*حنين نعامنة
اليوم عيد ميلادي الثلاثين. ستتصل أمي كما في كل عام لتعايد علي، وحتماً ستكرر اعتذارها لأنها لم تلدني في تاريخ آخر أقل كآبة من يوم النّكبة. مع الوقت تعلّمتُ أن أردّ عليها بأن اللوائح الفلسطينية برمّتها نكبات، فترد “المهم الله اعطاني إياكي”. ثنائية الله والأمهات التي لا يبطل سحرها في أي مناسبة وتحت أي ظرف تلغي النكبة لدقائق وتدفع بها إلى مؤخرة الذاكرة، صائغة ما أعدّه ذروة ذلك اليوم، لأتدرّج بعدها إلى هاوية من الكآبة.
لا تفرق افتعالية أعياد الميلاد عن المناسبات الوطنية بشيء، إذ أنها باتت للبعض ــ وأرجّح أننا كثر ــ فرضاً اجتماعياً ووطنياً يملي نمط استذكار وفقاً لمشاعر جاهزة من الفرح في الأولى والحزن في الثانية. لم أتحقق من تاريخ كلّ منهما حالي مع شغف تقصي الأشياء كلها. يكفي أن موعد ولادة أي شيء (أو موته أحياناً) هو وليد الصدفة المحض. تاريخياً، هو اليوم التالي لانتهاء الانتداب البريطاني في أرض فلسطين وفقاً لتقسيمات “سايكس بيكو” وإعلان المنظمات الصّهيونيّة قيام دولة إسرائيل. حدث يطلقون عليه هُمْ “يوم الاستقلال”، وهو أصلاً متغيّر بحسب التّقويم العبري ولا يتفق أن يتزامن مع الخامس عشر من أيار (مايو) إلا مرة كل تسعة عشر عاماً.
كتابة الكارثة
بعيداً عن كل هذا العناء الفلسفي في التكبّر على الصدفة إياها، بل ورميها إلى خارج التاريخ.. ففي كل عام وأنا ألتهم كعكة عيد ميلادي، رغم ما تكون قد خزنته رئتايّ في الأسابيع السابقة من دخاخين شواء ورماد ألعاب نارية تملأ الهواء المحتفي باستقلالهم أينما يممت نَفَسك، كنت أتعقب تبدُل تضاريس النكبة في داخلي كمن يتفرج على ألبوم طفولته بعناية مفرطة. لا شيء يمحو الصورة الأولى للنكبة: الناس وهي تحمل ثيابها وأثاثها وأهلها على ظهورها وتلوذ إلى وجهة غير مسماة تمسكاً بالحياة التي بطش بها هؤلاء. هؤلاء الذين ما نزال – نحن دون غيرنا – نعيش بينهم ومعهم طليقي اللسان مكبلي الأفق. بيد أني أجد نفسي أتقرب كل عام من النكبة المنكبّة على الحياة في داخلي، حيث أكتشف مدى عيشنا “تحت رقابة الكارثة” وهي “التي تحيط الأشياء جميعها بعنايتها” كما يقول موريس بلانشو، أو بوصف الجدّات “ما بتخلّي حدا من شرّها”. إنها هناك تقْعي في ركنيّ القلب والعقل كأنما لا تَهرم فيما نعدّ سنيننا على مهل.
كيف نكتب (ونحكي) عن الكارثة دون أن نموت؟ دون أعضاء مبتورة أو أخرى تالفة؟ كيف نحكي عن حياتها فينا وعبرنا نحن الأحياء الذين نعيش في صلبها بتفاصيل حياتية رتيبة تحدد في النهاية ــ أسوة بكل البشرية ــ خياراتنا الإنسانية اليومية التي لا غنى عنها؟ ليس سؤال الكتابة ترفاً الآن ولا في أي وقت، إذ أن عدم القدرة على الوصول إلى هذه التفاصيل وبالتالي عدم القدرة عن التعبير عنها، هو واحد من أهم سمّات العيش تحت سلطة النكبة لجيل لم يعشها.
الكتابة عن فلسطين هي بالضرورة كتابة عن العنف، ولا يمكن الفرار من ذلك ولو كنتَ نفسك مسالماً أو تحاول. وذلك بوصفنا نعيش في ظل منظومة يُعدُّ “الإدمان على العنف”، وليس العنف بذاته فحسب، مركّباً أساسياً في قوامها، كما أشار فايز صايغ، مؤسس مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية بأبحاثه حول المركّبات الاستعمارية للصهيونية في فلسطين في أواسط الستينيات، سابقاً بكثير التنظير الحالي لنظريات الاستعمار الاستيطاني وما بعده. مرّ أكثر من نصف قرن والإدمان على حاله، فيما ازدادت صيغ عنف جديدة تحمل سمّة التورية إلى جانب ــ أو بدل ــ العنف المباشر من قتل وهدم وحبس وترهيب، وهذه متفشية بيننا وفينا بدرجات محْكمة ودقيقة إلى أبعد حدّ، بطبيعة كونها عنصراً أساسياً في خياراتنا اليومية كأفراد وكمجتمع قائم في قلب مجتمع استعماري.
المواطنة امتداداً للنكبة
يحيا الفلسطينيون من حمَلة الجواز الإسرائيلي (بغالبيتنا)، في العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل، في وضع معيشي وحياتي أفضل من غيره على صعيد فلسطين المحتلة، ووفقاً لكثر، على صعيد العالم العربي بمجمله أيضاً، وإن كان لا يمكن فصله عن الثمن المقرون به من خراب المجتمع الفلسطيني وتفتيته من الداخل. ويشكل هذا التصنيف فاتحة لفهم تهاوي اللغة ــ المقضومة أصلاً بفعل استشراء اللغة العبرية ــ في شرح معنى العيش في فلسطين وفي الوقت ذاته خارجها.
اتّبعتْ إسرائيل سياسة “امتيازات” عملت على تصنيفنا فلسطينياً في قاع سلم الاحتلال، أي بكوننا الأقل معاناة من الاحتلال. ودرجت تسميتنا بين فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة بعرب الـ “شمينت”، وهو منتوج وطني اسرائيلي شبيه باللبن، وذلك للتدليل على الخنوع للاحتلال. فعلياً لا تُستقى هذه الامتيازات من كوننا نوعا آخر من الفلسطينيين، وإنما من المواطنة الإسرائيلية التي فُرضت كشرط للبقاء في البلاد. ويشكل هذا الفرض اللبنة الأولى في فهم المواطَنة كتكنولوجيا استعمارية متقدمة ــ وهي بالمناسبة ليست حصرية لإسرائيل ولا للفلسطينيين ــ إذ تعمل على ضمّ الناس تحت سلطتها من أجل إقصائهم عبر قوانينها عن امتدادهم التاريخي والسياسي بالأرض وما تحمله من مادة وثقافة وتاريخ وخواص اجتماعية.
تكمن كارثية المواطَنة الاستعمارية بكونها فعلا عنيفا يوميا تمارسه أنت ذاتك لكي تعيش: تتعلم وتعمل وتتزوج وتبني أو تستأجر بيتاً وتنجب وتمرض وتهرم وتموت في داخلها ووفق آلياتها. هي بذلك تصيغ بشبكتها الواسعة والمتناقَلة من جيل إلى آخر، خياراتنا وعدمها، على مختلف المستويات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وعادة ما تغفل التنظيرات المناهضة لخطاب المواطَنة أو المساندة له عن هذه الحقيقة، فتقفز عن واقع كونها ناتجة في النهاية عن مجموع أفعالنا وتردداتها في الحياة اليومية. تلجأ التنظيرات إلى تصنيف الفلسطيني “المواطن” وفق معايير جزئية، أبرزها المشاركة السياسية والخطاب المتماهي مع الهوية الاسرائيلية، في حين تشكل هذه حلقة من سلسلة متراكمة لا تقتصر على الفرد وعلى جيله وحسب.
ولا ينفصل تغليب الحاضر على الماضي في مجمل حياتنا اليومية الآنية عمّا أشار إليه المؤرخ إريك هوبزباوم في كتابه “عصر التطرفات”، كواحد من أبرز الظواهر المخيفة لأواخر القرن العشرين: “تدمير الماضي أو بالأحرى الآليات الاجتماعية التي تربط تجربة المرء المعاصرة بتجربة أجيال أسبق، بحيث أن معظم الأجيال الشابة في نهاية القرن، تنشأ في شكل من أشكال الحاضر الدائم الذي يفتقر إلى أي صلة عضوية بالماضي العام للأزمنة التي يعيشونها”. وقد أتى خراب الماضي الفلسطيني على الحاضر بتحويله مكاناً معزولاً عن النكبة وعن صورها الأولى التي تتيح لنا التواصل معها كحدث معاش.
يطال الخراب اللغة بالضرورة لتقتصر بغالبيتها على مفردات من معجم الواقع الاستعماري (أحياناً كثيرة بلغته أو بترجمة حرفية عنه)، متمثلاً بمفردات العنصرية والتمييز والمسّ بالحقوق وعدم المساواة، مسْندة باحصائيات وتقارير وتصنيفات وليدة حاضر نادراً ما يتقاطع مع الماضي. وتحمل هذه المفردات منها وفيها ادعاءات تاريخية تُمعن في القطيعة مع النكبة، كما أنها باتت اللغة السائدة في المنابر كلها بغض النظر عن وجهاتها السياسية: بدءاً بالفرد مروراً بالإعلام العربي والمحلي، ولا تنتهي عند منصات اليسار الاسرائيلي أو محاكمه. أكثر من ذلك، فإن هذه اللغة تمحو التجربة الانسانية العميقة التي يمرّ بها الفرد في مستهل يومه، وتراكمية وجود الاحتلال في حيزه الشخصي والعام، لتصبح مهمة الجيل القائم مرتبكة ومربكة، وأميّل إلى كونها تضامنية، وكأنه ليس من لدن القضية.. أو كأنه بحياته “الرغيدة” هذه قد نجا حقاً من الكارثة.
في انتظار المئوية؟
لم تخرج جدتي لأبي المولودة عام 1931 لتستذكر النكبة في مسيرات في الخامس عشر من أيار في العام 1949 ولا في كل الأعوام اللاحقة له ولغاية وفاتها العام 1996. لم يثقل كاهلها همّ التذكر أو النسيان، ولا أتذكر حتى إن كانت قد أخبرتنا يوماً عن 1948.. هل كانت تعرف أن اسم تلك السنة بات عام النكبة؟ قضت جدتي عمرها في دكانها الصغير، تنتظر شاحنة تنوفا ـ وهي الشركة الوطنية الإسرائيلية لمنتجات الحليب ـ لتحمل لها الحليب والشمينت إياه.. وحين تصل الأخيرة كان صوتها يعلو من قلب الدكان “أجا تنوفا.. نادي على سيدك ييجي يشوفو”. امتدت ذاكرة التنوفا إليّ أنا حفيدتها لأتذكر جدتي كلما مرّت من أمامي شاحنة تنوفا أو رأيت علب الحليب بطبعتها القديمة. لم تكن جدتي “شمينت”.
طيب، هل أنا “شمينت”؟ الأُلفة مع اللغة العبرية التي تملأ كل الأمكنة. جملة “بوكر طوف يسرائيل” (صباح الخير يا اسرائيل) التي كلما رنّت تعود معها ساعات الصباح الكسولة ونحن نفطر بسرعة قبل الذهاب إلى المدرسة الابتدائية، وراديو اسرائيل يلعلع بأعلى صوته يسابقنا على الفطور لأنه كان الراديو الوحيد آنذاك.
الشغف بأكواز الصنوبر الذي حملته منذ الصغر فيما كنا نلعب بالأحراش التي بناها “الصندوق القومي الإسرائيلي” على أنقاض قرى فلسطينية منكوبة. دافيد، صاحب دكان الملابس بالجملة في حيفا الذي كنت أنتظر المشوار الشهري لامرأة عمي للتبضع من عنده لدكانها لأنه كان يعطيني الحلوى.. فرطت المسبحة.
كتابة لا هُوّة فيها، لا هويّة لها.. كتب أدونيس. سؤالا الهوية والذاكرة ليسا مفصولين أبداً عن هذه الهوّة العميقة في داخل كل فرد فينا والتي يجب أن تجد طريقها إلى كتاباتنا وكافة طرق تعبيرنا عن فلسطين. ليست هناك لغة جاهزة للحديث عن النكبة، وخلقها هو فعل أساسي في إبقاء النكبة حيّة كحدث لا يتبع للماضي فقط وإنما للحاضر. وذلك دون التخلي عن النقد الذاتي البنّاء الذي يجب أن يظل حجر زاوية في تناول أزمات الهويات وانفصاماتها والبحث عن مخارج حقيقية لها.
لم يكن بالإمكان تفادي التفكير بمئوية النكبة وقد حلّت مئوية مذبحة الأرمن الشهر الماضي، بكل ما رافقها من حشد اعلامي فتح أراشيفها ونكأ جراحها. هوس العالم باليوبيلات لايفاء حق الشعوب التي تعيش تحت سلطة الكارثة ـ وكأن الكوارث تنتهي بانتهاء المراسيم ـ هو ترف ليس يعنينا ونحن في قلب النكبة وهي في قلبنا. النكبات لا تحتاج لمئويات.. فهي الآن ههنا معمّرة فينا.
_________
* محامية وكاتبة فلسطينية
* السفير