‘أثقل من رضوى’ دراما مركبة في فن السيرة الذاتية




*ممدوح فرّاج النابي


في نهاية كتابها الأخير «أثقل من رضوى» الصادر عن دار الشروق، الذي رصدت فيه تجربة المرض المؤلمة وتنقلاتها بين مصر وواشنطن أثناء إجراء الفحوصات وتلقي العلاج، تختتم الكاتبة الراحلة رضوى عاشور كتابها برسالة في أقلّ من سطرين تتجه بها إلى القارئ العزيز حسب وصفها هكذا «هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قد قرّرنا أنّنا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا» رسالتها أشبه بدعوة إلى الحياة وغرس الأمل الذي كانت توزّعه على من يريد وعلى من لا يريد وبالتالي التغلب على الهزيمة، مثل رسالة الأمل التي تركتها في نهاية رواية الجزء الثالث من ثلاثية غرناطة وإن انتهت بقرار عليّ بطل الرّواية بعدم الرحيل والبقاء في المدينة لأنّ «في الرحيل عن الأرض موت ليس بعده حياة».
اندياح الحدود
الشواهد تقول إن رضوى عاشور وإن مزقت الحدود الأجناسية للأدب تعي حدود النوع الذي تكتب تحته، فتصرّح في أكثر من موضع قائلة «لا أحتاج في كتابة السّيرة إلى الصّريح الذي أكتبه سوى النّظر حولي وورائي وفي داخلي لأرى أو أتذكر كأنني أنقل نقلا، فالأحداث مكتوبة سلفا، وكذلك الشّخصيات والأماكن والأزمنة، ومن قال ماذا؟ وماذا حدث عندما؟ ومتى أحسست أو فكّرت في كذا؟ ربما أضيف تعليقا أو خاطرة أو بعض تأملات هنا أو هناك»، بل تجعل الفصل الواحد والعشرين عن فعل الكتابة بعنوان «مقال قصير عن الكتابة» والفصل الثالث والعشرين عن الفروقات بين الأنواع بعنوان «بين السّيرة واليوميات»، وهو وعي نقدي بالحدود لما بين الأنواع التي تخترق حدودها بالكتابة، بل في مقاطع أخرى تذهب إلى أنواع بعيدة كالكتابة النقدية عن الفنون التشكيلية، على نحو ما ذكرت في الفصل الخاص بـ«جرافيتي» وحديثها عن لوحة الجرونيكا لبيكاسو، أو ما كتبته من تحليل حول لوحة «تروبيكال أميركا» لسيكييروس، كمقدمة عن تاريخ الجرافيتي الذي هو من مستجدات الثورة.
الكتاب عبارة عن مشاهد حياتية منتقاة بعناية كبيرة وذكاء، تكشف عن معاناة الكاتبة ومحنتها في المرض، رغم أن سردها لا يشي بهذه المـعاناة، بل ثمّة سخرية من واقع الجامعة وقيادتها، وسخرية من الأمن في معاملته للشباب، أو حتى السّخرية من ذاتها، فتأتي تعبيرات دالة كما في “اتكعبلت في نفسي” أو “المطيورة أو السيدة الستينية وهي تطير ويتحوّل ثوبها إلى منطاد مؤقت”، أو تكتب هكذا “فاصل هزلي يكشف عن تمكنها من الاستجابة لرغبات القارئ”.
ومع كل هذه المداراة والتنكّر كما وصفها طبيبها بأنها «أستاذة في التنكّر»، فإن معالم المعاناة واضحة بدءا من رفض رئيس الجامعة قرار سفرها، إلى المعاناة التي عاشتها وهي تجبر تميم ابنها حين التحقت به في سكنه على تغيير عاداته التي كان يعيش عليها طوال ثلاث سنوات قضاها وهو يدرّس في إحدى جامعاتها، إلى المعاناة عند وصول زوجها مريد إليها من عمّان وما لحقه من تعب وإجهاد بسبب توقف حركة الطيران نتيجة العواصف الثلجيّة، إلى رحلة المعاناة مع الأطباء أثناء العلاج وعنادها في عدم الانصياع لقراراتهم، والأهم معاناتها وهي تسرد مسيرة النضال التي لم تسمّها بهذا الاسم وإن كانت ترى فيها أنها واجب منذ أن وقفت وهي شابة يافعة السّن لم تتجاوز الثانية والعشرين من عمرها أمام رئيس الجامعة، بعد أن نقلها إلى كلية الآداب عقابا لها على موقفها في الانتخابات وهو المشهد الذي يتكرّر على مدار رحلتها الجامعية التي بلغت أربعين عاما بصور مختلفة.
لم تكن معاناة الألم هي المعاناة الوحيدة التي عانت منها الكاتبة، بل ثمّة معاناة أخرى اضطرارية؛ فمثلما كان المرض حائلا دون التواصل مع بدايات الثورة والمشاركة فيها، لأنها كانت غائبة بفعل المرض، كان العمر الستيني عائقا للمشاركة بعد العودة بسبب عدم القدرة على الكرّ والفرّ مثل هؤلاء الشّباب، كانت المعاناة الأهم وهي التي خلّفها المرض، متمثلة في معاناة عدم القدرة على الكتابة، فقد حاولت التفاعل والمشاركة بكتابات ومقالات، لقد بدأت بكتابة بعضها عن مبارك الذي يريد أن يحرق مصر قبل أن يرحل، وأخرى عن مذبحة بورسعيد، وثالثة كانت عن الألتراس، لكن هذه المقالات لم تنشرها لأنها كانت خائفة من اكتشاف أنها غير قادرة على الكتابة».
توثيق ومقاومة
لا تخضع الكتابة إلى مقاييس السيرة الذاتية من حيث التراتب الزمني في الأحداث، بل لا تخضع في الأساس لمبدأ الحكاية، وعقدتها، وإنما تكثر من الاستطرادات التي تأتي في كثير من الأحيان لتقف عند رسالة معينة تريد أن ترسلها إلى متلقيها الذي تتوجه إليه بل وتستحضره في الحكاية عبر صيغة المروي عليه «عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة»، كما في الوقوف عند حادثة منعها من السفر من قبل رئيس جامعة عين شمس ووزير التعليم آنذاك هاني هلال، وقد تقف عند المروي عليه لتطلعه على خط سير محكيّها، فتشير إليه هكذا «قد أعود إلى الحديث عن الوزير الذي أفرج عني إن سمح السياق وقد لا أعود»، ثم تشير له إلى قفزاتها الزمنية وحالات الاستباق التي تقوم بها «مازلت في القاهرة رغم الفقرة السابقة التي قفزت فيها إلى الشهر التالي» أو عندما تصف المرض لهدى بركات بـ«عندي برتقالة في رأسي».
تتوّزع فصول الكتاب إلى ثلاثة وثلاثين فصلا أو مقطعا، ما بين واشنطن ومصر، وإن كانت أكثر الفصول عن مصر ما بعد الثورة. السمة الغالبة أن هذه المقاطع لا تحمل فقط فصولا من سيرة المرض أو حتى تتداخل مع سيرة الوطن خاصّة أيام الثورة، بل نجد فصولا أشبه بتقارير عن الجامعات والمآل الذي صارت عليه، إلى درجة أن «يصرّح بائع لإحدى صديقاتها بأنه شال الدكتورة رضوى من القسم لأنها لم توافق على نقل ابنه». وفي بعضها الآخر أشبه بوثائق تاريخية عن الأشخاص المنسيين والأماكن.
استحضارها للشخصيات ليس دافعه أنها وجدت رابطا يكمن في الحس الإنساني أو الحافز للاستمرار في الحياة، وإنما راجع إلى رسالة تقترب من سلة الأمل الذي توزعه على الجميع، فالمشترك بين أحمد الشحات وشعبان مكاوي، هو الإصرار والصمود، فمكاوي يمثل لديها رمزا للمقاومة ضد النظام الاجتماعي في صعوده إلى أعلى السّلّم الطبقي، بأن صار أستاذا جامعيا كما أراد له أخوه الأكبر، أما أحمد الشحات وهو يتسلّق العمارة التي تقبع فيها السفارة الإسرائيلية لينتزع منها العلم ويضع بدلا منه العلم المصري فإنه كان يمثل المعنى السّياسي للمقاومة والنضال، فكلاهما جسّد معاني المقاومة والتحدي التي تسعى إليها الكاتبة.
تعدّ السيرة توثيقا حيّا للأحداث الفرعية التي حدثت في الثورة، ووقع نسيانها جرّاء جلل الأحداث، وكأن رضوى عاشور كانت تخشى من لحظة الفقد أو التوهان فتضيع كل المعالم، وتنسى أسماء الشهداء، لذا فهي تؤرخ لحوادث قتلهم وأماكن جنازاتهم، وشواهدهم البسيطة.
_____
*العرب

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *