أحمد المديني
في عمله الجديد: «فئران أمي حصة» (الدار العربية للعلوم، ناشرون/ ضفاف، 2015) ينتقل سعيد السنعوسي إلى رهان أبعد وأشكل، في طرح الرواية ومُرامها، على غرار ما قدم سابقاً (ساق البامبو) صيغةً ومعادلاً فنياً توخّى منه، في تقديرنا، رسم بانوراما وضع اجتماعي خصوصي (واقع بلاد الكويت) من خلال بؤرة الانشطار في مكوّن الذات، وتجاه المؤسسة العائلية، والوطنية، تلك التي لا تقبل التعدّد، وتؤمن بالصفاء، وبحتمية الانسجام في النسيج العرقي والثقافي والمجتمعي، فتأتي بنيتُها، مثل صورتها، نقيضاً تماماً للمجتمع الحديث، ومنبنية على التعدّد وحتمية الاختلاط والهُجنة، لا غروَ حالها غير قابل للاحتواء والفعل داخل وبوسائط جنس أدبي (السرد التخييلي) الحديث، طبعاً، نعرف أنه لا يعمل ويجد مسوِّغَه إلا في شروط التناقض والمفارقة، وهو ما حتّم الانتقال بحكاية الرواية (ساق..) وأفعال وسِيَر بطلها وباقي شخوصها، إلى محيط خارجي، من الكويت ـ سيتي، إلى الفيليبين، هناك حيث تفتَحت الرواية حقاً بشكل «مشروع»، لا مستعار، على قابلية السرد، وبدت تنضح بحياة حقيقية، لا متكلفة أو نمطية، أي لا ـ روائية، إذ ليس جنس الغلاف ما يُجنِّس.
2ـ نحتاج لدى قراءة أي عمل سردي، جدير بتسميته، إلى القيام بترتيب الأوليات، أي حصر جملة المكوّنات والأدوات المستخدمة لإنجازه، وجعله يصل في النهاية إلى رتبة الإقناع بتحقق أطروحة مشروع الروائي فيه، وليس مجرد اكتمال نصّه في النوع الذي ينضوي فيه، بل وأبعد من كماله فقط، منه بالانتقال إلى غيره. هكذا، نتوفّر في: «فئران أمي حصة» على كفاية من المواد والعتاد والتوابل الخاصة بالطبخة الروائية، كتابة وإنشاءً وتنويعاً ومذاقات، إذ يقدم لنا مائدة حافلة من هذا المُشتهى، ويغدق بأريحية، نعم، وكذلك برْهنةً على أن صاحبها يملك عُدّةَ الروائي، ما تجده وافراً في الأعمال الأولى للكُتاب، قبل أن يتخففوا من المتاع الزائد، ويختصوا منتقرين، حاملين ما تحتاج إليه الرحلة، لا أقل، لا أكثر. فالسنعوسي يوفر لنا إشباعاً حكائياً حتى لا مزيد، بما يرويه من حكايات عن أمي حصة، إحدى بطلات روايته، وما تتوفر عليه سجلاً خبرياً ثرياً تشغل به في المجموع مرتبة عصب مادي ومجازي، أيضاً. ففي بيتها، وضمن محيطها، يحيا عالم صغير بناسه وأشيائه وأجوائه وطقوسه وأصوله وامتداداته إلى الخارج، وأهمّ ما فيه كونه يصنع البؤرة المركزية الأولى لأرضية اجتماعية تاريخية، تنهض عليها الرواية، فكرةً ورؤيةً ومجالَ صراع وطبعاً مشتلَ حكي. هنا حيث البطل/ السارد (كتكوت) ـ فلا اسم له إلا هذا (اللقب) ـ مَن يقع داخل البؤرة، يُحصي دقائقها، يصف معالمها، وهو يتتبع خيوط علائقها وشبكة نسلها وتناسلها، بما يوثّق ويخبر ويفيد ويوحي، يتخذ موقع العضو منها، فيما هو من خارجها، بمثابة الجار والمراقب. هكذا اختار المؤلف موقع ووضع سارده، ليبقيه على مسافة من طرفي الصراع اللذين تشتبك فيهما الحكاية، وتمثل أزمة الرواية وموضوعها، كما يوفر له حرية حركة وانعكاساً مرآوياً مباشراً، شخصاً وعائلة وأزمة، وقدرة سرد مسترسلة.
الكويت
3ـ إننا في هذه البؤرة مع وأمام مرآة الكويت الأم، الأصلية، حاضنة الجميع، في مرحلة أولى من تاريخها ـ يحتاج القارئ إلى استحضاره باستمرار في أفقية قراءته، وهو حاضر باستمرار، وإما بين السطور، أو بإشارات دالة، هذا إن لم يتدخل المؤلف نفسه، إما من وراء ساردها الصغير سناً، فتُفتضح هيئة الكاتب، أو بصوت إحدى الشخصيات الفاعلة، وهذا لأننا كما سنفصل بصدد رواية محلية، أي يريد لها مؤلفها الحظوة بهذا التمثيل، لحساب ما هو أدرى به ـ ثم وهي على عتبة الانقسام الطائفي والدخول في مرحلة الإِحن الاجتماعية والعرقية جراء ذلك، وصُعُداً مع ما يستجِدّ من أحداث المحيط السياسية والعسكرية (الحرب العراقية الإيرانية؛ الغزو العراقي للكويت؛ حرب الخليج الأولى). توازي البؤرة الأولى وتتقاطع معها سرداً، القصة، الرواية الثانية، نَسلُ الأولى، أو تقعير فيها، أو امتداد لها على مستوى التخييل المستمَدّ من الواقع (نملك وفرة تسميات لخيار هذه التقنية)، أحداثاً جساماً، مُهولة، بذورُها في زمن وتربة سابقين (كويت أم حصة) تجري في زمن افتراضي مستقبلي، بتعيين المؤلف، لا شك درءاً لتدخل رقابة سياسية بالباب، لم تخفّ غلواؤها فأصدرت قرار منع العمل، الواقع أمام عينيها (الفتن الطائفية وفجائعها على الدول والمجتمعات والأفراد) أكبر وأغرب من أي خيال تغريبي، من كلمات ليس غير. هذا رغم أن أبطال هذه البؤرة ( فهد، صادق، ضاري، أيوب، وآخرون) رفاق طفولة الماضي الذين كبروا ونضجوا واجتازوا عقد آبائهم، حذرهم ونزوعاتهم الطائفية بخطاباتها ومسلكياتها المتشنّجة، بمظاهرها ونتائجها الكارثية/ انتقلوا إلى وعي وفعل تنظيمي (جماعة موقع فؤادة الإذاعي الإلكتروني) للتصدي للتفرقة والفتنة الطائفيين، هدفها العمل لضمان اللحمة الوطنية.
4ـ هنا بيت القصيد، والرهان المعول عليه. نحسب، من قِبل الكاتب، أن يجعل هذه الرواية ـ عجباً تطولها سلطة المنع، بداية ـ في خدمة بناء الكيان الوطني، وتجسيد الهوية وتمثيل الصراع في تكوينها، في سياق بناء الدولة الوطنية. هي خلاصة قراءتنا، واستنتاج تهيئ للوصول إليه حكاياتها وخطاباتها، معها أطروحتها المبنية بأنواع الصراع المختلفة المشتبكة فيها، انتهاءً بالتصويرات الكارثية (Apocalyptic) بتعييناتها الواقعية وظلالها المجازية. تسهم في إنتاجها البؤرتان (الروايتان في واحدة) بتكافل، وإن رجحت كفة الأولى، فقد وفرت المادة البكر والمنجم الأغنى لصنع الهوية والشخصية الوطنية (المحلية) تكشف صورتها في مظاهر وتعبيراتها وجذورها السلالية، والثقافية والفولكلورية، مع تمثيلاتها المخيالية، وتؤكد هذا الحضور، بل العصبية عبر المواجهة الصريحة مع أعراق وجنسيات أخرى (إيران والعراق، وفلسطين، والعمالة الآسيوية..) نتوءاً للصورة وعلى أطرافها ليس إلا، رغم كل محاولتها الاندماج في المجتمع، بحكم علاقة زواج (العراقية زوجة الكويتي) والإقامة المديدة للفلسطيني، ويتم التطويح بهما لأن فعلاً (عدواناً) خارجياً جاء يحرّض الهوية عصبية.
الكاتب الوطني
5ـ يرسم سعد السنعوسي تاريخ بلاده ومسارها حاضراً ومستشرفاً مستقبلها في ضوء الحاضر على صورة عالم الصبا وبحدود رؤيته ما أمكن، ومن هنا يعمد إلى جعل السيرة (بيوغرافية) الطفولة أداة الحكي، تبدو وكأنها كبيرة السن، لأنها مُشبَعة بالمادة التراثية، بالثقافة الشعبية، أخباراً وأمثالاً وأزجالاً وأغاني وقاموساً يومياً ومشاعر خصوصية وردود فعل وأسلوب عيش، ونظاماً أخلاقياً وعادات وتقاليد، منظومة قيم بالإجمال. المصدر الأول لهذه الثقافة الكلية، هي أمي حصة، تروي وتفطن وهي المرجع، لسنها ومخزونها، وبالتالي فهي تمثل العراقةَ والأصالة، جذورَ الهوية والكيان الوطني وذاكرتهما مغروسة في شخصيتها وممتدة إلى نسلها، وإلى معظم محيطها، نعم هكذا هي شخصية الأم والجدة في المجتمعات التقليدية، أما هنا فتأخذ بعداً رمزياً يُراد به خلق التماهي بالمرجعية الوطنية، الثابتة، سيخلفها جيل لا يقطع معها سَرة الحنين، جيل الرواية الثانية، المحارب لغيلان الأبوكلبتيكية.
6ـ المصدر الثاني: الروح الوطنية، سندُ ونصيرُ الذاكرة الثقافية، أجّجها فعل غزو الكويت، فانتقلت بنا رواية «إرث النار» من (الفولكلوري، المخيالي) إلى الواقعي والوطني اليومي، ممثلاً في: 1ـ ما اعترى حياة عائلة أمي حصة وجوارها، 2ـ في انقلاب العلاقة مع المحيط العربي (المقيمون والوافدون) و3ـ في اندلاع فعل المقاومة للغزاة، ورصد معاناة الكويتيين جراء وضع احتلال بلادهم، وكله يمثل يقظة وحيوية الشخصية الوطنية وكيف هبّت للدفاع عن كيانها، أخذ قسطاً وافراً من العمل يكاد يمثل وحده تدويناً مستقلاً بإسهاب وتفاصيل واستطرادات لن يتردد أحد في نعت مدونِها بالكاتب الوطني، ووصف هذه الكتابة بمدونة السرد الوطني، نظير النصوص التي تكتب في عهود المقاومة وبروحها ونعرتها، ومعلوم أن هذا النوع من التدوين يغلب عليه الحماس، ينتمي إلى السجل الشعري، الملحمي أكثر من الروائي، نزعم أن النبرة الملحمية تنزع إلى عزفها آداب الشعوب، عريقة أو فتية، لتعمق من تاريخها وتجذّر كيانيتها بمضمون التضحية، ويتبارى الأدباء في هذا العزف، الشعراء عادة أكثر من سواهم، ولا نعدم كتاب النثر، السنعوسي روائي، فلا يُسخِّر الرواية لهذا الغرض، بقدر ما يسعى ليرسخ كتابة هذا الجنس في الأدب الكويتي، ويحدد لنفسه موقعه ومكانته فيه بين أقرانه، لا سيما في زمن التحولات الكبرى للعالم العربي، وضمنها مسار ومصير بلاده، وهذا هو منظوره الأقرب، وبوصلته، تنقل رؤيته للعالم. لذلك قلنا إن لهذا الكاتب مشروعاً روائياً، أو يسعى ليبلوره نصاً، نصاً، ونحتاً لجمالية تبرهن أنه، هو والبلاد، أكبر من مستوى سِير النشأة الأولى، وأقرب إلى مهارات التجريب، كما في الرواية النص الثاني «يحدث الآن»، تبين بأليغورية أهوالها مدى الحرص على دحر الفتن الطائفية من أجل الحفاظ على الكيان الوطني وانتصاراً لوحدته. أليس لنا أن نتساءل بعد هذا، إن لم نكن إزاء عالم (ومجتمع) ما قبل روائي، فيما تتطلب الروائية التخصيص والفردية، لا التعميم والنمطية، المنفتح لا المكتمل، المركّب لا البسيط، أم أن السنعوسي يرى أنه جدير بالكاتب أن يسهم في تأهيل وطنه سردياً أولاً، في انتظار أن يتحوّل إلى مجتمع روائي؟
السفير