*أدونيس
– 1 –
أين هاجر ذلك الشجرُ الذي كان يفتح أغصانَه لجميع الطيور التي تهبط مُرهَقةً من فضاء الهجرة؟
– 2 –
بلى، عندما تُمطر السّماء
نكون قد يبِسنا…
في تلك البلاد حيث العصا قلَمٌ، والشعرُ جُرْمٌ.
وحيث الحياةُ قبورٌ وتآبين.
وحيث ينهض كلُّ شيءٍ،
احتفاءً باللاشيء.
– 3 –
نضالٌ يجمعنا كالسنابل،
ويسير أمامنا ولا نراه.
كلّما تَعِبَ،
قطع رأسَ شخصٍ وعلَّقه على جدارٍ أسود.
لهذا النّضال سماءٌ غريبةٌ حقّاً،
لا يستطيع أحدٌ أن يقرع بابها
إلاّ بتمثالٍ تحطِّمُه آلاتٌ خاصّة،
وتحوّله إلى مادّةٍ جديدة.
– 4 –
كلماتٌ تركض بين الجدران،
لكنْ سرعانَ ما تتهاوى مخنوقةً
بين يدي كاتبها.
«مَن كاتبُها؟»: سؤالٌ لا تكفُّ الجدرانُ عن طرحه.
– 5 –
نخيط جراحَنا وأيّامَنا بإبرٍ وخيوطٍ صُنِعَت
من معادنَ يبتكرها تاريخنا،
ويحرسها جناحٌ ترفرف حوله جميعُ الأجنحة.
حول هذا الجناح تتوافدُ الكلماتُ متوازيةً
غير أنّها غالباً تخرق القاعدة وتتقاطع.
يحقّ للغبار، وحده، أن يحتضنَ الأمكنة
التي يتمّ فيها هذا التّقاطع.
فوق هذا الجناح، تبدو السماءُ مجرّدَ ظلٍّ
لأصلٍ هو نفسُه مجرّدُ اسمٍ لظلٍّ خفيّ
يرفض أن يبوح باسمه.
– 6 –
كلّا، ليست الذاكرة هي وحدها التي تملأ الرأسَ بالسّجون.
– 7 –
مَن يعرف ماذا سيكون عشاءُ الطّغيان،
غداً، على المائدة العربيّة؟
– 8 –
قالت الدّموع التي سَقَطَت من أجفان الغيم، حزناً على العرَب،
إنّها لن تغسل الطّريق التي توصِلُ أهلَ الموتى
إلى مقبرة المدينة.
وقيل إنّها كانت غيوماً كريمةً وبارّة.
– 9 –
نقرأ كتباً كثيرة،
لكن لماذا لا نؤمن إلا بالكتب التي تُشعِل النّار؟
-10 –
كسر الليلُ قنديلَه
احتفاءً بصداقة الفجر،
عارفاً أنّ الظّلمةَ لم تعُدِ المشكلةَ الأولى
التي تَشْغُل عقلَ الضّوء.
ربّما لهذا بدأت النّجوم تعود من جديدٍ
وتتسكَّعُ على الأرصفة التي هجرَها الليل.
– 11 –
جلس الزّمنُ على طنفسةٍ عربيّة.
راقَ له الجلوس، حتّى أنّه يُرجِئ النّهوضَ، دائماً.
أهو الحظّ؟ أهي الشّيخوخة؟
أهو سوءُ الطّالع؟ أهي ثقافةُ الرّجوعِ الدّائمِ إلى الصّبا؟
– 12 –
قنابلُ، موائدُ ممدودةٌ فوق أوراقِ كتبٍ في اللذّة. في كلّ قنبلةٍ حشدٌ كثيفٌ من الأحلام والصّباباتِ والشهوات. حشدٌ يتموَّج بين جدرانٍ عاليةٍ. والسّلالمُ وفيرةٌ للصّعود،
وفتنةُ الصّعود لا تنطفئ.
إنّه التّاريخ العربيّ،
شحّاذٌ يتسوّلُ حتى اليدَ التي تكتبه.
ولا أشكّ في أنّ لهذا التّاريخ حارساً هو نفسه شحّاذٌ أعمى.
ربّما لهذا، حفرَتِ المخيِّلةُ حفرةً في بيت اللغةِ العربيّة،
واخْتبأَت فيها خائفةً، حائرةً،
تاركةً هذه الوصيّة:
خيرٌ لك في هذا الزّمن العربيّ
أن تربط حياتك بذيل حصانٍ اسمُه التوهُّم،
وأن تُطلِق له العِنان».
– 13 –
أنتَ أنتَ،
لكن هل تعرف حقّاً مَن أنت؟
– 14 –
جاء المُحارِبُ،
في يده اليُمنى تفّاحةٌ،
وفي يده اليُسرى رأسٌ مقطوعٌ.
يدٌ غريبةٌ ترافقُه وتربِّت على كتفيه،
فيما تبدو الغيومُ تتهيّأ هي أيضاً لكي ترافقه إلى حلبة الرّقص.
– 15 –
18 تموز 2015
مدّتْ يدُ المُخَيّلة دفتراً تحت شمسٍ لا تقدر أن تمدّ يدها لكي تصافحَ الورق. أكتبُ فيما أكادُ أن أبكي. أبكي على نفسي؟ على غيرها؟ لا أعرف.
هل أنا مُقيمٌ في مرآةٍ؟ أحرِّك يدي اليمنى. تبدو في المرآة كأنّها اليُسرى.
أخرجُ من المرآة. لكن هل بقي فيها شيءٌ منّي. ما يكون؟
تأخذني المِرآةُ في اتّجاه. تأخذني خطواتي في اتّجاهٍ آخر. أنشطر وأتجزّأ.
أين جزئي الأكبر- في بيت الأسطورة؟ في بيت الواقع؟
أوقنُ؟ أشكّ؟ لماذا؟
أخطائي تتنقّلُ حرّةً في جسمي من عضوٍ إلى آخر. من غيمة فكرٍ إلى غيمةٍ أخرى. أحاول أن أتحدّث معها. لا تريد، كما يبدو، أن تُصغي إليّ، أنا المنبوذَ، هي خارج القيد، مع أنّها تتحرّك داخلي.
كأنّ الفضاءَ يسقطُ على رأسه. أتأخّرُ عن اللحاق به. لا تقدر الشمس الآن أن تمدّ يدَها لكي تصافحَني.
مدّت يدُ المخيِّلة دفتراً – أبيض. كأنّها تسألني:
– متى تستأنف أجنحةُ الأفق طيرانَها؟
*
تزحف الحرارةُ اليوم، إلى غرفة عملي في الدّور الخامس والثلاثين (كوربفوا، برج غامبيتا، فرنسا). حرارةٌ لم تقنعْ بأقلّ من أن تكون غزواً- ربّما تيمُّناً بما يصنع «الجنّ والإنسُ في أقاليم القدس».
تحويل الورق، المُكَدَّس المُتناثر، إلى ما يشبه شرائحَ رقيقةً من الزّجاج تتفتّت حتّى باللمس،
تعطيلُ المروحة،
تَفخيخُ الماء.
وذلك في خطّةٍ مُحكَمة تصبح فيها الغرفةُ فرناً.
قلت للغرفة: صحيحٌ أنّ البحرَ بعيدٌ عنك. لكنّك عاليةٌ، ولو كنتِ في بلدٍ عربيّ لقيل عنك: إنك تُجاورين السّماء. ما خَطبُكِ إذاً؟ وما يكونُ دورُكِ؟ أين الهواء الذي تَعِدين به؟
نافذة- لا ينفذ منها غيرُ اللهَب! تبَّتْ يدا أبي لَهَب. أم أنّ فيك شيطاناً؟
الهواءُ نفسُه الذي تأتين به الآن ليس إلا جسماً سائلاً للحرارة ذاتِها.
أخذْتُ أتخيّل الجحيمَ الذي وُعِد به أهلُ الكُفر. أخذتُ، لذلك، ترويحاً وتخفيفاً، أتخيّل النّعيمَ الذي وُعِد به أهلُ الإيمان. (لماذا تُؤَنَّثُ الجحيم ويُذَكَّر النّعيم؟ لا بدّ من مُساءلة اللسان العربيّ).
«اكتبْ وصيّتَك»: همست الشّمس في أذن الهواء، كما لو أنّها تهمسُ في أذني.
شيءٌ غامضٌ ثقيلٌ يتدلّى فوق الرِّئتين.
النّهارُ يشتعل بين القدمين والفخذَيْن، اليدين والكتفين، الأذنين والعينين.
وسمعتُ الدّقائقَ تصرخ في تظاهرةٍ حاشدة: سنوقفُ حوارَنا مع الطّقس، ومع علم الأنواء.
إنّه الفضاء كمثل لوحة ضخمةٍ تتفسّخ وتحترق في نارِ حطبٍ غامضٍ يخرج من جَوفِ غابةٍ غامضةٍ تخرج من جبال تاريخ غامض.
ومن يقول إنّ اللهبَ لن يعودَ قريباً، قريباً، قريباً، في صورٍ أخرى؟
– 16 –
السماء، هذا الصّباح، 13 آب 2015، هي التي رسمَت عينيه.
كان عائداً من الشيلي- سانتياغو، إلى باريس، يقرأ كتاب الصداقة بينه وبين الغيوم التي ترافقه في السَّفَر، قريبةً إليه، تكادُ أن تلتصقَ بنافذة الطّائرة، تلك التي تصل بين وجهه والفضاء.
تأكّد له في ذلك الصّباح أنّ للهواء جَذْراً،
وأنّ للضّوء في جسده،
أكثرَ من سريرٍ وأكثر من بيت.
في الفضاء كانت الأحلام التي لا تنامُ تُعيد ترتيب خطوات الملائكة على بساط الغيوم.
– 17 –
بلى، تمرَض الكلماتُ هي أيضاً.
وبعضُها تصير عمياء، صَمّاء، بَكْماء.
– 18 –
القوسُ، اليومَ، هي التي تَبْري نفسَها.
– 19 –
بلُغةٍ عالية، ولباسٍ فقير،
ألقى الضّوءُ عِظَةَ الفجر.
– 20 –
عبَرَتْ غيمةٌ، ثمّ شردَت وتاهَتْ.
دخلَت غابةَ المطر، ولم تعُدْ.
______
*الحياة