*خيري منصور
اعترف الراحل هشام شرابي في مذكراته بأنه لا يستطيع الكتابة إذا لم يكن أمامه أو على سطح ذاكرته كتاب، واستشهد بمقولة لنيتشة عن فن الاجترار، وبذلك يكون شرابي، كما هو الحال بالنسبة لنيتشة، أو صاحب الإنجيل الخامس، قد أعاد إلى ذاكرتنا عبارة دانتوس عن هؤلاء الغابرين الذين لم يغربوا، وهي أنهم قالوا أقوالنا، ولا سبيل أمامنا إلا في التنويع على الأوتار ذاتها.
كم من التواضع يحتاج المثقف كي يعترف بأنه ليس آدم المعرفة والخليقة، وأنه مسبوق بموروث قد لا يقوى كاهله على حمل أقل القليل منه، وهذا ما كرره على نحو آخر المؤرخ ويل ديورانت حين قال بعد فراغه من مجلدات «قصة الحضارة» أن هذه الحياة التي يزعم البعض أنهم عرفوها وفككوا طلاسمها لاحت له في لحظة كما لو أن برقا أضاء ما أتيح له أن يلمحه منها وهي مغطاة بغلالتها السوداء.
وليس معنى هذا كله أن إنتاج المعرفة واجتراح الآفاق قد انتهى زمنه، وأن قدرنا هو الشروح على تلك المتون الخالدة، لكن ما يدفعني إلى ذلك باختصار هو مزاعم من يحاولون تعويض نقصان المعرفة بادعاء إنتاجها بمعزل عن كل من ساهموا في وصولها إلى ما هي عليه الآن.
والأمانة ولو في حدها الأدنى أكاديميا وأخلاقيا تقتضي من كل من يكتبون أن يقتفوا خطى شرابي في اعترافه وهو أنه لا يستطيع المغامرة في شعاب هذه الغابة الهائلة بلا دليل، والدليل هنا هو الكتاب.
ولا أدري لماذا يسارع المحامون عن الأمية باعتبارها مطلبا قوميا للاعتراض على ما يرد في المقاربات من إحالات معرفية واستشهادات من شأنها أو لا ترسيخ العرفان لمن سبقونا وعبدوا لنا الطريق، وثانيا لترسيخ الفكرة ذاتها باعتبارها نتاج ثقافة ذات جذور وأن من حق من تحول إلى رماد لأنه قال بكروية الأرض ودورانها أن يبقى إلى القيامة هو صاحب هذا الامتياز وهذا الافتداء وتلك الريادة. وهناك من يشعرون بضيق في التنفس عندما يقرأون ما يذكرهم بما لا يعلمون لأنه ما من جهل بدون معرفة تفتضحه على طريقة الضد يبرز جماله الضد، والمضاد للمعرفة هو بالضرورة الجهل، كما أن المضاد للجمال هو القبح والمضاد للفوضى هي السياقات والانساق!
وحين كتب هنري ميلر أنه كان يقبل بأن يبتر ذراعه من الكتف لو أنه استطاع كتابة فصل في الجحيم لرامبو، فذلك ليس مجرد اعتراف بقدر ما هو افتراق وقطيعة مع السائد النرجسي في عالم المثقفين، خصوصا هؤلاء الذين تحولت الثقافة بالنسبة إليهم إلى حِرفة منزوعة الرؤى والشجن الذاتي وشغف الفضول.
لا أدري ما الذي سوف يحس به كاتب ريشه لا يزال زغبا ومنقاره ليّنا تكسره حبة قمح إذا دخل إلى مكتبة تعج رفوفها بما أنجز الأسلاف في مختلف فروع المعرفة، لأن هؤلاء من فئتين، واحدة تؤثر السّلامة ولا تورط نفسها في مشاهدة المحيط لأنها تجيد السباحة على السرير أو في البانيو. والأخرى تحتاج إلى من يذكّرها بما كان يوليوس قيصر يحتاج إلى التذكير به عندما يستخفه الطرب من التصفيق والانحناء… وهو أنه من البشر الفانين، وحين قال الفيلسوف والرياضي برتراند رسل أن أعمق ينبوع للحرية هو الجهل كان يقصد ما هو أبعد من الدلالات المباشرة لهذه الكلمات، ولو أخذنا مثالا أو عيّنة، رجلا أو امرأة، قرأ أحدهما أو كلاهما كتابا واحدا عن فلسفة الإغريق، ثم طلبنا منه أن يتحدث عن هذا الموضوع لوجدناه يتدفق في الكلام ولا تعوقه أي مقارنات أو قرائن ذات علاقة بمصادر أخرى غير مصدره الوحيد.
إن من يترددون وقد يتلعثمون ويسقط في أيديهم عندما يطلب منهم الكلام أو الكتابة في مسألة ما هم أصحاب المصادر المتعددة والمتباينة، وقد ضرب سارتر مثالا في روايته «الغثيان» من خلال أحد شخوصها وهو العصامي أو جينيه الذي دخل إلى مكتبة وقرر أن يقرأ كل ما فيها تبعا للحروف الأبجدية، وحين بدأ بحرف الألف اكتشف أنه سوف يموت حتى لو عاش قرنين قبل أن ينهي الرفوف الأولى. ربما لهذا السبب كان سارتر يفضل لقب قارئ على أي لقب آخر رغم وفرة الألقاب التي أغدقتها الصحافة عليه!
إن أوهام البداية من أول السطر في تاريخ المعرفة تحرم ضحاياها من هذه الكشوفات والحفريات المتعاقبة حول نصوص تعاد قراءتها الآن، وفق منهج التأويل، كما لو أنها تقرأ للمرة الأولى، ومنها «العجوز والبحر» لهمنغواي التي تقرأ بتأويل ميثولوجي، بحيث يصبح البحرالذي اصطاد فيه العجوز السمكة، بعد أن تحولت إلى هيكل عظمي بحيرة طبرية واسم سانت ياغو هو يعقوب، تماما كما أن رواية بطل «الغريب» لألبير كامو ليس رجلا اسمه ميرسول، بل هو اسم مركب من البحر والشمس انطلاقا من الشغف الوثني لكامو بالطبيعة، الذي أوضحه في كتاب بعنوان أعراس.
وكذلك رواية «الطاعون» التي يعيد القس الفرد أوبراين قراءتها من خلال الاسماء فقط، ليكتشف في النهاية أن كل اسماء الشخوص في رواية تدور أحداثها في مدينة وهران الجزائرية، هي اسماء فرنسية فقط، ما دفع أوبراين إلى القول بأن جرثومة الطاعون تسللت من الشخوص لتصيب المؤلف بالعدوى…
إن من يتوهم بأنه أول من كتب أو رسم أو عزف هو الوريث الضال الذي لم يضف إلى الميراث، بل بدده بسفاهة، وطوبى للغة عبقرية جعلت من السفاهة مرادفا للجهل!
______
*القدس العربي