كونديرا.. حفلة تفاهة!



*مازن معروف



«حفلة التفاهة»، والتي صدرت عن المركز الثقافي العربي بترجمة معن عاقل، ترتكز على الأحداث أو الظواهر التالية: سرة البطن ودلالاتها الجنسية والوجودية، المغزى من عرض لوحات شاغال في متحف حديقة اللوكسمبورج، ادعاء مرض ما، ستالين وقصة اصطياده بمفرده أربعة وعشرين حجلاً، تسمية مدينة ألمانية باسم كالينين العسكري الروسي، «حنان» ستالين، عدم رغبة امرأة (والدة آلان إحدى شخصيات الرواية) في أن تحبل ومن ثم اختفائها (أو رمزياً، «موتها») بعد مجيئه إلى العالم، جدوى الاعتذار، ابتكار لغة متخيلة طلباً للمرح، تحطم زجاجة كحول، «إشكالية» ريشة صغيرة تحلق فوق رؤوس مدعوين في حفلة، إطلاق النار على تمثال ملكة فرنسا.
أحداث خافتة
كونديرا، وانطلاقاً من هذه الأحداث الخافتة، يبدو كما لو أنه منساق خلف مشاهدات يومية تستنفر ملكته الروائية. لا خلف ما يتحتم عليه، كروائي كبير اليوم، وفرد في عالم ضاج، أن يعاينه. جملته الذكية «أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريان البائس إلى الأمام. لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة. ألا نأخذه على محمل الجد»، لا تبرر له تجاهله ــ كونديرا ــ لقضايا الحياة الكبرى ووقوفه بالتالي على كتابة روائية مترفعة، تستخلص الأحكام وفي الوقت عينه تستطيع أن تتجرد وأن تخرج ظافرة كونها سجَّلتْ موقفاً ما.
فالشخصيات التي يسلط كونديرا الضوء عليها، منسحبة في شؤونها الصغيرة، وهي نزيلة قلقها المثبّت في معيار ما. قلق لا يريد له كونديرا أن يتنامى، لأن هذه الشخصيات لن تمر بانعطافات حياتية مهمة، فلا تغييرات درامية كبرى، ولا انفتاح على تجارب جديدة. آلان منهمك في مراقبة سرة الفتيات ومنشغل بسؤال حول أمه الغائبة التي حبلت به غصباً عنها، كما لو أن والده ــ زوجها ــ غشّها، ورامون يتأمل الطوابير الطويلة أمام متحف مجاور لحديقة اللوكسمبورج يعرض اعمالاً لمارك شاغال، ودارديلو يكتشف أنه ليس مصاباً بالسرطان، لكنه مع ذلك يدعي إصابته بذلك المرض، وشارل يحلم بمسرحية للعرائس، وكاليبان ساع إلى المرح والحب. هذه هي الشخصيات الأساسية في الرواية. ولن يفسح لها كونديرا المجال لأن تتفاعل مع ظواهر الحياة الأكثر إلحاحاً. كما لو أن حياتها لا تحدث إلا من أجل أن تبقى في دائرة السؤال عن الفكاهة والمرح والتفاهة. لذلك، تظل شخصيات أنانية، منغلقة، تختزل كل العالم، وتتصرف كما لو أن العالم أجمع، مُختزَلٌ بها. فتجاربها الذاتية وظروفها العائلية مثلاً تحدد الأحكام الوجودية والفلسفية التي تطلقها على مسامعنا، وهي أحكام نشعر كما لو أنها كاموفلاش أو تمويه لأحكام كونديرا نفسه، الروائي السئم، المتذمر والناقم، والمستبعد رغم تجربته الروائية الكبيرة، عن قوائم نوبل للآداب.
ولأن قصصها الفردية لا تفضي إلى أي مكان، فإنها شخصيات تظهر بائسة، منزوعة السلطة والإرادة، أكثر مما هي تافهة. كأننا أمام مجموعة من المنذهلين الذين أخرجوا من القرن الواحد والعشرين وأُسقِطوا في الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، الحقبة التي برأينا، لو التزم بها كونديرا، كزمن للرواية (بإقصائه معرض شاغال الذي حدث بالفعل في متحف قرب حديقة اللوكسمبورج قبل سنوات)، كان يمكن أن تكون أكثر تجانساً مع الأحداث والحوارات التي نقرأها والتي تميل إلى التنظير السريع والحاسم. ما يُذكِّر، حين ننظر إلى مناخها بشكل عام، برواية «الجبل السحري» التي تزيد على ألف صفحة، للكاتب الألماني توماس مان، والتي تدور أحداثها في مصحة لأمراض الرئة، ونشهد فيها حوارات تتسم بهوى أيديولوجي، في السياسة والوجود والأديان واليسار والاشتراكية والمرض والموت والحب غير المنجز والرغبات من بعيد، دون أن تغيب النبرة الإحتجاجية عند طرح أي من هذه النقاط أو تبادلها. وهي كلها تتطرق لها «حفلة التفاهة» وإن برمزية وميل نحو استنباط الخلاصات الكبيرة.
فالحقيقة الجوهرية، و«الغاية في التفاهة»، كما يرد على لسان والدة آلان، هي أن أحداً في العالم ليس موجوداً بإرادته. حقيقة لا يريد البشر رؤيتها ولا سماعها. كما أن مسألة حقوق الإنسان هذيان بهذيان، حيث إن وجود امرئ ما في العالم لم يتأسس على أي حق. وأن «فرسان حقوق الإنسان» لا يسمحون لأي كان بأن ينهي حياته بإرادته. فالأم هنا، يوظف كونديرا حضورها، لكي تعتذر. إنها، ولحجم موقفها الوجودي الصادم، أم رمزية، أم أرادها الكاتب أن تكون صوت جميع الأمهات معاً، لا أماً متخيلة ولا أماً لشخصية متخيلة كذلك. هنا في الرواية، تعتذر الأم لأنها «أرسلت» شخصاً إلى العالم دون أن يطلب هو ذلك. فهي تعتبر بأن ابنها موجود بسببها، بسبب ضعفها. لو لم تضعف لما كانت حملت من زوجها وأنجبت. في هذا الموقف الذي تعلنه أم غير مرئية، نكون على علم بأن أماً أخرى تحتضر. لحظتان يجيد كونديرا جدلهما ببعض بحيث يصبح موت أم واعتذار أم أخرى لاغيين لبعضهما. تنتفي قيمة هذا الحدث بذاك. فإلى أي من كلتا الأمّين سيميل القارئ؟ هذا هو السؤال الذي تتركه اللحظة الروائية تلك في ذهن القارئ، ونيابة عن كونديرا نفسه. كذلك، فإن النظرة إلى المجتمع ككم جمعي يسير بلا مواقف فردية تجعل رؤية كونديرا متحاملة بعض الشيء. إحدى الشخصيات تعتبر مثلاً أن الناس حين يزورون معرضاً ما، فإن ذلك لأنهم يريدون قتل الوقت لا أكثر. هذه ليست دعابة، ولا موقفاً متوازناً. أحكام كهذه يمكن تفنيدها بأسئلة بسيطة من قبيل: «لماذا لا يكون الناس مهتمين فعلاً بالمعارض، ساعين لتعزيز معرفتهم وتواقين للانحياز للجمال المرئي، الذي يحمل لهم طاقة إيجابية وأملاً ما؟
رموز أيديولوجية
لكن كونديرا، يمنح وإلى حد استفزازي، حيزاً كبيراً لرموز أيديولوجية أو فلسفية لأن تتدخل في أصوات الشخصيات وتزاحمهم في حضورها، كستالين، كالينين، خروتشوف، كانط وشوبنهاور. ما يجعل من الرواية في مرحلة، تشبه حشداً صغيراً من النظريات والمراجعات الفلسفية. كما لو أن الكاتب يجهد لأن يدافع عن موقفه الخاص من العالم. بل إن صورة ستالين مثلاً توظف بوصفها «ستالينية مُخَلّصة»، وإن بشيء من العبث. ما يسمح لهذه الرموز (ستالين وحاشيته) بأن تعلن موقفاً، من نظام العالم الجديد، في لعبة روائية غير جديدة كلياً (استقدام شخصيات تاريخية وسياسية إلى لحظة روائية آنية). مقابل ذلك، فإن كونديرا يحاول أن يسم هذه الشخصيات، الجادة جداً، بملمح كاريكاتوري ما دون أن تسايره مخيّلته في هذا (ستالين الذي يتلصص على عسكرييه من بوضع أذنه على باب حمام المراحيض/ فرانك، المرأة التي تخطب بالمدعوين ولقمة كاتو في فمها/ تظاهر كاليبان وشارل بالتكلم باللغة الباكستانية ليتسليا في الحفلة). كل ذلك يستتبع بصورة ستالين وهو يظهر بهيئة رجل صياد في حديقة لوكسمبورج ويطلق النار بطريقة توحي بالبطولية والثورية على تماثيل ملوك فرنسا فيما رجُلُه كالينين يتبول في الحديقة، التي هي أشهر الحدائق الباريسية. اختيار كونديرا لستالين، الذي أباد الملايين من أبناء شعبه، لكي يقوم بهذه المهمة، غير موفق أو مقنع تماماً. أقله واقعياً إن لم نقل روائياً.
في النصف الثاني من الرواية، تجتمع الشخصيات في حفلة لمناسبة عيد ميلاد دارديلو. لكن، وكما تغيب الأحداث الكبيرة عن حياة كل شخصية في الرواية، فإن الحفلة تصبح الحدث الذي يطال كل منهم. تصبح الحدث المشترك. والمكان المغلق الذي يستفز الأفكار والانطباعات (ما يذكر بالمصحة/ المكان المغلق في رواية»الجبل السحري»). في الحفلة تتساير الشخصيات وتلقي بنظرياتها على مسامع بعضها البعض، وتفسر العالم، وتقلق وترتاب وتخاف وتجرع الكثير من الكحول وتضطرب وتتأمل وتنتظر وتصاب بالخيبة وتخاف، أي أنها ببساطة، لا تمرح بحق، ولا تتمكن من مواجهة أحزانها الشخصية. فكل شيء ماض إلى نتيجة واحدة: اندثار الفكاهة. الحفلة، يرسمها كونديرا في مناخ كئيب لا نتلمس أجواءه الاحتفائية بأي وجه من الوجوه. إنها أقرب إلى تجمع انكسارات تخيم فوقها قصة ستالين وصيده العجيب لطيور الحجل، وموقف خروتشوف ورفاقه من كذبة ستالين، التي يفترض بها ان تكون مزحة. قصة تبدو كأن لها اعتباراً شخصياً لدى كونديرا، فهو اليساري الهوى بطبيعة الحال، والذي أبعدته مواقفه السياسية في الماضي عن ترشيحات نوبل للآداب، ولا تزال. ليوضع اليوم في الطابور الخلفي لكتّاب يكتبون بشكل أكثر تورطاً فيما هو المعاصر، كهاروكي موراكامي مثلاً الذي يلصق نتف حكاياته ببعضها مستفيداً من أساليب السرد الأميركية.
______
*الاتحاد

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *