فيلم ” الحدود”.. الشجن المنسكب على أحراش الوجود




*هشام بنشاوي


خاص ( ثقافات )

“الحدود” فيلم يفيض بالمشاهد الإنسانية، وقد تفادى صناعه السقوط في المواقف الميلودرامية أو المشاهد الحوارية المجانية، فالسرد الفيلمي يقارب مفاهيم تطرق إليها مفكرين كبار، أمثال تزيفتان تودوروف الذي تحدث عن “جدران تشوه الإنسان”، تلك الجدران أو الأسلاك الشائكة التي تشيّد على الحدود، وقد عبّر صاحب “الأدب في خطر” عن ذلك قائلا إن “الجدار المناهض للمهاجرين الذي يكمن دوره في منع الفقراء من دخول الدول الغنية لكسب لقمة العيش والحياة الكريمة، إنه الجدار الأكثر إثارة، لأنه جدار قائم بين الولايات المتحدة والمكسيك، ويفصل القارة إلى جزأين”، ويجرنا هذا “الخوف من البرابرة” بتعبير تودوروف، إلى الحديث عن الآخر/ الغريب.. أو الجحيم حسب سارتر، هذا الغريب الذي ترى جوليا كريستيفا أنه ليس “اسم مستعار للحقد وللآخر. هو ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها… ولا ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن الغريب يسكننا على نحو غريب. إنه القوة الخفية لهويتنا، والفضاء الذي ينسف بيتنا، والزمن الذي يتبدد فيه وفاقنا وتعاطفنا. ونحن إذ نتعرف على الغريب فينا نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته. إن الغريب، بوصفه عرضا دالا يجعل الــ “نحن” إشكاليا وربما مستحيلا، يبدأ عندما ينشأ لدي الوعي باختلافي، وينتهي عندما نتعرف على أنفسنا جميعا وندرك أننا غرباء متمردون على الروابط والجماعات…”.
يتمحور فيلم “الحدود” للمخرج، الكاتب، المنتج والممثل الأمريكي مايكل بيري، حول الهجرة غير الشرعية، وتجري أحداثه في المنطقة الحدودية بين الولايات المتحدة والمكسيك، وهي حكاية يمكن أن تحدث في أية منطقة حدودية أخرى في العالم، حيث يسعى الفقراء الهاربون من جحيم الوطن للتسلل إلى ما يتوهمونه فردوس البلد الآخر، بحثا عن سبل حياة كريمة.
يبدأ الفيلم بمشهد تسلل مجموعة من المواطنين المكسيكيين، تحت جنح الظلام، مما كاد يعرضهم لحادث مروري من طرف شاحنة تهريب، نراهم يحاولون عبور الحدود، للوصول إلى قرية أمريكية، من أجل الاحتفال بعيد ميلاد الجدة، وفي اليوم التالي، يحاول ميغيل (مايكل بينا) عبور الحدود الأمريكية المكسيكية مع رفيقه خوسيه (ميشال راي إسكاميلا)، بعدما ودع زوجته بولينا (إيفا لانجوريا).
في الطرف الآخر، نرى أوليفيا (إيمي ماديجان)، زوجة الشريف المتقاعد والمتفرغ لشؤون المزرعة، تستعد لامتطاء صهوة حصانها، للقيام بجولة روتينية في مزرعتها المحاذية للحدود المكسيكية، وقبل ذلك نرى زوجها روي (إد هاريس) يودعها، وأثناء حديثهما تعاتبه زوجته المتسامحة في لطف عندما شتم المهاجرين المكسيكيين، ثم نتعرف على ثلاثة أصدقاء مراهقين أمريكيين، أحدهم ابن شريف المدينة الحدودية، متعصبين، مهووسين بالعنف والأسلحة النارية، ونراهم ثلاثتهم، يمارسون هواية إطلاق النار على العلب المعدنية الفارغة كالمعتاد، ويقترح أحدهم أن يصوبوا فوهات أسلحتهم النارية نحو المهاجرين غير الشرعيين، المتسللين عبر الحدود.
بعد عبور المكسيكيين للحدود، التقيا بصاحبة المزرعة الأمريكية، التي أرشدتهما إلى حيث يمكنهما العثور على عمل، وجادت عليهما بقارورة ماء تطفئ ظمأ تلك الصحراء، وأثناء حديثهما معها، صوب المراهقون في اتجاه الرفيقين المهاجرين، أخطأوا الهدف، وأصيب الحصان بالذعر عند سماع صوت إطلاق الرصاص، وسقطت السيدة من فوقه، وارتطم رأسها بحجر، وهرب الصديقان، حتى لا يتهما بجريمة قتلها، وهرب الجناة المراهقون كذلك، وعند سماع الزوج لصوت إطلاق النار، اتجه إلى مسرح الجريمة لكي يطمئن على زوجته، التي سرعان ما لفظت أنفاسها الأخيرة، دون أن تتفوه بأية كلمة، وبدأت رحلة البحث عن المتهم القاتل /سارق الخيول، كما أعلن عن ذلك على شاشة التلفزيون، واستمرت رحلة البحث عن الحقيقة حتى نهاية الفيلم، دون أن يسقط في فخ الصراع الكلاسيكي، حيث أنه صوّر الرجال المكسيكيين الثلاثة يحتالون على أبناء بلدهم، عندما قررت بولينا البحث عن زوجها في المدينة الأمريكية، فاختارت درب الهجرة السرية، للحاق بزوجها المتهم بجريمة قتل، ورأينا الوسيط المكسيكي، يقوم باختطافهم في مرآب بيت أمريكي، ويمعن في إذلالهم عند قيامه بتجريدهم من ملابسهم، وطلب فدية من ذويهم، وقبل ذلك مارس وسطاء التهريب باغتصاب جماعي للزوجة الشابة، وكان ذلك سببا في إجهاضها.
بعد رحلة بحث مليئة بالمواقف الإنسانية، ينتصر الفيلم للحقيقة، وللحق، عندما رفض الشريف المتقاعد التنازل عن حق زوجته، والعفو عن ابن صديقه المتهم بقتلها، وتلفيق التهمة لمهاجر سري، فلم يكتف بالاتهامات الرسمية، بل سعى بنفسه للبحث عن الحقيقة، وكله ثقة أن هذا القادم الغريب الفقير، لم يأت ليقتل، بل جاء يبحث عن سبل حياة أفضل، وكل جرمه أنه تسلل إلى أمريكا بطريقة غير شرعية. وفي النهاية، نرى صاحب المزرعة يتفق مع الشاب المكسيكي على ترميم السياج الحدودي لمزرعته، والاتفاق على اللقاء كل خميس، ومن قبل، رأيناه يقوم بنقل بولينا على سيارته حتى بيت أسرتها، بعد الإفراج عنها، وهو الذي رأيناه في بداية الفيلم متعصبا، ولا يحب المهاجرين، وفي ختام مشهد آسر يحبس الأنفاس يضع صاحب المزرعة فوهة مسدسه على رأس القناص الأمريكي المتعصب، الذي يطلق النار على المهاجرين غير الشرعيين، في اللحظة، التي نرى زوجته وصهره ينتظرانه في سيارتهما المتهالكة في منتصف الطريق، وحماته ترنو من الشباك نحو المجهول في قلق، وقبالتها الصبية التي توقفت، فجأة، عن اللعب، يضع فوهة المسدس على رأس القناص، قبل أن يطلق النار على ميغيل، الذي كان قد بدأ يذوب في عمق الكادر، ثم تتصاعد تترات الفيلم، دون أن نعرف مصير هذا الأمريكي المتعصب.
نجح الفيلم في تصوير حياة من يعيشون على حافة الحياة، على هامش العالم، كما برع في تصوير الطريق إلى الفردوس، حيث أحراش الصحراء، والنفايات والهياكل العظمية للحيوانات النافقة، والأطلال، ولا ننسى الموسيقى التصويرية الشجية، حيث تضرم أنغام الجيتار النار في حطب شجننا الأندلسي، ويندلع هذا الحريق أكثر عندما نتأكد أن ملامح هؤلاء المكسيكيين الفقراء تشبه ملامحنا، وحزنهم الشفيف يشبه حزننا.. هؤلاء اللاتينيون إخوتنا التاريخيون.
_______
*كاتب من المغرب 

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *