فخرى رطروط.. الشاعر الذى أصبح تاجرًا للأقمشة فى نيكاراغوا


* بلال رمضان


هو شاعر فلسطينى، ولد فى مدينة الزرقاء عام 1972، وحصل على بكالوريوس فى اللغة العربية من جامعة اليرموك، وتخرج فيها عام 1995. ثم عمل مدرسًا للمرحلة الثانوية فى مدينة أريحا لست سنوات، وسافر عام 2000 للعمل فى نيكاراغوا بأميركا الوسطى، كتاجر للأقمشة حيث يقيم إلى الآن.
الشاعر فخرى رطروط، الذى صدر له مؤخرًا فى القاهرة ديوان بعنوان “400 فيل أزرق”، ومن قبله “صُنع فى الجحيم”، و”جنة المرتزقة”، وترجمت عدة قصائد له للإيطالية والرومانية.
حول هجرته وتجربته الشعرية ورحلته المختلفة كان لوكالة أنباء الشعر هذا الحوار
بدايةً.. كيف تُعرف الشعر؟
الشعر طريقتنا الوحيدة للثأر من هذا العالم، محاولة فاشلة للتشبث بحافة العالم، الشعر رشوة صغيرة لنحجز لنا مكانًا فى الخلود. جنتنا الصغيرة وسط هذا الجحيم وأحيانًا جحيمنا الصغير وسط الفراديس المفقودة. الشعر صفارة إنذار. الشعر لعبة شطرنج لا ملوك فيها. الشعر بيع قوالب الثلج على حافة الشمس. الشعر سوق بلا بضائع. الشعر ذلك الحنين القاتل ﻷشياء غامضة لن نصلها يومًا ولن نعرف كينونتها. الشعر هو القرن الثانى المفقود لوحيد القرن. الشعر طريقتنا فى أن نكون وحيدين.
يعيش الشاعر فى غربة داخل وطنه فلماذا هاجرت – وتحديدًا – إلى نيكاراغوا؟ وما الذى يميزها عن غيرها من المدن؟
تتساوى اﻷرض حين تفقد وطنك، كفلسطينى عليك العمل ضعف ما يعمله الناس؛ ﻷن وطنك سيكون عملك أو مالك، وأنا وطنى لغتى، ولدت فى الأردن وتعلمت فيها وأحتفظ لها بقلبى بكل محبة وأتمنى أن تأتى فرصة ﻷرد لهذا البلد جميله، أنا نصفى أردنى ونصفى فلسطينى، ونيكاراغوا تزاحم ﻹحتلال حصتها، أطرح نفسى دائمًا كشاعر فلسطينى أردنى نيكاراغوى.
بعد أن أنهيت دراستى فى اﻷردن اتجهت للعمل كمدرس فى مدارس أريحا لعدة سنوات، ظل الوضع المادى عائقًا فى طريقى، وإثر محاولة زواج فاشلة تركت التدريس والوطن العربى وسرت خلف جدى اﻷول نصر الله الذى جاء إلى هذه البلاد التى لا يعرف فيها أحدًا.
سافر فى سفينة قبل مائة سنة هربًا من حياة قاسية فى فلسطين ثم عمل كبائع جوال فى كوبا ثم انتقل إلى نيكاراغوا متابعًا عمله كبائع جوال يشترى قطع القماش ويضعها فى شنطة على ظهره متوغلاً فى أرياف وغابات نيكاراغوا سيرًا على اﻷقدام، ثم تطورت تجارته واشترى بغلاً ثم سيارة ثم محلًا، وأسس لتجارة اﻷقمشة فى نيكاراغوا والتى يسيطر عليها أولاده وأحفاده حتى اﻵن، ثم عاد جدى وتزوج من فلسطين وأنجب طفلة أسماها “نيليا” على اسم فتاة أحبها، ونيليا أم أمى. استقبلنى أخوالى وبدأت العمل وسط صعوبات كثيرة حتى استقرت اﻷمور، يبدو اﻷمر صدفة لكنى أؤمن بأن هناك عناية إلهية تدير حياتى.
نيكاراغوا بلد جميل كبير المساحة، تطل نيكاراغوا على محيطين وفيها براكين كثيرة، وغابات بكر، عانت كغيرها من حكم العسكر والطغاة وعائلة سيموزا المدعومة من أمريكا الشمالية، دارت فيها حرب أهلية طاحنة بين الجبهة اليسارية الساندينية بقيادة دانييل أورتيغا المدعوم من الاتحاد السوفيتى وبين الطاغية سيموزا المدعوم بلا حدود من أمريكا الشمالية.
استمرت ﻷكثر من عشرين سنة، وانتهت بآلاف القتلى وتدمير البلد وهروب الجالية العربية الضخمة التى كانت تعيش فيها آنذاك، انتصرت الجبهة الساندينية وتعرضت نيكاراغوا بعدها لسنوات طويلة من الحصار اﻷمريكى، وضربها فى تلك الفترة زلزال قضى على مناغوا؛ ولذلك نيكاراغوا تتخلف عن العالم بثلاثين سنة، وتحاول أن تتعافى تحت حكم الجبهة الساندينية التى تحكم حتى اﻵن، هذه الجبهة احتفظت بعلاقات متينة مع الفلسطينيين منذ أوائل السبعينات فى اﻷردن ثم فى لبنان حيث كان يتدرب مقاتلو الثورة الساندينية فى مخيمات الفلسطينين، وقاموا بعمليات عسكرية مشتركة ضد “إسرائيل” فى فترة خطف الطائرات وسقط مع ليلى خالد فى أحد عملياتها مقاتل من نيكاراغوا اسمه باتريسيو اورغويو.
ألتقى بالكثير من العجائز فيهمسون فى أذني: أنا أعرف لبنان، تدربت مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبعد حرب غزة طردت نيكاراغوا السفير اﻹسرائيلى ولم يعد حتى اﻵن، كفلسطينى أو أردنى أدخل نيكاراغوا بدون فيزا صار لى فيها جذور وأولادى كلهم ولدوا هنا.
وقبل الهجرة وبعدها.. كيف ترى فخرى رطروط كشاعر؟
حقًا لا أعرف من أنا ولا كيف أتطور وهل أتطور للأسوأ أم اﻷحسن. قبل الهجرة كنت أكثر فقرًا وأكثر قناعة وأكثر حلمًا، كنت أبسط، كانت أحلامى قليلة، كان شعرى بسيطا وجافا وبلا ألوان، كان العالم يتسع لخطوتى، كانت أتفه اﻷشياء تبعث السعادة فى نفسى، لم يكن يشغلنى أين سأموت وماذا سأترك.
بعد الهجرة، أصبحت أحن إلى أشياء بسيطة فى بلادى كنت لا أعيرها قيمة، الموت يؤرقنى أكثر، يشغلنى سؤال أين سأموت، صرت أكثر عزلة وأقل اجتماعيا، صار شعرى يهتم بكائنات مهمشة أتعامل معها يوميا تعتبر من مكونات الطبيعة فى نيكاراغوا من نمل وسحال وحشرات ونباتات، هذه الكائنات تقوم بأشياء مدهشة هنا خاصة قبل اقتراب موسم المطر، حيث تلجأ إلى أضواء البيوت لتبدأ فيها مسرحيات وفاتتازيا.
هنا زادت حاستى السادسة كثيرًا، شعرى اقترب أكثر من التراب والطبيعة والناس، أعيش فى مدينة أفقية لا عمارات فيها تحجب الشمس، وينام أهلها مبكرين، تشبه مناغوا قرية كبيرة، تجرى فيها عربات الخيل وتنبعث أدخنة الخشب المحروق من مطابخ فقرائها وحبال الغسيل مشرعة فى الشوارع، مدينة غير أنيقة يطغى الفقر والبساطة عليها، يكثر فيها الباعة الجوالون والمبشرون والشعراء واﻷشجار والكلاب المشردة، هذه أجواء حقيقية للشاعر، وسط هذه الخلطة بإمكان أى أنسان أن يكون شاعرًا، مناغوا مدينة هادئة لا حياة ليلية فيها، فأنت مجبر للجلوس واﻹستغراق فى القراءة والكتابة، أصبح شعرى ملونًا وفاقعًا فاللاتينيون يحبون هذه اﻷلوان وأنا صرت أحبها.
الأسواق ساحة الشعراء… فكيف ترى نفسك حينما تدخلها وتخرج منها يوميًا باعتبارك تاجراً للأقمشة؟
سوق مناغوا لا يختلف كثيرًا عن سوق عكاظ والمربد ومكة وغيرها، وهو أكبر سوق فى أمريكا الوسطى، يسيطر عليه تجار عرب، هذا السوق أكل من عمرى سنوات طويلة، السوق ملىء بالمبشرين والفقراء والباعة الجوالين والعتالين والكلاب المشردة، بعد إقفال المحل يأتى المشردون وشمامو الغراء ليفرشوا كرتونهم للنوم على باب المحل ويختفون قبل فتحه، لى أصدقاء كثر منهم يشكلون لى خزانًا شعريًا مهما ومدهشا، واقعية سحرية لا مثيل لها، أحدهم يمر من أمام دكان اﻷقمشة بشكل يومى يبيع سموم فئران، اكتشف أن زوجته تخونه، صار يمر ثملاً صارخا بحزن: سموم فعالة للنساء الخائنات، سموم للفأرات.
يدخل المحل مئات البشر يوميًا، معظمهم نساء فقيرات، يشترين القماش لخياطته فى البيت وبيعه، لن تجد بيتًا هنا ليس فيه ماكينة خياطة، ماكينة الخياطة فى نيكاراغوا كالبقرة المقدسة فى الهند، طبيعة الناس هنا الثرثرة مع اﻵخر، هناك حرارة إنسانية عالية وهى سمة مميزة للمرأة اللاتينية، كعرب ينظر لنا هنا باحترام كأناس مكافحين يستلون النقود من أفواه اﻷسود، لا نعانى من عنصرية قد تظهر أحيانا فى لحظات الغضب تخرج على شكل شتيمة (توركو) نسبة إلى العرب اﻷوائل الذين قدموا لهذه القارة حاملين جوازات تركية يزورنى فى السوق كثير من الشعراء اللاتينيين أصدقائى، فى قصائدى ستجد أصوات باعة وصوت مقصات ومقاسات وألوانا زاهية وفاكهة وروائح ووجوها وكلابا مشردة وسقوفا من الصفيح كلها تسربت إلى قصائدى من السوق، فى محل اﻷقمشة نمت كثيرًا ذائقتى البصرية فبدأت بالرسم قبل سنتين، تسرنى كثيرًا معلومة أن شعراء المهجر العرب اشتغل معظمهم بتجارة القماش، مدين للسوق بالكثير.
من المنفى الاختيارى فى الجهة المقابلة للعالم العربى.. كيف وصلت إلى القاهرة؟
القاهرة حلم قديم بعيد، تشكلت ذائقتى البصرية والسمعية على اﻷفلام والمسلسلات المصرية، أجد نفسى أحلم بركوب القطار المتوجه للصعيد باحثًا عن المجهول، مدين بوصولى للقاهرة للشاعر أحمد الشهاوى الذى التقيته فى مهرجان جرانادا للشعر العالمى فى نيكاراغوا وامتدت بيننا – بعد المهرجان – علاقة متينة. سألنى فى آخر ليلة له فى نيكاراغوا هل تكتب شيئا؟ قلت له بخجل: لى محاولات.
أصر على اﻹطلاع عليها، ففتحت له الكمبيوتر وبدأ بقراءة مسودة جنة المرتزقة، قرأ قليلاً ونهض بغضب قائلاً كيف يمكنك أن تخبئ كل هذا الجمال أنت تستحق أن أضربك، فنسخ المسودة على ذاكرة كمبيوتره وحمله معه إلى مصر وخرج الكتاب عن دار رؤية للنشر فى القاهرة، وتكفل أحمد الشهاوى بتوزيعه على اﻷصدقاء والتعريف بى وإهداء المهتمين نسخا من الكتاب، وفى الزيارة الثانية له إلى نيكاراغوا حمل معه مسودة ديوان “400 فيل أزرق” وصدر عن دار نشر اﻷدهم فى القاهرة، وتولى الشهاوى أمر توزيعه والتعريف بي، الشهاوى كان حصان طروادة الذى أدخلنى للكثير من العواصم، وهو دائما يقول لى أنت أخى وأنا أصدقه.
أليس من الغريب أن تكون فلسطينًا ولا يجد القارئ فى ديوانك ملمحًا عنها؟
أنا فلسطينى مولود فى اﻷردن أحمل بطاقة تصريح احتلال صفراء، هذه أحجية أخرى، حسب هذه البطاقة أنا مواطن أردنى كامل ومواطن فلسطينى كامل وأحمل جواز سفر نيكاراغوا حصلت عليه بعد خمس سنوات بسهولة دون الحاجة لكفيل ولا لغيره، بناء عليه أنا مواطن نيكاراغونسى كامل.
لقد أكلت اﻷحزاب السياسية الكثير من الشعراء وسوقت لنا الكثير من الشعراء المزيفين، وبموت الحزب يموت الكثير من الشعراء. لا أجد أى حزب قادر على استيعابى غير حزب الشعراء فالشعر سلطة لا تخدم أحداً كما قالت شاعرة روسية مغضوب عليها.
أريد لمشروعى الشعرى أن ينمو بعيدًا عن المافيات السياسية والدينية، فالسياسة تفسد الشعر، وأنا أهتم باﻷلم اﻹنسانى الشامل. أنا إنسان يحترم نفسه، لن أصرخ من نيكاراغوا تقدموا فكل سماء فوقكم جهنم، وأنا أركب قاربا أطوف بين الجزر اللاتينية، ولم أسجن يومًا واحدًا فى سبيل فلسطين، أخجل من المزايدات وبيع الوطنيات، شبعنا من ذلك.
كان لجدى بغل أصيب بطلقة جندى إسرائيلى وظل يعرج طوال حياته، كلما اشتم رائحتهم فى القرية من بعيد هاج وماج، هذا البغل لا أبادله بشعر العالم كله.
بعد أن أنهيت دراستى فى جامعة اليرموك ذهبت للعمل فى أريحا كمدرس، أقمت فى فندقها الوحيد واسمه قصر هشام، فى فترة تزامنت مع عودة رجال منظمة التحرير وخروج اﻷسرى من سجون اﻹحتلال فى منتصف التسعينات، كنت أستمع لقصص معاناتهم بخجل وأنا مخروس، وسكن معى فى الغرفة شاب محرر قضى سنوات طويلة فى اﻷسر وخرج بعد اتفاق أوسلو واسمه زياد العامر وعمل كمدرس، تركته ورحلت إلى نيكاراغوا ﻷتفاجأ باستشهاده فى معركة مخيم جنين وكان من قادة المعركة.
هؤلاء من يستحقون الثناء وليس أنا، سيرة هذا البطل تساوى كل دواوينى. فى المهرجانات والورش التى شاركت فيها كانت تدور فى الكواليس أحاديث طاحنة حول القضية الفلسطينية، أنت لا تتخيل حجم الدعم لفلسطين وسط المثقفين والشعراء اللاتينيين، الكثير منهم كتبوا دفاعا عن قضايانا العربية العادلة، هل تتخيل أن الشاعر الكبير آرنستو كاردينال كانت قصيدته فى افتتاح مهرجان جرانادا للشعر العالمى قصيدة عن نهب المتحف الوطنى فى العراق لاعنا اﻹمبريالية العالمية.
فى افتتاح مهرجان كوستاريكا للشعر العالمى وكان المسرح ممتلئا بشعراء ووزراء وصحفيين وطلاب، قلت فى كلمتى بأن كوستاريكا صوتت لصالح تقسيم فلسطين وإقامة دولة إسرائيل مقابل مساعدات ورشاوى طالت معظم القارة اللاتينية، صوت كوستاريكا كان حاسما بعد تعادل اﻷصوات، أنتم مدينون لنا بضياع فلسطين بعد انتهاء الفعاليات جاءنى الكثير من الطلاب وبعضهم كان يبكى معتذرًا عما حصل وصدموا بهذه المعلومة كانوا يعتذرون: لم نكن نعلم.
فى مدرسة ابتدائية فى شمال غواتيمالا وقف مدرس يعرف الطلاب بى: هذا الشاعر من فلسطين التى فعل بها اليهود ما فعله اﻹسبان بأجدادكم، يكفى أن يقدمك أحدهم أنك من فلسطين ليبدأ سيل اﻷسئلة.
أحاول دعوة شعراء من فلسطين للمساهمة فى فعاليات الشعر فى هذه القارة، لكن ثمن التذكرة يقف عائقا، وهذا يدفعنى للغضب، دعونا إلى مهرجان جرانادا فى سنة سابقة ثلاثة شعراء من فلسطين دفعة واحدة، لم يحضر منهم أحد ﻷنهم لم يجدوا من يغطى تذاكرهم، وحضر بالمقابل شاعران إسرائيليان.
أنا أعمل بصمت، أصاب بالسعار عند رؤية أى شاعر إسرائيلى ونعمل على استقطاب اﻷصدقاء من الشعراء لمحاصرة أى إسرائيلى كى لا يتحف الجميع بالمزيد من اﻷكاذيب، صعد المنصة الشاعر الإسرائيلى “أورى أور” وأتحفنا بقصيدة عنوانها بانتظار البرابرة، ويقصد بها الفلسطينيين والعرب، فصعد المنصة الشاعر الفلسطينى نجوان درويش ورد عليه بقصيدة عن مدينته القدس التى يحتلها البرابرة المتحضرون.
فى مهرجان جرانادا للشعر العالمى أدخلنا السفرة الفلسطينية كداعم ولاعب مهم فى أكبر مهرجان للشعر فى العالم، أقمنا ليلة فلسطينية بامتياز قرأ فيها الشعراء العرب والشعراء من أصول عربية ثم قدمت السفارة عشاء لكل الموجودين، وﻷول مرة فى تاريخ المهرجان تضطر اﻹدارة ﻹرسال الشاعرة اﻹسرائيلية المشاركة للنوم فى مدينة بعيدة عن جرانادا منعا ﻷى صدام، لو كنت أريد الشهرة لتقربت منهم ولوجدتنى أزور إسرائيل كشاعر مهم وتفتح لى أبواب أوروبا السرية، ولتم تتويجى بأكثر من جائزة كما يحاول أن يفعل بعض اﻷقزام من الشعراء العرب، إنها طريق سالكة وسريعة للشهرة.
تسيطر ثيمة الموت ونكران الذات على ديوان “أربعمائة فيل أزرق”… فهل من تفسير؟
الموت هو الحقيقة الساطعة فى هذا الوجود، ضريبة ندفعها لكوننا لسنا آلهة، لولا الموت ﻷصبحنا وحوشًا؛ فالموت فرامل لهذا الكائن المسرع نحو حتفه، أستفيق صباحًا وأتحسس جسدى ﻷتأكد من أننى حى، يثيرنى هدوء المقابر وأجد تحت أسوارها عزاءً لا أجده فى مكان آخر، إصعد إلى سطح عمارة وانظر للبشر، عبارة عن نقاط متحركة، بأى كينونة نتباهى؟.
هل ترى أن الشاعر بإمكانه أن يكون فاعلاً فى إحداث التغيير فى العالم؟
“الشاعر كذاب يقول الحقيقة دائمًا”. جان كوكتو
مرة تساءلت كيف شكل العالم بلا شعر، أجابنى أحدهم لا شكل له على اﻹطلاق. هل بإمكان الشعر أن يسقط طاغية؟ أعتقد أنه من الصعب حدوث ذلك لكن على اﻷقل يمكن للشعر تسجيل موقف من الطغاة، نذكر أن صورة كافور اﻹخشيدى كطاغية رخيص نجس وصلتنا واستقرت فى أذهاننا عن طريق المتنبى من خلال بيتين من الشعر، كتب التاريخ فشلت بأجمعها فى تنظيف صورة كافور اﻹخشيدى لذلك يتقرب الطغاة من الشعراء ويبعثونهم سياحة وسفراً فى أرجاء العالم ليس محبة بل ﻹفسادهم واتقاء لسانهم.
التاريخ لا يذكر إلا الطغاة والشعراء، وحدهم فى الساحة، حين تنجح السلطة فى إفساد شاعر فالجريمة مضاعفة، أتساءل دون يقين لماذا ينتحر الشعراء؟ هل هذا يعنى فشل الشعر فى تغيير العالم على مقاس الشعراء؟ وهل الشعر مرض أم شفاء أم كلاهما؟ هل الشعر فائض عن حاجة العالم، أم العالم فائض عن حاجة الشعر؟ هل الشعر جزيرة معزولة ومكتف بنفسه؟ هل الشعر بذرة انتحار وتدمير؟إذا كان الشعر لم ينجح فى التخفيف من سوداوية الشعراء ونزقهم على المستوى الشخصى فكيف سيغير العالم؟ ستظل هذه اﻷسئلة مفتوحة بلا إجابات قاطعة وتشغل العالم، وتلك ميزة أخرى للشعر، سيظل الشعر كل ما سبق وأكثر مع ذلك ينجح الشعر حيث تفشل اﻷشياء العظيمة رغم أن العالم لا يتسع لقدم الشاعر.
فى منفاك هل أنت معنىٌ بالمشهد الشعرى العربى؟
أنا معنى بالشعر فى كل العالم وليس العربى فقط، أقرأ كل ما يصل إلى، رغم بؤس المشهد الشعرى فى العالم العربى وتأخره عن أحداث المنطقة بملاييين السنين الضوئية إلا أن هناك شعراء عرباً قلة تميزوا أتابعهم على الفيس بوك الذى قدم لى كشاعر عربى فى آخر العالم خدمات جليلة، إذ أنه وصلنى مرة أخرى بالوطن العربى وعوضنى عن صعوبة وصول الكتاب العربى إلى نيكاراغوا لكن الفيسبوك ألقى عليّ عنوة بالكثير من “الزبالة” التى يسمونها شعرا.
هناك إنتاج مقصود للرداءة لتلويث الوسط الثقافى بكونه القلعة اﻷخيرة، هناك عهر ومياعة فى الشعر ستلوثه لمئة عام قادمة. مهرجانات أمريكا اللاتينية تتيح لى فرصة كبيرة للالتقاء بشعراء عرب لم أكن أحلم يوما برؤيتهم. أتابع بشغف تجارب الشعراء الشباب العرب، إنهم يطرقون مناطق جديدة.
ومع من تتواصل من الشعراء؟ وهل يوجد شعراء عرب فى نيكاراغوا؟
لا يوجد فى نيكاراغوا شعراء عرب غيرى، شاعر وسط تجار، إذ أن الجالية العربية قليلة جدا واهتماماتها تجارية أما الجالية ذات اﻷصول العربية فهى كبيرة وللأسف تنقطع العلاقة مع الوطن اﻷم بانقطاع اللغة، يبتعدون شيئا فشيئا عن الهوية العربية، هم بحاجة لجهود مضاعفة ﻹعادة اللحمة مع الهوية العربية، فمثقال يصير ميغيل ويوسف يصير خوسيه وخليل يصير خورخى، ثمة الكثير من أهل نيكاراغوا لا يعرف أن أصله عربى إلا من اسم العائلة ولديهم حنين وشعور بالوطنية نحو القضايا العربية أكثر منا نحن العرب الذين نتكلم العربية، وتراهم على رأس أى نشاط داعم لقضايانا العربية، وبينهم قلة من الشعراء أتواصل معهم أذكر منه الفلسطينية سعاد مرقص، لكن فى البلاد المجاورة أذهلنى حجم الشعراء من أصول عربية، هناك العشرات بل المئات وهم أصحاب كعب عال فى الشعر ويقودون أنشطة مهمة.
أقمت علاقات مع الكثير منهم، فى كوستاريكا يقوم الشاعر من أصول فلسطينية رودلفو حداد بتمويل نصف ميزانية مهرجان كوستاريكا للشعر العالمى ويستضيف الشعراء فى منتجعه عدة أيام وعلى نفقته، ودائمًا يدعونى بابن العم ويقول لى متى سنزور فلسطين معًا، معظم تواصلى مع شعراء لاتينيين، أقولها بصراحة: الشعر الثقيل الجيد القاتل المصقول موجود فى هذه القارة، شعرهم حار ﻷن عذابهم وألمهم عظيم، الشعر اﻷوروبى بات باردا وباهتا وبلا قضية.
هناك شاعر من اﻷورغواى اسمه خورخى بالما، اكتشفت أنه كتب الكثير لفلسطين والعراق، التقيته فى جرانادا وبعد رجوعه لوطنه امتدت الصداقة، وظل يلح على ﻷرسل له كوفية وعلمًا من خلال البريد وقد فعلت، أخجل منهم كثيرا، هناك جسور مقطوعة بيننا، يكادون لا يعرفون غير أدونيس ودرويش وقبانى، كل شاعر عربى يصل هذه القارة فهذا بمثابة اكتشاف جديد للقارة.
الشاعر المصرى أحمد الشهاوى فيه ميزة أحترمها كثيرا، ففى كل مهرجان يحضره فى هذه القارة يفتح بابا واسعا للحضور العربى بعده، تخيل أنه كان أول شاعر عربى يشارك فى مهرجان كوستاريكا، وفى السنة الثانية حجز خمسة مقاعد لشعراء عرب من أصل عشرين شاعرًا كنت أنا أحدهم، يجب أن نفكر بهذه العقلية، يجب أن نمسح الصورة القاتمة للعربى فى هذه القارة، نستطيع أن نقدم فنًا وشعرًا وليس اﻹرهاب فقط.
ثمة تساؤلات ومخاوف تطارد الشاعر.. فما هى وهل قضى المنفى عليها؟
المنفى قضى على مخاوف كثيرة وأيقظ مخاوف كانت ميتة إلى أين أنا ذاهب والعالم متشابه؟ ماذا بعد الوصول إلى إيثاكا واكتشاف خراب حياتى هنا كما هناك؟ هل سأكتفى بهذا المنفى؟ ما طعم الموت وشكله فى المنفى؟ ماذا سأقدم من رشاوى لهذا المنفى؟ أولادى هل سيبتلعهم المنفى؟ وهل سيكون لديهم سفن وخطط للعودة؟ خططى القديمة هل لا تزال صالحة لهذا المنفى؟ متى سيكف المنفى عن تعليمى القسوة؟ فأنا أرغب بالبكاء لسبب تافه كما كنت فى بلدى البعيد؟ هل الريح مناسبة لرفع مرساتى للعودة؟ بلدى تغيرت، وأنا أيضا تغيرت، فهل سنعرف بعضنا؟ نحن لا نختار البلاد، هى التى تختار، هل لنا ذنب فى ذلك؟ هل مازال بإمكانى الندم؟
_____
*وكالة أنباء الشعر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *