من أدب الرحلات/ أيوا.. البحث عن إيقاع ما(2)


محمود شقير*


خاص ( ثقافات )
3
عدت إلى غرفتي في الثانية والنصف بعد الظهر، تناولت وجبة خفيفة. حاولت أن أطبخ صحناً من الشوربة، كنت اشتريت كيساً فيه قطع صغيرة يابسة من الخبز، حينما وضعتها في الماء الساخن، تحولت إلى ما يشبه العجين، فلم تعجبني، تناولت منها بضع لقيمات ثم قذفت بالباقي في سلة المهملات. 
غفوت قليلاً في السرير. سمعت طرقات على الباب، كانت ماري نازاريث المشرفة الإدارية لبرنامج الكتابة، تحمل بين يديها ملفات خاصة بالكتاب الضيوف، أعطتني الملف الخاص بي. قلت لها: أحب أن أكون وحدي في هذا السكن. وقلت: لن أتمكن من الكتابة طالما كان هنالك شخص آخر في المكان. أبدت تجاوباً مع طلبي، نزعت اسم الكاتب القادم من غانا عن الباب، وثبتته على باب آخر في المكان الفسيح الذي يتسع لعدد كبير من الكتاب. 
قبيل المساء، خرجت للتمشي في الشارع وفي متنزه الطاحونة المحاذي للسكن الجامعي. كانت حرارة الشمس قوية لاذعة. ثمة مجموعة من الطالبات والطلبة يشوون لحماً على النار، يلتهمونه بشهية، ويشربون البيبسي كولا ابتهاجاً ببدء العام الدراسي الجديد (أو هذا ما اعتقدته). دعوني لتناول الطعام معهم، أكلت ساندويشاً وأنا أستمع إلى أحاديثهم وأتبادل معهم حديثاً مقتضباً، لم يكن لديهم فضول زائد لكي يسألوني أية أسئلة، ربما شعروا بشيء من التحفظ لأنني لست مجايلاً لهم. شكرتهم على حسن الضيافة، ثم مضيت مبتعداً وأنا موقن أن للعمر أحكاماً لا يمكن التملص منها. 
عدت إلى غرفتي. شاهدت التلفاز، برامج خفيفة ومقابلات. ثمة تعليقات على قصف الطائرات الأمريكية لمواقع في السودان وأفغانستان رداً على عمليات التفجير التي طالت السفارة الأمريكية في كل من نيروبي ودار السلام. تبدو قضايا العالم باهتة على شاشة التلفاز. ثمة الكثير من الدعاية والكثير من الكلام الخفيف الذي لا يرسخ في الأذهان.
وصلت كاتبة شقراء من روسيا، اسمها أولغا موخينا. سكنت في الشقة المجاورة لي مع كاتبة روسية أخرى. أولغا لا تعرف من اللغة الانجليزية سوى بضع كلمات. جرى تعارف سريع بيننا ثم افترقنا. 
ذهبتُ إلى مبنى كلية اللغة الانجليزية، مشيت حوالي كيلومترين، شعرت بمتعة المشي وأنا أجيل النظر في البيوت المغتبطة بهدوئها، المحاطة بالأشجار وبالحدائق. قابلت الدكتورة كارولين براون، (تجاوزت الخمسين من عمرها كما قدرت) وجدتها غاطسة في مكتبها المليء بالأوراق والملفات، أخبرتني أنها قرأت القصتين المترجمتين إلى اللغة الانجليزية، اللتين أرسلتُهما من قبل إلى الجامعة. قالت إنها أعجبت بالقصتين، ولم أجزم أنها لم تكن تجاملني. (عادت إلى ذهني أجواء جامعة دمشق وأنا طالب فيها، في العشرين من العمر، وكان هذا أمراً ممتعاً) التقيت هناك بإحدى المشرفات على البرنامج، اسمها رووينا نوريفالس، وكذلك بزوجها، وهما من الفيليبين، لكنهما مواطنان أمريكيان الآن. تبادلنا بضع كلمات وافترقنا. (أتعرف إلى أناس كثيرين في وقت قصير! هذا مرهق للذاكرة، مثير للفضول في الوقت نفسه)
اتجهتُ إلى مكتبة بريري لايتس، أهم مكتبة في أيوا. اشتريت مجموعتين من القصص القصيرة جداً. اغتبطت بذلك لأنني أكتب القصة القصيرة جداً منذ سنوات، وما زلت أصطدم ببعض النقاد الذين لا يعترفون بهذا اللون من الكتابة القصصية. صعدت إلى مقهى تابع للمكتبة في الطابق الثاني. جلست هناك أكثر من ساعة، شربت علبة بيبسي كولا، وقرأت شيئاً حول القصة القصيرة جداً. مقدمة أحد الكتابين تتحدث عن مواصفات للقصة القصيرة جداً، تنطبق بشكل أو بآخر على القصص التي كتبتها. أفرحني ذلك. 
غادرت المقهى وتمشيت في شوارع المدينة. غالبية الذين يمشون في الشوارع هم طلاب وطالبات، نصف عدد سكان المدينة تقريباً هم من الطلبة الذين يأتون إلى جامعة أيوا من مختلف المدن الأمريكية ومن بعض بلدان العالم. اشتريت بعض احتياجاتي من سوبرماركت، في الطابق الأول من مجمع تجاري في مركز المدينة. صعدت إلى الطابق الثاني من المجمع، وجدت ثلاث قاعات للعروض السينمائية. اشتريت تذكرة ودخلت للتفرج على فيلم “شيء ما عن ماري”، ويبدو أنني دخلت خطأ إلى فيلم آخر، فيلم بوليسي يعتمد على المؤثرات الضوئية والحركة الصاخبة والغموض. لم ألمس أي مضمون جدي في الفيلم. مع ذلك، ثمة إشارة إلى احتمال توجيه التهمة لشخص فلسطيني مقيم في الولايات المتحدة، بإطلاق النار على ملاكم. حتى في هذا الميدان يُلاحَقُ الفلسطيني بالتهم!
5
نمت حتى التاسعة والنصف صباحاً. 
في الليل، حلمت أنني أقف في الساحة الواقعة أمام دارنا العتيقة، التي يقيم فيها أبي الطاعن في السن ومعه أمي. حلمت أن الحفيد “محمود” البالغ من العمر ست سنوات، يقف على السور المحاذي لمخزننا الشرقي، فتحت ذراعيّ لكي أتلقفه وهو يقفز من على السور في اتجاهي، فلم أتمكن من الإمساك به قبل أن يسقط على الأرض. صحوت من نومي متكدراً، أصابني الأرق بسبب خشيتي من حدوث مكروه لأحد أفراد العائلة، ما سيضطرني إلى قطع الرحلة والعودة إلى البيت. رحت أستعرض مرة أخرى حلمي المزعج، لاحظت أن أحلامي الليلية تتخذ من الوطن مصدراً لها. (فيما بعد ستقول لي كانغ هان الكورية إن أحلامها تتخذ من موطنها، من مدينة سيؤول بالذات، مسرحاً لأحلامها التي يتم التعبير عنها باللغة الكورية! أولغا الشقراء التي يفصلني عنها حائط، لم تذكر شيئاً عن أحلامها) بعد ساعة تقريباً عدت إلى النوم.
استيقظت على صوت دقات خفيفة على الباب.
أخبرتني ماري نازاريث أن الحافلة ستتحرك بعد عشرين دقيقة نحو الجامعة.
اغتسلت بسرعة، ولم أحلق ذقني. ارتديت ملابسي، ولم أتناول أي طعام. 
لأول مرة، منذ جئنا إلى أيوا، نلتقي في إحدى قاعات الجامعة. كان ذلك بعد أيام قليلة من وصولي إلى هنا. تحدث عدد من العاملين في برنامج الكتابة الدولي، رحبوا بنا بأسلوب بسيط حميم، ثم جاء دور الكاتبات والكتاب لكي يقدموا أنفسهم بكلمات قليلة. كنت المتحدث الأول، ربما لأنني أكبر الكتاب سناً. تحدثت عن نفسي قليلاً، ثم انتقدت تغييب اسم فلسطين من البطاقة التي سُلِّمتْ لي ووضعتها على صدري. فقد كتب في البطاقة تحت اسمي: الضفة الغربية، وبدا الأمر كما لو أنه مقصود. بعد ذلك، أخذ اسمي يظهر مع اسم فلسطين.
تناولنا طعام الغداء في مطعم بالجامعة، هناك أكملنا النقاش حول أنشطتنا اللاحقة. 
بعد الغداء، ذهبت إلى مكتبة الجامعة، انبهرت وأنا أرى مئات آلاف الكتب على الأرفف في القاعات الفسيحة.(فيما بعد قالت لي إحدى العاملات في المكتبة إنها تشتمل على ثلاثة ملايين كتاب) بقيت فيها حوالي ساعتين، قرأت شيئاً عن أدب الأطفال، عن القصة القصيرة، قرأت نصاً مسرحياً فكاهياً، ثم غادرت المكتبة وأنا واقع تحت تأثير موجة مفاجئة من الإحباط لا أدري كيف تسللت إلى صدري. (ربما أسهمت في ذلك، كثرة الكتب التي أحتاج إلى مئة سنة لقراءة جزء يسير منها) سرت على رصيف الشارع المؤدي إلى السكن الجامعي، تابعت السيارات الفاخرة وهي تجتاز الشارع وفي داخلها نساء ورجال، قدرت أنهم يكسبون عيشهم بسهولة ويسر، وأنهم مرتاحون في حياتهم، مطمئنون في بلادهم. عدت إلى غرفتي.
يتبع
__________
*روائي وقاص من فلسطين 

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *