مريم الساعدي*
عندما احتلوا فلسطين في الأربعينيات من القرن الماضي، لم نكن قد ولدنا بعد، عرفنا عن الأيام الأولى للاغتصاب من كتب المدرسة، ورأينا مشاهد مهزوزة في وثائقيات تلفزيونية أبيض وأسود قديمة، صوراً غير واضحة لأناس كثيرين يسيرون في جماعات يجرّون أطفالاً صغاراً، ويحملون فوق رؤوسهم صُرراً فيها ما استطاعوا حمله من أغراض، كانوا يسيرون كمن ينجو بحياته إلى الجهة الأخرى حتى تنتهي كل الفوضى، ويعودوا لديارهم. لكنهم لم يعودوا. انتظروا كثيرا، ثم استلزم منهم الأمر وقتاً طويلاً حتى يقبلوا صفة «لاجئين» في أركان الأرض، ثم صارت هوية. كان مصطلح «جيل النكبة» يشير إلى هؤلاء الناس الأوائل، الرؤوس الأولى التي وقعت عليها صدمة ضياع وطن، لكنه ظل بالنسبة لنا ـ نحن المتعاطفين من بعيد ـ مجرد مصطلح لغوي، لأننا لم نر وجوه الفلسطينيين الأوائل، لم نتعايش معهم، لم نحتك بهم في مفردات حياتنا اليومية، رأيناهم لاحقاً، بعد أجيال، حين صارت النكبة طابع حياة، ولم يكن الأمر نفسه؛ كنا قد تعودنا، مثل طفل يولد لأب مشلول إثر حادث، فيظن أن أباه كان مشلولاً طوال عمره.
في سوريا، هذه الأيام، نحن نرى «جيل النكبة» السوري، والآن نعرف، ماذا يعني هذا المصطلح. أي نكبة هي، وأي مصيبة أن تفقد وطن!. هل هناك أسوأ من هذا؟ كنت أظن أن الإصابة بالسرطان هي أسوأ ما يمكن أن يحصل لإنسان. أن يذهب لإجراء فحص عادي، فيخرج له وجه طبيب متردد، وهو يمسك بورقة الفحص، ويقول ناكساً رأسه «هناك شيء في التحليل» فيعرف الإنسان أن نكبة السرطان قد حلت على حياته، كنت أظن هذه أسوأ ما يمكن أن يحصل على الإطلاق، حتى رأيت السوريين بيننا، بعد أن تمزق كبد الوطن. إنهم هم، ذات الأشكال، بالوجوه نفسها، والعبارات الصباحية والمسائية نفسها، يمارسون الحياة ظاهرياً، لكن هناك شيئاً فيهم، أقصد شيئاً مختلفاً، شيئاً عميقاً، شيئاً ينبئ عن ألم حاد أقوى من احتمال الإنسان، وعليه رغم ذلك أن يعيش به، كالمطعون بخنجر في قلبه، وعليه أن يسير به. يستيقظ بخنجره، يرتدي ملابسه، يذهب للعمل، يحادث الناس، ويبدو مهذباً طيباً، ويمكن حتى أن يبتسم ويضحك، ويمارس الطقوس البشرية المعتادة نفسها، والخنجر مغروز في قلبه.
حين وقفت تلك السيدة السورية الوقورة لترقص دامعة على أنغام أغنية «يامال الشام» في أمسية ثقافية، لم يكن ما يحركها الطرب، بل الوجع والحنين. سمعتُ عن «الطير الذي يرقص مذبوحاً من الألم» لكن من سمع ليس كمن رأى، ومن رأى وأحس وعرف عليه أن يسير في الحياة ضامّاً كفّه على قلبه كي لا يسقط من الوجع.
أين يذهب السوري الآن؟ يجد أبواب تُفتح له في بلاد الثلج والليل الطويل، لكنه يريد شمساً، ويريد نخيلاً، ويريد رائحة دمشق، وتراب الوطن، وحجر الطرقات، ورائحة الجدران، ووجه أمه. من يجلب له كل هذا؟ وكيف يمكن أن يشحنه في طائرة تأخذه إلى البعيد، لتدخله بترتيب في القاموس اللغوي الجديد إلى خانة اللجوء.
الأوطان ليس مصطلحاً جغرافياً، إنها قلب الإنسان. كيف يعيش الإنسان دون قلبه؟
* أديبة من الإمارات
الاتحاد