير الطعام وجلي الصحون، لكنني شعرت بارتياح لأنني أحافظ على نظافة المطبخ. نزلت إلى السوبرماركت، اشتريت خبزاً وماء، وبطاقات من ورق مقوى لتدوين الملاحظات، ولكتابة القصص القصيرة جداً. اتصلت هاتفياً بابن أختي باسل المقيم في مدينة هيوستن. لم يكن في البيت، تركت له رقم هاتفي كي يتصل بي. هاتفت صديقي القديم محمد السلحوت، المقيم أيضاً في هيوستن منذ سنوات طويلة، تبادلنا حديثاً خاطفاً حول ذكرياتنا المشتركة، دعاني إلى زيارة هيوستن، قبلت الدعوة وشكرته على ذلك.
2
وصلت كاتبة من كوريا الجنوبية، وهي امرأة نحيلة دائمة الحركة مثل فراشة.
إنها في الثامنة والعشرين من عمرها، تبادلنا حديثاً عابراً ثم افترقنا.
ذهبتُ إلى اجتماع الساعة الواحدة والنصف الذي انعقد في الطابق الذي نقيم فيه. لم يدم الاجتماع سوى بضع دقائق، (هكذا هي اجتماعاتنا: بضع دقائق ثم ينتهي كل شيء، وهكذا هي أغلب اللقاءات كذلك) تمّ تذكيرنا بالندوات التي سوف نشارك فيها في الأسابيع القادمة.
عدت من الاجتماع إلى غرفتي. وضعت أوراقي فيها ثم خرجت، تمشيت في الشارع المحاذي للسكن الجامعي خمس عشرة دقيقة. ما زالت الأرض المكسوة بالعشب الأخضر، مرنخة بمياه الأمطار التي هطلت يوم أمس وهذا الصباح بغزارة.
أعددت لنفسي طعام الغداء: قطعاً من اللحم المشوي فوق نار الفرن. احترق اللحم في المقلى، وانتشر دخان كثيف في المطبخ وغرفة النوم، ما أدى إلى انطلاق صفير حاد من جهاز إنذار ضد الحريق مثبت في سقف الغرفة. لم يتوقف الصفير إلا بعد أن فتحت النافذة وسمحت للدخان بالتسرب إلى الخارج. شعرت بالخجل لهذا الإزعاج الذي سببته لمن سمعوا جهاز الإنذار، وهم كثيرون كما أعتقد.
غادرت الغرفة بعد الغداء. وجدت الكاتب الفيتنامي “هاي” ينتظر الحافلة أمام السكن الجامعي. هاي ينتظر ويتلفت في كل اتجاه، وثمة مجموعة من الفتيات يجلسن على درجات المبنى، بالبنطلونات القصيرة أكثر مما ينبغي، يجلسن للتدخين وللثرثرة والضحك. جاءت الحافلة ومضينا معاً، أنا وهاي، إلى مبنى كلية الفلسفة التابع لجامعة أيوا، لحضور ورشة الترجمة المقرر انعقادها في الساعة الثالثة والنصف. (هاي في الثلاثين من العمر، من سايغون، يكتب القصة القصيرة بأسلوب متميز. ستأتي أخته التي تعمل في نيويورك لزيارته بعد أسابيع، وستأتي صديقته الفيتنامية لزيارته أيضاً)
وجدت الكاتبة الكورية “كانغ هان” هناك، وثمة عدد من الكتاب الضيوف والكاتبات وبعض الطلاب والطالبات. لم يستغرق اللقاء سوى بضع دقائق، حيث تم التعارف بيننا، ثم انتهى كل شيء. اقترحتُ على كانغ أن تذهب معي إلى مكتبة بريري لايتس لشراء بعض الكتب. ذهبنا مشياً على الأقدام، غير أننا سرنا في الاتجاه الخاطئ، سألنا بعض المواطنين الأمريكان عن المكتبة، أرشدونا إلى الطريق الصحيح. كان ذلك سبباً للتندر على جهلنا بالمكان. اشتريت بعض الكتب من بينها رواية “هوية” لميلان كونديرا. جلسنا في المقهى التابع للمكتبة. كانغ قليلة الكلام ولها ابتسامة خافتة ترتسم على وجهها باعتدال. غادرنا المقهى واتجهنا إلى موقف الحافلة، صعدنا إليها وعدنا إلى السكن الجامعي، وكان الوقت مساء.
في المساء التالي، سنذهب إلى حفل استقبال يقيمه في بيته، البروفيسور ستيف أونغار، المشرف الأول على برنامج الكتابة الدولي، وهو أمريكي من أصول تشيكية، له بيت فخم في ضواحي المدينة، محاط بأشجار وبأرض شاسعة خضراء. سيجيء عدد كبير من المدعوين والمدعوات. تجيء أولغا الشقراء، تشرب ما طاب لها من البيرة، تضحك بدلال وتستعين بما تعرفه من مفردات قليلة من اللغة الانجليزية، للتعبير عما تشعر به من انبساط. تجيء طالبة سورية اسمها لانا موسى، تقيم في أيوا وتواصل دراساتها العليا في جامعتها. لانا لا تعرف سوى القليل من مفردات لغتها الأم، وهي تضحك ببراءة لأقل سبب. اقترحت عليها الأستاذة المشرفة على ورشة الترجمة أن تعمل معي في مجال ترجمة قصصي إلى اللغة الانجليزية، وافقت لانا ووافقت أنا بطبيعة الحال، مع أنني بقيت متشككاً في مدى قدرتها على القيام بهذه المهمة.
سنعود من بيت البروفيسور حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً. سأشعر بشيء من هدوء البال، ولا أسمع شيئاً من أخبار الوطن إلا ما تجود به محطات التلفزة الأمريكية، وهو قليل جداً. سأقرأ بضع صفحات في رواية كونديرا ثم أنام.
3
طقس رائق تماماً، لا مطر ولا غيوم في السماء، واليوم هو الأحد.
بقيت في غرفتي حتى الخامسة بعد الظهر. أكملت قراءة “هوية” لميلان كونديرا. إنها رواية جيدة، فيها تصوير بارع لانغلاق الإنسان الغربي المعاصر على نفسه، ووقوعه في التباس الهوية، وعدم فهم الآخرين من حوله، بسبب إفراطه في ممارسة فرديته.
ذهبت إلى مركز المدينة. كان الطقس حاراً، والناس يتمتعون بيوم العطلة الأسبوعية وينتشرون في المتنزه الذي يمتد أمام السكن الجامعي، ويخترقه نهر أيوا الذي يضفي على المكان رونقاً.
دخلت مكتبة بريري لايتس. اشتريت كتابين، واحداً لأكتافيو باث عن الحب والجنس، والآخر لميلان كونديرا عن فن الرواية. غادرت المكتبة وتمشيت في شوارع المدينة. المحلات التجارية والمقاهي مغلقة ما عدا القليل منها. تعرفت صدفة إلى بعض العرب والفلسطينيين في الشارع، تحادثنا بعض الوقت، تبادلنا العناوين وأرقام الهواتف، ثم افترقنا.
بحثت في مكتبة الجامعة عن كتاب “صدام الحضارات” لصموئيل هانتنغتون ولم أجده، لأن أحد المشتركين في المكتبة استعاره. (سأشتريه مترجماً إلى العربية بعد ذلك بسنة من مكتبة مدبولي في القاهرة)
الساعة تقترب من الثامنة والنصف مساء. مشيت على رصيف الشارع متجهاً نحو السكن الجامعي، ثمة أعداد من الطالبات والطلاب يتجمعون أمام إحدى بنايات الجامعة، يتمازحون ويدخنون السجائر، وهم محاطون بهالة من الهدوء والدعة. غبطتهم على ما هم فيه، وواصلت السير. لم يكن ثمة أحد يسير على الرصيف. بدا الرصيف موحشاً، توجست قليلاً، خوفاً من مفاجأة غير محسوبة، على رغم ما يؤكده الكثيرون هنا من أن هذه المدينة آمنة، لا توجد فيها عمليات سلب أو نهب.
بقيت ساهراً حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
4
ماري نازاريث التي تنحدر من أصول هندية، امرأة في الخمسين من عمرها أو أكثر قليلاً، نحيفة ولها عينان فيهما سواد لافت للانتباه، وهي مخلصة في أداء عملها، حينما أراها أتذكر امرأة تشبهها من نساء عشيرتي، فأشعر بارتياح وأنا أتحدث معها.
في الصباح، ذهبنا صحبة ماري إلى محل لبيع الملابس القديمة. لم يعجبني شيء هناك. آيتي الأوغندية، ابنة الثمانية والعشرين عاماً، المتدفقة حيوية، اشترت معطفاً بدولارين. هاي الفيتنامي، المرح الساخر، اشترى رواية لنورمان ميلر بخمسة وعشرين سنتاً، (عثر عليها صدفة بين عدد ضخم من كتب المغامرات التافهة). البورمي مينت، الذي يتكاثف شعره الأشيب فوق جبينه، اشترى معطفاً ربيعياً بستة عشر دولاراً، وبدا مغتبطاً به.
في المساء، انزاح عن كاهلي حمل ثقيل. كان عليّ أن أشارك في ندوة حول “الأدب والهوية” في إحدى قاعات الجامعة، بالاشتراك مع بياتريس الألمانية، آيتي الأوغندية، وكانغ هان الكورية. قدمنا المداخلات أمام حشد غير كبير من الطلاب والطالبات. (كان ثمة عدد من الطلبة الفلسطينيين الدارسين في أيوا، وقد سررت لحضورهم) بعد الندوة، ذهبت صحبة كانغ وآيتي إلى مركز المدينة. شاهدنا فرقة من هنود جنوب أمريكا تعزف ألحانها في الساحة العامة. وجدنا الكاتبة التركية أرنديز التي تصغرني بعامين، تجلس على مقعد للاستماع إلى الفرقة. (تعمل طبيبة في مستشفى بمدينة استانبول، مطلقة ولها ابنة شابة. لديها نزعة نسوية، تكتب القصة القصيرة والرواية) جلسنا وتابعنا أنغام الفرقة، ثم تفرقنا كلٌّ في اتجاه: أرنديز عادت إلى السكن الجامعي، آيتي وكانغ ذهبتا للتمشي في شوارع المدينة، وأنا اتجهت إلى مكتبة بريري لايتس. اشتريت ثلاثة كتب، كتابين لإكتافيو باث ورواية لكاتب أمريكي هندي اسمه أليكس شيرمان. صعدتُ إلى المقهى في الطابق الأول، ثمة بنات جامعيات يجلسن في المقهى، يقرأن كتباً ومجلات، ثمة موائد يجلس إليها طلاب وصديقاتهم، يثرثرن معهم بخفوت وانسجام، شربت شاياً وأكلت قطعة من الكعك. كتبت قصة قصيرة جداً وأنا جالس هناك.
في تمام الثامنة، انعقدت ندوة في المكتبة لمناقشة كتاب حول البيئة لكاتب من أيوا، لم أفهم شيئاً مما قاله الكاتب لأنني كنت مرهقاً. جاءت آيتي وكانغ. جلستا في الصفوف الخلفية إلى أن انتهت الندوة، ثم عدنا جميعاً إلى السكن.
يتبع
_______
*روائي وقاص من فلسطين