سامر محمد إسماعيل
ثلاثة عشر ولداً للرجل السبعيني الذي يجرّ كرسيه المدولب؛ متكلماً عبر الهاتف مع ابنه الأرجنتيني وابنته السويدية، وحفيده الكولومبي! فيما آخرون منهم توزعوا في بلاد الدنيا الواسعة؛ محاطاً بصناديق إعاشة الأمم المتحدة، ومفتاح بيته في (صفورية) وصور شهداء الانتفاضة؛ ففي مونودراما «تغريدة أبو السلام» (*) يبدو الزمن الفلسطيني على لسان الفنان (عبد الرحمن أبو القاسم) خارجاً من مخيمات اللجوء إلى خريطة التشرد الجديدة؛ حيث ضيّعت خريطة الربيع العربي (لأبي السلام) آخر أمل يذكر بحق العودة إلى بلاده.
مونودراما لخطبة شخصية كتبها وأخرجها داود أبو شقرة لصالح («المسرح الوطني الفلسطيني»)؛ بالتعاون مع «مديرية المسارح والموسيقى»؛ معتمداً في كتابتها على مرويات المخيم الفلسطيني وهجراته المتجددة؛ حيث تتصادى صرخات العجوز (أبو السلام) مع هجرات أبنائه فوق قارعة المنافي عبر مكالمات هاتفية تأتيه من أبنائه؛ بعد أن تركوه واحداً تلو الآخر؛ على خلفية هجرات جماعية جرّفت مخيمات حمص وحندرات بحلب واليرموك وجرمانا بدمشق وخان الشيح والوافدين بريفها؛ منهيةً بذلك (فصل المؤامرة على مخيمات اللجوء الفلسطينية) كما يصفها (أبو القاسم) على لسان شخصيته في العرض.
تلغي المونودراما هنا دور المُخاطَب الغائب؛ لتستحضر شعباً بل شعوباً بأكملها؛ فيرفض (أبو السلام) دعوة أبنائه له بالمغادرة؛ معتبراً هذا الفعل مشتقاً من مصدره في اللغة العربية: (غدر) فلا يغدر العجوز الفلسطيني المُقعد ببطاقة لجوئه التي تصله بأمل الرجوع إلى بيته في الأراضي المحتلة منذ العام 1948؛ مواصلاً إخبار الجمهور بلهجته المحببة عن خفايا «المؤامرة» التي جرت وما زالت حول إفراغ المخيمات من سكانها، من خلال ما يسمى «كوريدور» ـ ممر إنساني تؤمنه فرق الأمم المتحدة لمن يريد الخروج من هذه المخيمات.
تبدو المباشرة واضحة في مونولوجية «أبو السلام» إذ تكرر صيحاتها من دون إيجاد حلول تدعم عمله كممثل وحيد على الخشبة، باستثناء موسيقى مرافقة ـ ( صممها حسن نازك)؛ لا تلبث أن تصير هي الأخرى مقطوعات تصويرية تعبوية؛ أكثر منها في بنية العرض المسرحي ـ الذي رغم نواياه الطيبة، ظل بعيداً عن إيجاد معادل لمونولوج مطوّل، كان في جزء كبير منه عبر هواتف تكررت بلا طائل من أبناء «أبي السلام» في مغترباتهم الجديدة، من دون القدرة على التنويع على الفعل المسرحي؛ وتوظيفه لصالح الشخصية التي بذل الفنان (أبو القاسم) جهداً كبيراً في استنطاقها واستصراخ مواجعها وخيباتها الجماعية.
(التغريدة) تكيل الشتائم تلو الشتائم أيضاً للقوى الراديكالية التي ركبت على ظهر الكفاح الفلسطيني؛ محيلةً البندقية من مواجهة العدوّ إلى مواجهة الأشقاء لبعضهم البعض؛ ليترك العرض الباب مفتوحاً على تساؤلات المصير الفلسطيني في زمن الثورات العربية، وقدرة هذه الأخيرة على تعليل ما يحدث للمخيمات الفلسطينية في بلاد الشتات؛ حيث يوجه (أبو السلام) صرخته الشخصية وفق سينوغرافيا لافتة صاغها الفنان محمود خليلي مخاطباً الجميع: (عندما تصبحون ألمان وسويديين وبرازيليين وإسبان ماذا سيتبقى من حق العودة)؟ سؤال يتركه جيل النكبة لجيل اللجوء من عبيد الحياة الأوروبية وأغاني الراب الأميركي؛ من دون أن ينسى الإشارة لمن بقي في مخيماته؛ رافضاً تركها لفرق الموت السوداء.
تبقى «تغريدة أبو السلام» مواجهة مع الذات الفلسطينية والعربية؛ وقراءة معاصرة لا تخلو من نبرة تحريضية وتعبوية؛ وضعف واضح في تمكين الممثل من تلوين أفعاله وأدواته؛ فالفقر في الحلول الإخراجية؛ جعل من الهاتف النقال في يد الممثل أداة شبه يتيمة لتكرارات أفسدت على الممثل حضوره العالي على خشبة الفرجة.
السفير